الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 22nd August,2005 العدد : 119

الأثنين 17 ,رجب 1426

مع البواردي داخل استراحة صومعة فكره
النقد مفتاح العطاء ورشيم الإبداع، ولم تتضخم الآداب إلا على حساب النقد وضموره ولعل كلمة نقدية تفتح بوابة إلى غابة من إبداع أو إلى منجم من عطاء.
الأستاذ سعد البواردي صاحب الأفكار المضغوطة في مجلة الحرس الوطني يطل على عالم النقد في جريدة الجزيرة يوم الاثنين 23 ربيع الأول 1426هـ، ولم يعلمني صديقي المشترك في الجزيرة إلا بعد حين حيث إنني قرأت المقال فتبسمت.
إنني أعرف الأستاذ البواردي في الصحف وألمس غيرته على أمته بأسلوب يخرج عن النمطية والجمود إلى التجديد، وفي هذا التجديد شيء من الإضاءات..
هذه المرة لا يخص الأفكار المضغوطة بل يخص ديواني (وعاد القبطان)، فمقاله تحية ورد التحية واجب وإن لم يكن هذا الرد فور صدور المقال.
وهذا المقال النقدي واضح أنه صياغة شاعر يقول في المقدمة: (الشاعر الخاني جسَّد لنا الصورة الشعرية في شكل قصة لا توزعها عناوين، ولا تقيدها قفلة واحدة وإنما من خلال خطاب شعري وجداني..
فكلام البواردي هنا صحيح، وربما كان أسلوبه في هذا السياق نقداً مقنّعاً، وهو نقد مهذب إلى حد كبير وكأنه يقول: لماذا لا يوجد في قصتك الشعرية عناوين؟
الأستاذ البواردي لم يصادر آراء الآخرين بأسلوب مكشوف، وإنما أبدى رأيه بأسلوب أدبي فني جميل فيه الكثير من الشفافية، وكذلك أبدى رأيه بالقوافي لو أنعم القارئ النظر بهذه العبارة: (ولا تقيدها قفلة واحدة). وهذا أيضاً صحيح، فالقصيدة القصة صيغت على شكل رباعيات والغريب أن يبدأ ناقدنا تقديم النماذج متجاوزاً المطلع:
شب فادي على شواطئ بحر
ليِّن الموج لم يعنّف بصخر
فبدأ من الرباعية الثانية حيث قدم:
جاء فادي إلى الوجود وئيدا
بعد سبع من البنات وحيدا
فبكى الوالد الحنون دموعاً
أورقت عمْر كهلها الموؤودا
وسقته الربيع بعد شتاء
أزهر الجذع نوره المنشودا
أثمرت زهرة الحياة بقلب
وهب الروح طفله المولودا
يعلق الأستاذ البواردي قائلاً: (الضمير هنا يعود إلى دموعه لا إليه، إن لم يكن لأم الوليد الذي استبشرت به احتضاناً وتحناناً). وإن فهم الأستاذ البواردي لسليم واستنتاجه لصحيح، فالضمير في (أورقت) يعود إلى الدموع ولو عاد إلى غير الدموع إلى فادي أو إلى أمه لفسدت الصورة الشعرية.
ثم أورد الرباعية التالية واستنباطاتها:
لزم الشيخ مهد فادي حنينا
عاد صوت من الخشونة لينا
جاءت كلمات خطابه له مشحونة بكل تعابير اللهفة والفرح.
يا حبيبي لأنت روحي تناغي
يا وجودي حركت فيَّ السكونا
نور قلبي إذا ضحكت فروحي
علِّمت لذة السرور فنونا
يا امتدادي لئن شكوت فإني
شمت حتفي ومات قلبي ظنونا
الامتداد حيث مربط الفرس كما يقول المثل، فادي بدأ يتكلم، بابا.. ماما، مفردة دونها مناغاة كل كناري..
صُبْحُ فادي مع الكنار يناغي
أنت روحي أما نفحت فراغي؟
خط شيبي، كأن رأسي نهار
عاد ليلاً وبعد طول صباغ
شيء من المبالغة في التوصيف، فالرأس المشيب المشتعل بشيبه لا يعود إليه السواد، ومع هذا يظل قلبه المسكون بالحزن هو الذي طاله بياض الفرح، ليل انتظاره تحول إلى نهار حمل شعلته فادي لحظة إطلالته.
ويسير ناقدنا مع القصة يتتبعها خطوة خطوة ملماً بجزئياتها
طفله فادي بدأ يحبو، ماذا تعلم من مناغاة طفله؟
هل كانت مناجاة متقدمة يتعذر عليها الإفصاح؟
ومناغاة نجله علمتنا
في أصيل من المن كيف يصبو
ولا أدري كيف سوغ لناقدنا أن يقول: (نجله هنا للمجهول، لماذا أهي ضرورة قافية الشعر؟ يبدو أنها كذلك!!. كيف تكون لفظة (نجله) للمجهول؟ وهو يتكلم عن الشيخ وعن طفله؟ ثم كيف تكون هذه اللفظة الكلمة الثانية في صدر البيت ثم تكون ضرورة القافية؟!
والأعجب من هذا قوله: (البحر استبان لدينا فجأة دون مقدمات، يبدو أن خياله انتقل به نحو صفحة الماء في حوار لم يتم الاستعداد ولا الإعداد له:
عدت يا بحر إن هذا وليدي
أيها البحر عاد قلب وحب
يا أستاذ سعد: يحفظك الله، أما رأيت الرباعية الأولى في الديوان؟ هي في الصحيفة الثانية وإليكها، وإن عدت إلى الديوان وجدتها كما أقدمها إليك الآن لأنني أنقلها إليك من الديوان نفسه ومن طبعته نفسها حيث قلت:
شب فادي على شواطئ بحر
لين الموج لم يعنّف بصخر
يتهادى برمله كعذارى
ساحبات الذبول دلاً بعطر
باسمات لكل نسمة حب
يتهامسن، لم يجن بسرِّ
شب فادي على النضارة يزهى
مَنْ كفادي؟ وهل يعدُّ لأمر؟
لعل لك عذراً يا أستاذ سعد، وإن لم تجد فأنا أوجد لك أعذاراً وإنها لنجوى ممتعة أن نسير مع المقال.
يقول ناقدنا البواردي يحفظه الله: (بطل القصة قتل القرش في البحر وقتل الأخطبوط). ويعد ناقدنا هذه الإنجازات من فارس القصة خرافية ولا معقولة ولا يقوى على رسمها غير الشعراء، وهذا الكلام ثناء لا أستطيع أن أوفيه حقه من الشكر ولقد سبقني سميي أحمد شوقي إلى هذا العالم المسحور فقال:
أروي لكم خرافهْ
في غاية اللطافهْ
وهذه الخرافة ليست في ديوانه، هذه من شعر شوقي المفقود. والأستاذ البواردي فَكِه في نقده المفوف بظلال خفة الدم حيث يورد بيت الشعر من القصيدة:
يبسم البدر فالوجود نهار
يتهادى وضوؤه من لجين
ثم يقول معلقاً:
(البدر لا يبسم في النهار، وإنما يحتجب أمام إشراقة الشمس، ابتسامته دائماً ليلاً، لندعه يبتسم هذه المرة من أجل خاطر شاعرنا الخاني).
يا سلام يا أستاذ سعد من أجل خاطري جعلت البدر يبتسم في النهار؟ جبر الله خاطرك وإن كان استنباطك معجمياً وما رأيك بهذا البيت:
واستقبلت قمر السماء بوجهها
فأرتني القمرين في وقت معاً
هل تقول: إن صاحب هذا الشعر لديه لوثة عقلية؟ لأنه من غير الواقعي أن يظهر القمران معاً.
عذراً سميي أبا الطيب إن ناقدنا سينطلق من العقلانية والواقعية.
وما رأيك يا أستاذ سعد بهذا البيت؟:
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا
إلا بوجه ليس فيه حياء
(يبسم البدر) شبه الطفل بالبدر حذفه وأبقى على شيء من لوازمه (قرينة) الابتسام فالاستعارة تصريحية. (الوجود نهار) تشبيه بليغ الليل في ضوء القمر يشبه النهار في وضوح الرؤية. (يتهادى وضوؤه من لجين) اللجين كما في القاموس هي الفضة.
فمن أين استنبط ناقدنا النهار؟
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل
ما هكذا تورد يا سعد الإبل
على أن ناقدنا يتألق حين استشف بشفافية رفافة هذه الومضة التي انقدحت في ذهنه حيث قال: (فالبدر والشمس كلاهما مصدر ضوء وإشراقة حياة وأمل).
ويظهر أن المعنى أشكل في هذا البيت على ناقدنا:
تلك صحبي جزيرة فهنيا
يا شراعي ألا تميل بطيا
يقول البواردي: (في مقدوره أن يصحح هذا الخطأ المغير للصورة بتصحيح بسيط مفاده (أن لا تميل بطيا يستقيم المعنى)، أقول لناقدنا الكريم: لماذا سمي الميناء؟ الجواب: لأن حركة السفينة تني أي تضعف حتى تتوقف ولهذا قال من تنتقده: (ألا تميل بطيا) نحو الميناء.. إلى شاطئ الجزيرة حتى تتوقف السفينة وننزل ونرتاح. أظن أن المعنى وضح إليك الآن.
على أن لناقدنا اجتهادات واستنباطات عجيبة غريبة منها فهمه من هذا البيت:
واضبطوا النفس والتجني عليها
لا تمسوا إذا رأيتم جنيها
فبعض الحشرات تلمع بمنظرها الجميل فإذا تناولتها اليد لدغتها ومن هذا النوع أسروع مثل السوار الذهبي وهو قاتل، فكيف كان تعليق ناقدنا على ذلك البيت؟ قال:
(وربما أيضاً ليختص الجنيهات لنفسه).
سعد: ما هذه الفتافيت؟! وبتكتيك معين للحركة النقدية في هذا المقال يقول: (وفي حوار مهتز وضعيف جامد الفكرة يدور حوار بين بعض رفاقه (زيّا) و (عالي) و (حمران) و(دامي) تبدو الصورة باهتة (ثم يورد من الشعر رباعية مبتورة المطلع والبيت الثالث يؤكد للقارئ أن هذه الرباعية مهتزة وضعيفة وجامدة.. وسأوردها كاملة والقارئ الحكم:
قال دامي: أأنتم الأكفاء
في صراعي كأنكم أعداء
في غد.. كنز حظنا يتبدّى
سوف تندى بظله الأفياء
وسيزهر في الربا كل بشر
سوف تزهى بروضنا الأضواء
وسيغدو تراب أرضي تبرأ
وستمحى من أرضنا الغوغاء
ثم يذكر ناقدنا عودة الرحلة من العالم الجديد بشيء من الهدوء وكأنه لا شعورياً رجع عن كلامه عن الحوار بأنه مهتز وضعيف.. أو أنه وقع في تناقض حيث أورد هذا الشعر:
قال: عذراً أيا مليكي دعني
لشراعي وأنتم فهْم خبير
يرد عليه الملك:
قال: مهلاً فأنت عندي سمير
في حياتي وأنت عندي أثير
الحنين إلى الوطن أخذ من السندباد كل مأخذة رخص أمامه كل مغريات الوجاهة والمنصب:
قال: عذراً فمهجتي في بلادي
وعلى شاطئ الضيا ميلادي
أين قلبي؟ فمركبي وصحابي
ذكرياتي وفيهما إنشادي
ويستجيب الملك لمناشدته:
قد أذنا مع الصباح ترود
في بحاري وقلبكم لشرود
عل زولاً يكون مركب حب
يتهادى.. لعله سيعود
وتتحدث القصة في نهايتها عن العودة: (تغير أفق السندباد من أفق ملبد بالغيوم إلى سماء مشرقة بنور صباحها هكذا تتحدث الحدوتة) ثم أورد بيتين من رباعية الختام:
سطعت شمس عودتي في صباحي
وبدا الحب في الندى اللماح
عادني النور يا نواعير شدواً
بصداح فُديتَ شجو الصداح
أصبح البحر والسماء سلاماً
وشراعي مضمخ بالجراح
وتراءى مع المآذن فجر
في بلادي بعطره الفواح
أورد الناقد البيتين الأخيرين فقط ولا أدري لماذا لم يذكر العودة في هذا الشعر وهو يتحدث عنها. كان هذا اختياره واختيار الرجل قطعة من عقله.
وفي ختام المقام يثني على إخراج الديوان، وحسب رأي أرسطو في الكتاب أن شكله يجب أن يكون جميلاً، وقد خرج هذا الديوان من تحت يد خطاط ورسام. ثم يرسل إليَّ ناقدنا هذه الهدية: (أقول لشاعرنا أحمد الخاني: حتى للأطفال لا تصح هذه الحدوتة الشعرية لأنها مرتبكة خرافية في بعض تصوراتها متعثرة في توصيفها وتوظيفها للمفردات.. ليس عيباً أن تعثر أقدامنا أو تحبط أقلامنا من العيب، ألا تحاول وأنت الجدير بمحاولة نسعد بها منك ولك).
الأسلوب هو الرجل وإنني لشاكر هذه النصائح الغالية التي أهدى فيها أخي الناقد الكبير، لكن أمراً بسيطاً سوغ لي منهجي هو أنني أوجه شعري إلى الخاصة وبهذا أكتفي بإيراد الشعر دون شرحه، وإن كان بعض أصدقائي من الشعراء يصدرون شعرهم في كتاب ثلاثة أرباعه شروح وربعه شعر حتى يفهم القارئ، ربما أراني بعد هذا النقد أهتم بالشرح في مستقبل الأيام إن شاء الله، وأهمس في أذنك يا ناقدي الكريم: إن نفسي تنفر من ذلك ثقة بقارئ حينما يمسك ديواني يرى أوله كما يرى آخره. أشكرك يا أستاذ سعد البواردي وقد اكتسبتُك صديقاً جديداً، فبعض أصدقاء الأدب ينزلون إلى ساحته مقنّعين مما يحرمنا كسب صداقاته، فأنت واضح، أشكر لك صراحتك كما أشكر لك جهدك المبذول في هذا المقال الذي استفدت منه كثيراً، وإن اختلاف النظرات الشعرية لا يفسد للود قضية.


أحمد الخاني

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved