الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 22nd September,2003 العدد : 29

الأثنين 25 ,رجب 1424

قصة قصيرة
المضيفة الحسناء!!
بقلم/علوي طه الصافي

أغلقت باب الطائرة، إيذاناً بصعود آخر الركاب الذي جاء متأخراً عن الوقت.. وهي تتمتم في نفسها: لا أدري لماذا يحلو لبعض الركاب عدم الالتزام بالمواعيد؟ إنهم يتجنون على العرب حين يتهمونهم بأنهم لا مواعيد محددة لهم..
ويفاخرون بأنهم يقيمون وزناً كبيراً للوقت في أعمالهم.. ومواعيدهم.. لهذا تتردد على الألسنة مقولة «موعد انجليزي» للدلالة على الدقة.
هم يكذبون، لأنني من خلال رحلاتي العديدة، المكرورة على كثير من بلدان الغرب بصفتي مضيفة، تمر عليَّ حالات يتأخَّر فيها بعض ركابها عن مواعيدهم.. وحتى أوقات صعود الطائرة ليست كما يقولون إنها «مواعيد انجليزية».. فالناس شرقيهم، وغربيهم مجرد بشر لهم سلبياتهم.. ولهم إيجابياتهم.. فهم ليسوا أجهزة «كومبيوتر» مبرمجة.. وليسوا كساعة «بيج بن» الشهيرة، في لندن!!
بعد أن أحكمت إغلاق الباب اتجهت إلى المقعد المعد لجلوس المضيفات بجوار إحدى زميلاتها.
ألقت بجسمها على المقعد فأصدر صوتاً سمعته زميلتها فتبسَّمت.. ثم أطلقت تنهيدة طويلة مغسولة بالارهاق.. مسكونة بالتعب.. ثم ربطت حزام الأمان.. وهي تلوي عنقها.. كان جيدها الساحر محلَّى بقلادة زادته سحراً.
زميلتها ماتزال تبتسم.. فسألتها:
وعلام تبتسمين.. يبدو أنك سعيدة «بالزَّاف»؟ قالتها بلهجتها المغربية.
* ألم تسمعي صوت المقعد، وهو يتنهد أكبر من تنهيدتك حين جلستِ عليه.
ماذا تقصدين؟
* أقصد انه إذا كنت تتصورين أنني سعيدة.. فهو أسعد مني!!
أنت تتحدثين بالألغاز!!
* لأنك سحر كل الألغاز التي في الدنيا!!
في حديثك شيء من الغزل المغلف بغلالة من الحرير!!
* لأنكِ تذكرينني بمعشوقة المشاعر الجاهلي «امرئ القيس» التي وصفها قائلاً:
«حجازية» العينين، «مكية» الحشا
«تهامية» الأطراف، «رومية» الكفل.
وماذا يعني.. إن بعض مفرداته فيها شيء من الغرابة، والاستغراب!!
* وأنت بجمالك.. وسحر جمالك لا تثيرين من الغرابة، والاستغراب.. بل تثيرين الدهشة، والانبهار!! أنت عند امرئ القيس جزيرته العربية، بيئتها، طقسها» شمسها، وقمرها، ونجومها!!
هذا كلام شعراء.. والشعراء رومانسيون.. يحلمون.. يتخيلون غير الواقع... ونحن في عصر الواقع!!
* ألم تقابلي شاعراً في رحلاتك العديدة، فيبهره جمالك، ويقول فيك شعراً:
أذكر انني في احدى الرحلات ناولني أحد الركاب ورقة، ويده ترتعش، كأنه في الثمانين من عمره.. وقد أخذتها منه لأنه كان شاباً ساحراً، وفي ملابسه جاذبية.. يبدو انه من الأسر الغنية المترفة.. حين فتحت الورقة وجدتها تغني غزلاً.. وتتأوه غزلاً.. وتئن غزلاً.. بعد قراءتي لها سريعاً وضعتها في حقيبتي حين داهمني «السوبرفايزر».
* ثم ماذا حدث؟
أخذت كأساً من العصير.. ذهبت به إليه.. وشكرته على مشاعره!!
* فقط!!
فقط!!
* ألم يدر بمخيلتك أن تقومي بتصرف آخر، أكثر لياقة، ورقة؟
لقد داهمني الوقت.. لاستعداد الطائرة للهبوط.. وكان عليَّ شخصياً أن أعلن بالمايكرفون عن موعد الهبوط.. والطلب من الركاب بربط أحزمة الأمان، كما هي التعليمات.. ثم جلستُ على مقعدي.. وبجواري «السوبرفايزر» بصلعته.. وبقايا شعره الأشعث، كأن أسبوعاً مر عليه دون أن يمشطه.. لقد كان يحسب عليَّ حركاتي، وسكناتي.. يجثم على أنفاسي ليحصيها.. لقد حاول مرة أن يتودَّد إليَّ فتقبلتُ منه ذلك، لأنه زميلي، بل رئيسي في الرحلة.. لكنني نهرته بشدة حين كرّرها، ماسحاً شعري الأشقر بيده، إعجاباً منه، كما قال.. تحوَّلتُ إلى لبؤة مفترسة.. وكان أكثر ما يضايقني فيه رائحة... ذلك «البرقان» المزعج الذي يستعمله.. انه يدل على ذوقه السيىء!!
* واحدة، بمثل جمالك وسحرك.. لو قابلها «أحدب نوتردام» لعاكسها متغزلاً فيها.. فالإنسان بطبيعته البشرية ذكراً أم أنثى ضعيف أمام ما ومن هو جميل، وساحر، ووسيم..!!
أهو الحب.. كما يقولون؟
* إنه الانذار المبكر للحب.. هل يعقل أنك لم تحبي أحداً.. ولم يحببك أحد؟
لقد أحببت ابن الجيران.. وحين كبرنا خطبني من أهلي.. ونحلم بقرب الزواج!!
* ألم تتعرضي خلال رحلاتك، وأنت مضيفة إلى معاكسات، ومضايقات.
بالزَّاف.. بالزَّاف.. لكن لأنني مخطوبة مبكراً، فقد وهبتُ، قلبي، ومشاعري لخطيبي،، وأنا وفيَّة له كل الوفاء.. ومخلصة له كل الإخلاصََ
* أيهما أكثر وفاء وإخلاصاً من الآخر؟
أحياناً أشعر أننا نتساوى.. وأحياناً أحس أنني أكثر .
* أهي الغيرة؟
ربما.
* والرجل.. ألا يغار؟
الغيرة ليست امرأة.. وليست رجلاً.. الطرفان يشتركان فيها، لأنها المعادل الخارجي»، للإحساس «الداخلي».. بعضهم يرى فيها انها «ترمومتر الحب».. وبعضهم يرى أنها ظاهرة بشرية.. والبعض الآخر يرى أنها مرض إذا تجاوزت حدها.
إذا رأيت خطيبي يتحدث مع زميلة له بالعمل وبلطف تشتعل الغيرة في داخلي، ولا تسألي عن ردود الفعل، لأنها تتغيَّر بتغير المواقف.. وإذا وجدني أتضاحك مع زميل لي أثناء استقباله لي بالمطار، قد يتركني عائداً بسيارته دون أن يركبني معه. وقد أركب معه فنقطع الطريق دون أن يتفوه بكلمة، احتجاجاً منه!!
* هل سبب الغيرة بين محبين هو تدخل طرف ثالث؟
أي تدخل من طرف ثالث، ولو كان من الأهل.. أو أي شيء لا يروق لأحد الطرفين تبرز الغيرة عنقها كأفعى تحاول تسلق جدار دون فائدة، فتضطر العودة إلى جحرها، أو التسلل إلى أي مكان فيأمن الإنسان خطرها.. وهكذا هي الغيرة لا تلبث أن تتلاشى لكن إلى رجعة!!
* يبدو لي أن الغيرة في حد ذاتها نسبية، تتأقلم بالأجواء.. والبيئات.. والثقافات.. والعادات.. والتقاليد.. فما يثير الغيرة في الشرق، لا يثيرها في الغرب!!
بل، وعلى مستوى المدينة، والقرية، في بلد واحد!!
* كامرأة جميلة، وحسناء تلوي أعناق الرجال، ومضيفة في الطائرة تجوب مدن العالم.. ما أطرف ما مر بك؟
في احدى الرحلات أراد أحد الركاب أن يطلب تمراً، فطلب موعداً غرامياً.. قالتها، وهي تقهقه!!
* ماذا عملتِ.. وكيف تصرفتِ؟
سألته ماذا يريد بالضبط، محاولة أن أعرف ماذا يريد بالتحديد.. فكرَّر الطلب نفسه.. ولأن الحديث طال قليلاً مع الراكب.. ولأن «السوبرفايزر» الأصلع الذي حدثتك عنه كان معنا في الرحلة.. فوجئت به يقف بجانبي، ويسألني بالانجليزية عن سبب إطالة الحديث مع الراكب.. فرددت عليه بامتعاض: إنه يطلب شيئاً لم أعرفه.. وتركته مع الراكب.. بعدها أحضر تمراً له.. فهمتُ وقتها أن الراكب لا يعرف الانجليزية.. فاختلط عليه التمر بالموعد الغرامي!!
* وهل تحفظين أبياتاً من قصيدة ذلك الراكب الشاعر المتيم الولهان؟
أرى أنك تحبين الشعر؟
* إنني أحب القراءة في كل شيء.. والكتاب لا يفارقني في غرفة نومي، أو في غرفة فندق أثناء سفري.. القراءة سلوتي في الحياة.. وأنتِ؟
لا أحبها!!
* وحين تكونين في غرفة نومك.. أو في غرفة فندق وحيدة.. كيف تقضين وقتك؟
أمارس بعض الرياضات السويدية.. أو أنام!!
* ثم ماذا؟
لا شيء!!
* أليس للمرآة جزءًا مهماً من وقتك؟
أنت خبيثة.. قالتها بدعابة، وهي (تدق) كتفها بكتف زميلتها.. وصمتتا عن الحوار..
ألقتا برأسيهما على ظهري المقعدين.. وركاب الطائرة يحلمون في نومهم!!


ص.ب 7967 الرياض 11472

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved