الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 22nd September,2003 العدد : 29

الأثنين 25 ,رجب 1424

أعراف
ينابيع الذاكرة:
الرحيق هنا 1))
محمد جبر الحربي
يقسو الشعراء على الأوطان وتقسو عليهم، وبين حُبّين يرتحلون، ويغتربون، ويألمون، ويتمزّقون، ويكتئبون، ويُدمّرون، ويبحثون في العمر عن موانىء، وخلاصٍ، وخلان، ومكانةٍ، ومكان، وهم يصلون ويضيعون، ويشيخون، وينتفضون، ويخرجون من الرماد، أو يموتون غرباء، ويعتلّون، ويفعلون الذي يعجز عن فعله الآخرون، ولكنهم في كل ذلك عاشقون مدنفون كلفون، نابضون بالحب، مقتولون به.
وهم وإن سعوا في مناكبها، جنتها ونعيمها، وإن اغتربوا في دواخلهم، أو في منافيها، أو غُرّبوا لا يفتأون يرددون:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة
وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام
وبين رحلات التيه والجدب والشموس الحارقة، واستثناءات المطر والواحات العابرة، بين اليأس والموت والأمل والرجاء، بين الأمان القلق والخوف الغامض، بين الشك واليقين، بين المتناقضات والحوادث الجسام، الدم والحناء والشهد، بين كل ذلك يبقى الشعراء الحقيقيون أوفياء لشعرهم وأوطانهم ورسالتهم وهمهم وتوقهم.
ويبقى لنا منهم شاركونا المشية، أم ألقوا عصا المسافر، عاشوا أم ماتوا، اغتنوا أم لازموا الكفاف..
يبقى الشعر، دفء الشعر، وهج الشعر..
ويبقى الحب هذا الذي قادهم بين صرختي الميلاد والنعي..
هذا الذي عرّفهم على أوطانهم كما لم يعرفها أحد، وأبكاهم على أهلهم كما لم يبك أحد..
وجعلهم يعترفون كالأطفال:«أما أنا فخذوني بطيبة قلبي/ فالمحبة طيبة القلب/ وزمان المحبين جدُّ قصير» كما لدى يوسف الصائغ لأن:«ما تبقى هو الحب هذا رهاني الأخير».
هكذا كنت أحدث نفسي، أتساءل وأجيب، وأنا أتصفح بحب ديوان الشاعر السوداني الكبير محمد المكّي إبراهيم «بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنتِ»..
هكذا كنت السادسةَ من صباح الخميس، حيث للقراءة والكتابة والبحث صفاء لا يعرفه إلا أصحاب الصفاء والقراءة والأسئلة. وأصحاب الأطفال وهي تنادي متفتحة على الجراح والورود.
فهل جربتم قراءات الصباح الأولى، وكتابات الصباح الأول؟!
هل دعوتم الذاكرة أم دعتكم إلى قهوة مرّةٍ، وضوءٍ كريم؟!
هكذا دعاني محمد المكّي إبراهيم إلى «طفلة المدائن» إلى الخرطوم، وإلى البرتقالة، والرحيق، والشعر الخالص، والنبع الصافي، والحب الذي حافظ على حرقته بعد كل السنين، وكل الأنين، وكل الرياح، وكل الجراح. هكذا استطاع الكبير أن يجعل من الخرطوم القاهرة ودمشق وبغداد وصنعاء والرياض وعمّان.
هكذا استطاع أن يجعلنا نربط الحزام بجواره في الطائرة المسافرة أبداً إلى الخرطوم.. إلى الوطن.. إلى الأوطان.تلك التي وإن لم نغادر وإن لم نقم ولم نقف، سافرت فينا.
تلك التي علمتنا:
«هو الله قل لا إله سوى الله
والموت حق.
وشوقي لعينيك حق.
وكوني أضعتك
بين الأباطيل أكثرها خسة ونزق.
لكوني فقدتك في غمرةٍ من ذهول
وفي شبق مستحيل
وفي غضبٍ مسترق.
وأني جحدت بذلك آلاء ربي
فحولني فتلةً في الرياح
وثرثرةً في الصخب..»
هكذا إذاً دعاني السوداني العريق إلى أن أترك الواجهات للواجهات، والأضواء للأضواء واللامعين، وأن أبحث عن الشعر في الشوارع الخلفية، وفي الحقول النائية.
أن أبحث مع الصبح الأول عن شجر الشعر، وفاكهة الشعر وأن أحيلكم إلى شعرٍ يحيلكم إلى وطنٍ يحيلكم إلى عزةٍ وبهاء.. ووعدٍ ورجاء.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved