الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 22nd September,2003 العدد : 29

الأثنين 25 ,رجب 1424

حال الكتاب
قالوا لي: إن في كتاب فلان باكورة من عبقريته، وأنموذجاً من بدائعه، وكوثراً يرتوي منه الظمآن، ويدل الحيران، هكذا قالوا، ثم ما أكاد أسير مدبراً عنهم إلى طريق آخر لأسلكه حتى أرى ثلة أخرى تقول: هل رأيت كتاب فلان ما أسخفه وما أنقصه، لقد أودى به كتابه إلى حضيض الفكر، وسماجة العقل والرأي..
هذا قول وذاك قول، كلٌ يَغرف من نبع رأيه ومن ثقافة لبه ومجتمعه، قالها ربهم قبل سنين مضت حين قال تعالى: {أّفّلا يّتّدّبَّرٍونّ پًقٍرًآنّ وّلّوً كّانّ مٌنً عٌندٌ غّيًرٌ پلَّهٌ لّوّجّدٍوا فٌيهٌ ا خًتٌلافْا كّثٌيرْا } (82 النساء) ما من كتاب يوزع بالمجان، أو يباع عند الورّاق بالدراهم والأثمان إلا ظهر من يطعن به إما أن يستفحش ألفاظه أو يعيب بيانه أو يعجم فصيحه أو يحقر فكره.
لو استطاع المرء أن ينتقص نفسه لأراد، وما أكثر منْ يفعلها حين يخلو بنفسه، كم يؤنبها ويوبخها ولو كانت تُضرب بسوط لسلط عليها نيران سياطه، هذا من العقلاء من الناس من يحاسب نفسه ويحقرها ويقرّعها، لكي تستقيم وتستوي، لكن الذي أصيب بغرور وكبرياء من له بمؤنب يوقظه من سبات الغرور. إن الله يعلم ما تكنه سرائر خلقه واصطفى كتابه الكريم من النقص والعيب، وهو يعلم جلّ وعزّ لو أنه من عند غيره لعابوه ووجدوا فيه اختلافاً كثيراً، لذلك ما استطاع كفار قريش أن ينالوا من القرآن بشيء، حين كان يقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، وما قدروا إلا أن يقولوا عنه: إنه ليس بكلام بشر.
لكن التي تُملأ بها رفوف المكتبات من الكتب، من منظوم القول أو منثوره أو ما يُقنن من قوانين، أو يقص من أحاديث، أو ما يسرد به من سير إلى أن امتلأ بها جوف المكتبات، نرى ثللاً من الناس تتجاذب هذه الكتب من يد إلى لسان، وما يُبقى من علة من علل الكتّاب إلا وألصقت بمؤلفيها، ثم إذا امتصوا دمه وشبعوا من لحمه انتقلوا إلى الكتاب ذاته فجعلوه مائدة يحوط بها النقص والخلل فصار كتاباً لا قيمة له.
قرأنا في النقد الأدبي أن هناك قصيدة اشتهرت بين عامة الناس وخاصة النقاد، فتصدى لها ناقد من باقعة النقاد، فجعلها قصيدة رثة بالية، كثوب خَلِق لا يلبسه إلا المعدمون البائسون، فجعل اللسان الأمي أرقى منها وأزكى.
ثم قرأها ناقدٌ آخر لا يقل عن الأول بشيء، فضمها إلى عقد كواكب الكون، وألبسها حريراً وجوهراً، وأجلسها مجالس ملك القصائد، وقال عنها: تجعل كل من يقرؤها يعتقد أنها له وأنه المعنيُّ بكل حرف تحتويه، على اختلاف طبقات البشرية، وهذا أرقى أنواع الشعر الذي يصل بالقارئ حد الإحساس ومخاطبة الشعر الشعور.
إذا نحن واجهنا هذين الناقدين بسؤال مهم لا بد من إجابة عليه، كيف تقرؤون الشعر؟ وهل تقرؤونه مقلوباً حتى تروا قلب قائله؟ أم تقرؤونه من أعلى حتى تشاهدوا عقله؟ أم اللغة كتبت بغير أحرفها؟ كثير منا سيجيب بقوله: إن الذائقة الأدبية تختلف، فكلٌ على ذوقه وما تميل له نفسه يرى البلاغة.. ليس هذا الذي أريده، وإنما الناقد له عينان، عين يقرأ بها الكتاب، وعين يرى بها جمهور القراء وذوائقهم، فيزن ذوقه بميزان بين الحالات حتى يعطي كل ذي حق حقه.. وهذا مثال أوردته عن كل فنون العلم وأصناف أمهات الكتب، وعلى ذلك فقس.
الكتاب له أعماق لا يعرفها إلا الذي صنَّفه، وكدَّ به وجَهَدَه، وما من مُطّلع يُحسن السباحة في أبحر الكتب والاطلاع يتفق على نضوج وسلامة كتاب واحد، لأنه من صنع البشر ونسجهم، ولأن فيه اختلافاً كثيراً، لم يغدُ من عند الله فكيف يَكمُل.


عبدالكريم بن علي النقيدان
a700r@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved