الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 22nd November,2004 العدد : 84

الأثنين 9 ,شوال 1425

بعمق يكتسي بساطةً ويزدان مرحاً
المانع يوثق مادة ثقافية ثرية في كتاب جديد
* عبدالباسط الشاطرابي:

أفرح عندما أنظر في شيء من التراث، وأفرح أكثر عندما يكون عن شيء معاصر، وأفرح أكثر وأكثر عندما يكون مادة حديثة مقبلة على الطبع والنشر، وهذا ما شعرت به عندما أطلعني الأخ العزيز الأستاذ عبدالرحمن بن عبدالعزيز المانع على مسودة كتابه (مقتطفات من القصص والنوادر والأمثال النجدية).
بهذه الكلمات ابتدر معالي الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر تقديمه للكتاب الذي صدر مؤخراً في ثلاثمائة وخمس صفحات من القطع المتوسط، وتناول فيه مؤلفه ضروباً من القصص والنوادر والأمثال والأشعار والوصايا النجدية.
والكتاب الذي اتسم بأسلوبه البسيط السهل يحتوي عوالم من المعارف الإنسانية البسيطة شكلاً والعميقة مضموناً، وفيه سلاسة في العرض تجعل قارئه لا يلتفت إلى المزج السردي اللغوي بين الفصيح والعامي، ولعل ما قدمته المفردة العامية فيه من معان عميقة ومباشرة، كانت سبباً رئيساً في جاذبية المحتوى، وتألق الأسلوب وقدرته على استلاب اهتمام القارئ، فلا يملك معه فكاكاً من أسره حتى يأتي على آخره!
ولعلنا ونحن نقلّب صفحات الكتاب نحار فيما يمكن أن ننتقيه من محتويات ومضامين لاستعراضها وتسليط الضوء عليها، فما جمعته دفتا الكتاب من الغنى والثراء تجعل كل أجزائه تتدافع من أجل البروز واجتذاب الاهتمام، بل الكاتب المؤلف ذاته قد عرف بحسه أنه سيحاضر قارئه بمضامين كتابه المتنوعة، فها هو يشير في مقدمته إلى أن تلك الوقائع والأحداث التي احتضنها الكتاب ( تزخر بالكثير من المفاهيم الإيجابية والسلبية، ففيها مضامين تحكي الكرم والشجاعة والنخوة وغيرها من الصفات الحميدة، كما أن بعضها يحكي البخل والجبن والضعف وغيرها من الصفات السلبية، وبعضها به عظات وعبر، وبعضها للتسلية والترويح عن النفس).
لكن صعوبة الانتقاء من عوالم الكتاب الساحرة لا تعفينا من اختيارات موجزة نريدها للقارئ، وهي محاولة لاستعراض بعض مما احتوته الصفحات من مضامين تحمل العبر والبساطة وخفة الظل.
ففي أقصوصته (قضعان) جاء على قلم المؤلف: (يقال إن هناك شخصاً غنياً، وكان بخيلاً، ولا يشتري لبيته إلا رديء الطعام ولا من اللحم إلا الكرعان والكرشة والمصران، ومقتّر على أهله بالرغم من ثرائه وفي يوم من الأيام سافر لإحدى القرى، ووصل إليها ليلاً، وهو لا يعرف أحداً فيها، وجلس في سوقها، فمر عليه شخص ودعاه إلى بيته، فلما وصل إلى بيته أوقد له ناراً، وكان الوقت شتاءً بارداً، وأحضر له القهوة والحليب، ثم بعد ذلك العشاء، وبه كل النعم من لحم وخضار.
ونام على فراش وثير، وفي الصباح جلسوا بجوار النار، وشربوا القهوة والحليب، ثم بعد ذلك قدم الفطور وكان (حنيني) ومعه اللبن، واستغرب الضيف هذا الكرم، وسأل مضيفه ماذا يعمل؟ هل لديه تجارة ومحلات أم يكون فلاحاً؟ فقال صاحب البيت: أنا والله لا شغل ولا مشغلة، بس كلما توفي غني، وعلمت أن زوجته ورثت عنه أخطبها وأتزوجها، وهي تقوم بالصرف عليّ.. وهكذا... ويقال إن في القرية الفلانية شخصاً غنياً يسمى (فلان) ويذكرون أنه مريض، وأنا أسأل عنه كلما اخذت مدة لأسبق غيري وأخطب زوجته.. وكان يقصد الضيف نفسه، وهو لا يعرفه، فسأله الضيف:
ويش اسمك؟
قال: قضعان.
فرجع الضيف إلى بلدته وذهب في الحال الى السوق واشترى أطيب الأطعمة، ثم مر على الجزار وأخذ نصف خروف، واشترى فواكه وخضراوات وحملها مع حمال إلى البيت، فلما رأت زوجته ذلك قالت: هل جننت؟ ماذا فعلت؟ لا أصدق نفسي!
فقال:نبي نبيد المال قبل يبيدنا
قبل يجي قضعان للمال يأخذ
وقص عليها القصة (انتهى).
والطرافة في مضامين الكتاب تحافظ على قدر عال من الجرعات الثقافية المهمة، ولا سيما في الجوانب التي قد تكون غائبة عن الناشئة، فإذا كان البعض قد افتقد لمعرفة بعض مفردات التراث فإن بعضا آخر قد يردد هذه المفردات خلال سياقات مختلفة دون أن يعي جذور هذه المفردات وفي أقصوصة أخرى تحكي عن أصل أحد الأمثال يقول المؤلف مشيراً إلى مثل
(مثل رضاح العبس)
(رضاح العبس هو الذي يقوم بتكسير نوى التمر لتأكله البهائم، وكان الناس قديماً يخمرونه في الماء مدة بسيطة ثم يقومون بتكسيره فوق صخرة تسمى المرضحة، وتوضع فوقها الوقاة وهي معمولة من الليف المفتول على هيئة دائرة ويوضع فيها قليل من النوى، ويتم تكسيره بواسطة حجر مستدير في حجم البرتقالة ويسمى الفهر، وبعد تكسيره يخمر مدة طويلة في الماء ويطعم بها البهائم.
ورضاح العبس هذا كان يكسر العبس، وعندما يتبقى لديه حبة أو حبتان يتوقف عن التكسير ويقول:
لقد تعبت.
ويضرب المثل لمن يعمل عملاً فإذا أشرف على إنهائه تركه بحجة من الحجج، فلا هو أتم العمل، ولا هو تركه لغيره من الأساس.
ويحافظ الكتاب على روح الطرافة حتى في اختياراته الشعرية المليئة بالرؤى والحكم، وهي اختيارات كثيرة، ومما اختار لسليمان بن شريم هذان البيتان:
أنا والله ما أبدل عشرته في واحدٍ ثاني
مدام الشمس تظهر وتداور الفيّة
وإلى منه تغير وانكر العشرة وخلاني
أعده واحد واسيت قبره بالطعمية
وثمة سمة بارزة في الكتاب لا تخطئها العين، وهي دوره التوثيقي في جمع ورصد العديد من الحكم والأمثال والأقاصيص التي كان يتداولها العامة، ومثل هذه الثروات الشفاهية كثيراً ما تكون للأسف عرضة للاندثار مع رحيل رواتها وعارفيها، لذلك كان اتجاه المؤلف بحسه المرهف نحو تدوين هذه التركة الغنية بعد جملها عملاً ذكياً وإنجازاً مهماً يستحق الثناء والتقدير.
إن (مقتطفات من القصص والنوادر والأمثال والأشعار النجدية) كتاب حوى جهداً متميزاً من مؤلفه عبدالرحمن بن عبدالعزيز بن عبدالله المانع، وهو عمل اتسم بالخصوصية عرضاً وتوثيقاً ولغة وأسلوباً، وقد يكون له ما بعده سواء من المؤلف نفسه، أو ممن يهتمون بتوثيق فنون الثقافات المحلية ولا سيما في نجد، كما أن الكتاب جدير بالاقتناء لما يكتنزه من قنص سمين وثمين، وسيجد القارئ فيه أجواء لا تنسى من الدهشة والمتعة التي ترسّخ القيمة الثقافية للكتاب وتضفي على المتلقي الفائدة والمعرفة دون أي عناء أو مشقة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved