الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 22nd November,2004 العدد : 84

الأثنين 9 ,شوال 1425

ظفار.. قصة الحضارة في معجم الذاكرة
4 اللغة الجبالية
د. سلطان القحطاني

تعتبر اللغة الجبالية اللغة المتداولة في ظفار على المستوى الشعبي ويتكلمها أكثر من سبعين في المائة، تقريبا من مجموع السكان، بجانب العربية الفصحى، وليس كلامنا عن الفصحى بمعنى الفصحى القاموسية، بل نعني لغة الخطاب العربي اليومي، مع وجود اللكنة الجبالية في المسميات التي ينطقونها باللغة المتداولة، ومن التقسيمات التقريبية التي تحدثنا عنها في بداية المقال، نجد التباين واضحاً في استعمال هذه اللغة، التي يطلقون عليها (الجبّالية) تحت صيغة المبالغة، من كلمة الجبال، لأن المعروف عن هذه اللغة أنها تعيش مع أهلها في جبال ظفار، ومثلها (المهرية) في بلاد المهرة، في الجمهورية اليمنية، فبلاد الأحقاف والشحر متداخلة إلى حد ما، إما بالاختلاط المباشر، وما يترتب عليه من نسب وغيره، وإما بالتداول التجاري بين الطرفين، وهذه حالات لا بد منها في أي مجتمع حدودي، ويتركز ثقل هذه اللغة كلما توغل الإنسان في الجبل، وكلما قلت نسبة التعليم، وعند المسح الميداني في جبال ظفار نجد أن نسبة كبيرة من النساء وكبار السن، الذين لم يدركوا النهضة التعليمية يتكلمونها بطلاقة، بل أغلبهم لا يعرف العربية الفصحى، بالرغم من أن التعليم منتشر في الجبال، كما هو في المدن والسهول، ولكن تبقى المشكلة في الحديث اليومي في البيت، فالظفاري يفضل التحدث باللغة الجبالية في المنزل مع زوجته وأبنائه، وأبناء عشيرته أكثر من التحدث بالعربية، فهو يعتبرها لغته القومية، لكنها قومية تختلف عن بقية القوميات في العالم العربي، مثل بلاد المغرب العربي، فالظفاري يعتز بعروبته، بل يرى أن هذه لغة عربية، هي لغة عرب الجنوب، قبل توحيد اللغة العربية، في القرن الأول قبل الإسلام، لكنه يستأنس باللغة المحلية، كلغة شعبية يومية، او ضرورة حتمية مع الذين تحدثنا عنهم لا يعرفون العربية، فقبل النهضة التعليمية التي بدأت سنة 1970م، كان أهل الجبال في ظفار يتكلمون هذه اللغة بنسبة مائة في المائة، نتيجة العزلة الطويلة في رؤوس تلك الجبال العالية، بل يعلمونها لأهل الفئة الثانية من سكان المدن الذين يذهبون عندهم في فصل الصيف، هرباً من الحرارة الشديدة في السواحل، مثل: صلالة ومرباط وطاقة وسدح، وأهل الجبل ينزلون للسهول والبحر، للصيد في مواسم مجيء الساردين بكميات كبيرة على شواطئ صلالة وطاقة ومرباط، لأخذه طعاماً لهم ولحيواناتهم، في وقت الجفاف، لذلك نجد بعض كبار السن من غير أهل ظفار، أي من الوافدين عليها، الذين كانت أعمالهم في الميناء والأسواق لا يتكلمون الجبالية، لأنهم لم يختلطوا وليس لهم معرفة في الجبل، فنسبة المتكلمين بهذه اللغة في مدينة صلالة تقل عن نسبة المتكلمين بها في الجبال، لاعتبارات كثيرة، منها: التعليم، والبعض من الوافدين من أصول غير
ظفارية، إضافة إلى أنها لغة منطوقة وغير مكتوبة، يصعب حفظ مفرداتها، عند من لم يمارسها بالسماع من أفواه أهلها، وعامل آخر مهم للغاية، وهو كثرة التحريف الصوتي فيها، فلو اختفت حركة أو (فونيم) واحد تغير معنى الكلمة، وهذا ما يخشاه كبار السن من نطق الأطفال وفئة الشباب بشكل عام بسبب التعليم، حيث تتداخل الكلمات أثناء نطقها، وهناك من يفهم المتحدث لكنه لا يستطيع النطق والحوار معه بنفس اللغة، فهي تحتاج إلى ممارسة سماعية من أفواه أهلها، وتوطين الأذن على سماعها لفترات طويلة، واعتماد النطق على النبر، ومزج بعض الحروف في بعضها لتستقيم الكلمة، حيث يكثر في نطقها وجود اللام الجانبية.
هذا في المدينة، التي يختلط فيها عدد كبير من الناس، ويأتيها الكثير من التجار والسائحين، ويسافر أهلها إلى عدد من البلدان، لكن الحال يختلف في البادية، الفئة الثالثة، ولأن سكن هذه الفئة بعيد إلى حد ما عن المدينة والجبل، ولأن البدو يكثرون الحركة من مكان إلى آخر، وبالتالي يختلطون بغيرهم من المتكلمين بالعربية الفصحى، ولقرب مساكنهم من المهرة، فإن هذه النسبة من المتكلمين بالجبالية قليل، كما استطلعنا آراء الكثير حول الفئات الثلاث، فوجدنا أن التعريف لا ينطبق عليهم، فهم سكان (نجد) أي ما ارتفع من الأرض، حتى إن البعض قال عنهم: إنهم لا يتكلمون أكثر من خمسة في المائة، ولذلك شعرهم أفصح من شعر الجباليين، كما أن أغلبهم يتكلم اللغة المهرية، وينظم بها الشعر فيفهمه المثقفون، لأنه فصيح، وقد اختلفت الآراء في أصل هذه اللغة، أهي الحميرية القديمة؟ أو أنها لغة عاد الأولى؟ أو أنها مجموعة من اللهجات تداولها سكان الجبال على مدى عدد ليس بالقليل من القرون؟ أو أنها اللغة العربية الجنوبية، كل هذه مجموعة من التساؤلات حول هذه اللغة التي تشكل غرابة في عالم اليوم، أهلها يعتزون بعروبتهم وإسلامهم، ويرغبون في التمسك بها، فلو أنهم
يرفضون العربية، مثلما يفعل بعض سكان جبال بلاد المغرب، لقلنا إن هذا الأمر مختلف، لكن الأمر بعكس ذلك فهم وطنيون أكثر من غيرهم وحضاريون متمسكون بأصول الحضارة العربية، ومتدينون تعلموا القرآن من أفواه الشيوخ الذين يقرئونهم القرآن، ويرفع الأذان عندهم خمس مرات في اليوم باللغة العربية، في أعالي الجبال.
البعض يقول إنها الحميرية، وهي لغة أهل الجنوب العربي، قبل الإسلام، ومن حيث النظرية فهذا ثابت، مهما تجاهله بعض الباحثين العرب، الذين قرروا أن اللغة العربية لغة قريش، وهذا مجال سنعود إليه عن أصل اللغة العربية، وسوء استخدام المصطلح.
والبعض يرى أنها لغة عاد الأولى، ويدلل على ذلك بوجود المقابر والمزارات في المنطقة: قبر النبي هود، وقبر النبي صالح، وقبر النبي أيوب، وغيرها من القبور والمزارات، والمزارات في العالم العربي والإسلامي كثيرة، يلفها الغموض، فمن يدري أن هذا القبر أو المزار الذي مضت عليه القرون المتعاقبة يكون هو بالفعل، أضف إلى ذلك عدم تحديد القرآن الكريم لجغرافية مكان قوم عاد، كلما نعرف أنهم كانوا في جنوب الجزيرة العربية، وحتى تحديد {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} التي يقال إن الأقمار الاصطناعية الأمريكية حددت موقعها لم يفصل البحث العلمي فيها، ويقول كلمته النهائية، ويبقى تاريخ ما قبل الإسلام غامضاً إلى اليوم. وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم (أنه أهلك قوم عاد ولم يترك لهم من باقية) فكيف تبقى لغة أُهْلِكَ أهلُها، واللغة كائن حي يتوارثه جيل بعد جيل، مع العلم بأنها لغة منطوقة لم تكتب، والنقل اللغوي الشفاهي يبقى ببقاء التناقل اليومي بين الناس، ليس كمثل المدون، ولم تذكر الأسفار القديمة لغة هؤلاء القوم، مثلما ذكرت تجارة اللبان والعطور عندهم، ففي سفر التكوين (حدد الرب العالم ذاكراً أنه يبدأ شرقاً من جبل سفار (أي ظفار) وإلى هذه البلاد جاء المصريون القدماء، بحثاً عن اللبان ليستعملوه في تحنيط فراعنتهم، وربما كانت أعمدة النبي سليمان مدفونة في مكان ما بهذه المنطقة) هذا ما ورد في التوراة، لم يذكر عن اللغة شيئاً في معرض الحديث عن هذه المنطقة. أما أن تكون مجموعة من اللهجات فهذا مستبعد، فالمعروف عن اللهجة أنها انبثاق من لغة أصلية، يحصل فيها بعض التحريف حسب نطق المتكلمين وهناك فرق بين العامية واللهجة، فلو قلنا إنها عامية فسيكون فيها كلمات من لغات أخرى، وهذا ما لم يوجد في هذه اللغة، فمفرداتها تميل إلى العربية، لو كتبت، أما في النطق فهناك اختلاف، وقد يكون السبب السرعة التي يتكلم بها أصحابها، فهم من أهل الجبال، وهذه سمة في نطق أصحاب الجبال، في أي مكان في العالم، إضافة إلى اعتمادها على النبر الصوتي. والذين قالوا من أهل هذه البلاد إنها لغة عاد تنقصهم العلمية في تحديد هذه اللغة، وقد يكون هذا من النقل الشفاهي للمعلومة، الذي طالما يبنى على الحدس الخاطئ.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved