الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 22nd December,2003 العدد : 40

الأثنين 28 ,شوال 1424

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
ميزان نادر..بكفة واحدة!!
بقلم/علوي طه الصافي

لم أره ثائراً.. أو غاضباً.. أو حتى عابساً!!
تفترش «الابتسامة» وجهه الصبوح.. وتسكن «الطيبة» أعماقه.. يتحاشى «الإثارة».. وينأى عن «التجريح».. لا يحب «الغيبة والبهت».. ويكره «النميمة».. يقول «الخير»، أو يصمت.. لأنه يحب «الخير» للآخرين بسعادة، كما يحب لنفسه.. يفرح لمن يحقق نجاحاً.. ويبادر لتهنئته من الأعماق.. لأنه لا يعرف «الحسد».. ولا يتعامل «بالضغينة»!!
لهذا لم يجانب الصواب الصديق «الوضيء» الناقد «عبدالله الماجد» حين وصفه بأنه «أحد عصافير الجنة».. وأنا أرى فيه أحد سكان «المدينة الفاضلة» التي تصورها «الفارابي».. وحلم بها «افلاطون».. وافتقر إليها «كولون ويلسون»!!
إذا اشتركنا في ندوة أدبية أو صحافية يكون واحداً من فريق «الحمائم».. ليضعني شئت، أم أبيت مع فريق «الصقور» لتحقيق النجاح للندوة.
اعترفُ ان طبيعتي.. وتكويني النفسي، ينزعان في الندوات إلى إثارة «الحماسة» في صفوف جمهور الندوة.. رغبة مني في تفاعلهم، ومشاركتهم.. على طريقة مسرح «برخت» الذي يجعل جمهور المتفرجين جزءاً من المسرحية.. وهو أسلوب أشعر انه يطرد «الملل».. ولا يجلب «النعاس» للحضور.. ويكون أكثر اندماجا، وتفاعلا، ويقظة، وحيوية!!
عرفته أول ما عرفته في نهاية الثمانينيات الهجرية بعد انتقال عملي إلى مدينة «الرياض».. وكان هو وقتها طالبا في «كلية اللغة العربية» حيث جاء من مدينته «الباهرة المبهرة».. بموقعها «الجغرافي» الاستراتيجي.. ومكانتها بأهلها.. وأدبائها.. ومؤرخيها.. وشعرائها.
إنها «عنيزة» التي قال عنها الرّحالة «أمين الريحاني»:
«عنيزة مليكة القصيم.. عنيزة حصن الحرية ومحط رحال أبناء الأمصار.. عنيزة قطب الذوق، والأدب، باريس نجد.. وهي أجمل من باريس إذا أشرفْتَ عليها من «الصفرا» مثل الصمان، أرض حصوية مجدبة شرقي عنيزة، وتعلوها مائتا قدم لأن ليس في باريس نخيل.. وليس لباريس منطقة من ذهب «النفود».. بل هي أجمل من باريس حين اشرافك عليها، لأنها صغيرة، وديعة وخلابة بألوانها، كأنها صورة صوَّرها «مَانِه» اسمه «كلود مَانِه» CLAUDE MANET مصوِّر فرنسي لقصة من قصص «ألف ليلة وليلة».. وكأنها لؤلؤة في صحن من الذهب، مطوّق باللازورد..
بل قال إنها السكينة مجسَّدة، وقد بنت لها معبداً بين النخيل، زانته بافريز من ذهب الرمال.. وكلّلته بأكاليل من الأثل.. فهي في مجوف من الأرض يحيط بها غابٌ من هذه الأشجار ليرد عنها رمال «النفود» التي تهدِّدها من الجهات الثلاث.. من الشمال، والغرب، والجنوب».
ويضيف «الريحاني» قائلاً: قد تصغر عنيزة دون أهلها، وهم زهاء ثلاثين ألفاً هذا الرقم الذي ذكره الريحاني كان أيام زيارته لها قبل ثمانين عاماً أو يزيد تقريبا.. أما اليوم فإن عنيزة تعد واحدة من كبريات مدن المملكة في عدد سكانها، واتساع مساحتها العمرانية.. فلو زارها الريحاني اليوم لما عرفها .
«النفود» تقيدها فلا تستطيع التبسط والامتداد.. فهي لذلك مزدحمة بالسكان.. وأكثر اسواقها كالسراديب، لأنهم يبنون فوقها الجسور، وفوق الجسور البيوت.. ولكن هناك سوقاً للتجارة كبيرة منيرة رغم عدم وجود
وسيلة الكهرباء للانارة ، تدهشك بما فيها من الأشكال والألوان، فتذكرك بأمريكا، وبلاد الإنجليز.. وتنقلك إلى الهند واليابان.. وتسمعك اللغات الانجليزية والفرنسية.. والهندوستانية.. ولهجات من العربية متعددة اعتقد انه يقصد السلع المعروضة في السوق، ومصادر استيرادها !!
ولكي لا نطيل على القارئ فإننا سنكتفي بايراد الفقرة التالية لعلاقتها بأهلها، وسلوكياتهم.. لأن صديقنا العزيز «حمد عبدالله القاضي» محور موضوعنا هذا يمثِّل نموذجاً رائعاً لأهلها.. يقول الريحاني:
«في عنيزة أسر قديمة عريقة النسب، والفضل ذكر منها أسرة صديقنا القاضي .. وقد ساح آباؤها في البلدان القصية، والأمصار شرقاً، وغرباً، فزادتهم السياحة لطفا، واتضاعاً، فرفعوا الضيافة إلى مقام تنفتح عنده أبواب البيوت والقلوب معاً.
أجل، إن الغريب لينسى في هذه المدينة كونه غريباً، فسواء أكان مسلماً أم كافراً، موِّحداً أم مشركاً.. فهو يشعر ها هنا انه بين أناس ألفوا مثله، وألفوا فوق ذلك إكرام الضيف أياً كان، فيستأنس أيما استئناس، ويلبي دعواتهم مسروراً شاكراً» انتهى «كتاب ملوك العرب ج «2»، ص ص «606 607» ط «1» دار الجيل بيروت لبنان 1343ه 1924م».
ومدينة هذه صفاتها وسكانها هذه أخلاقهم، لا يستغرب أن يكون صديقنا «القاضي» أحد أبنائها.. وعصفوراً من عصافيرها.. وإحدى نخيلها.. وشجرة من اثلها.. لقد جمعتني به صداقة تسمو على المصالح الدنيوية.. لم يخدش مشاعري.. واحتضنتُ مشاعره بين عينيَّ.. صداقة لم تشبها شائبة.. ولم تعكِّر صفوها عوادي الزمن رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود زادتها متانة.. وزانتها جمالاً.. فهو لا يمكن ان يكون إلا صديقاً، لأنه لا يتعامل بالعداء.. ويؤثر عليه المودة والحب والاحترام.. كأنه بهذا السلوك «ميزاناً نادراً بكفة واحدة» تسكنها «الطيبة».. ولا شيء غيرها.. فهي عملته الوحيدة، والفريدة التي يتعامل بها مع غيره، صغيراً كان أم كبيراً.. فقيراً أم غنياً.
ولتجسيد علاقة الصداقة ببعض وعمقها ونقائها، أنقل ما نشره عنا صديق الطرفين الكاتب الفلسطيني الراحل، مدير تحرير مجلة «النهضة» الكويتية «عبدالله الشيتي» تغمده الله بواسع رحمته.. بعد ان أصبحت رئيساً لتحرير مجلة «الفيصل»، وأصبح صديقي «القاضي» رئيساً لتحرير «المجلة العربية».. قال «الشيتي» في مجلة «النهضة»:
«يعجبني التنافس الأخوي الشريف لمصلحة القارئ العربي في النهاية بين مجلتي «المجلة العربية»، و«الفيصل» الشهريتين الصادرتين في الرياض.. وهما متجهتان معاً، في خدمة العلم والثقافة والأدب، شعره، ونثره، بكل حماسة، وعطاء متميز في هذا الإطار.. ويعجبني من رئيسي تحريرهما الزميلين الصديقين «حمد عبدالله القاضي»، و«علوي طه الصافي»، ان كل واحد منهما يغدق على الآخر في غيابه من الأوصاف النبيلة، {$ّلا تّبًخّسٍوا پنَّاسّ أّشًيّاءّهٍمً}، ما يغدقه الأخ على اخيه، محبة، وثقة، إنه الرقي في التعامل، والنبل في التواصل.. والزبد يذهب جفاء.. وقد صدق الاخ الشيتي في كلمته.. حيث قال كلاماً قليلاً أوجز فيه الكثير مما يجسِّد علاقتنا.
لقد جمعتنا صداقة «الأدب».. وأكرم بها من صداقة، لأنها نعم «المقتنى»، والزاد، والسلوك.. كما جمعتنا
«البحيرة الراكدة».. و«الصناديق المغلقة» بإحكام، وحراسة رسمية.
معذرة إذا وجد القارئ انني خرجت عن موضوعنا الرئيس.. وإنما أردت من ذلك التمهيد عن حكاية الرسائل الأدبية التي لم يكن أمامي إلا التوقيع عليها باسم مستعار فكان «مسمار» اسما ومسمى هو الاسم المستعار المناسب لقرع «الصناديق المغلقة» وخلخلة كياناتها.. وكشف مستورها الفارغ.. وكان حاداً.. وصلبا.. وجريئاً.. ومقداما لا يفلها معدن.. ولا تقف أمامه الأبواب.. وهنا أتوقف للعودة إلى صديقنا «القاضي» اعجبته فكرة «الاسم المستعار» فكان يكتب رومانسيته الهادئة الحالمة باسم «الشابي الصغير» لكن الملفت للنظر أن موضوعاته تنشر مع صورته... مما يوحي للقارئ أن «الشابي الصغير» اسم حقيقي، لا مستعار.. ولأن «مسمار» أثار ضجة في المجتمع الراكد كالزوبعة فقد تلقى السهام من كل الجهات.. بالفصيح، وبالشعر النبطي..
ومن الكاتبات من رمته بسهم تحت توقيع «مطرقة».. وصديقنا «القاضي» كتب بتوقيع «مسيمير».. ولم يسلم «مسمار» من الهجوم حتى من بعض أصدقائه لجهلهم باسم الشخص الذي كان يقف خلف «مسمار».. وبعضهم لم يتردد أمام شهرة «مسمار» ان يركب حمار الادعاء الاعرج ليوهم أصدقاءه بأنه «مسمار».
مرة كنا في رحلة صحراوية في عز الشتاء.. وما ادراك ما الشتاء القارس في الصحراء.. وبخاصة لمن هو مثل جسمي، وجسم الصديق «القاضي» واللذان يعدان من «وزن الريشة».. لقد كنا داخل الخيمة نرتعش تحت ملابسنا الصوفية دون ان نخلعها، إضافة إلى الأغطية الصوفية.. ذلك لعدم وجود وسيلة تدفئة داخل الخيمة، التي لم يدفئني فيها إلا ظرف، وتنكيت صديقي «القاضي» الذي اكتشفت ان في أعماقه يختبئ شخص ظريف.. محب للنكتة البريئة، غير الجارحة!!
كان معنا في الخيمة ثلاثة من الزملاء الصحافيين يجيدون لعبة «البلوت».. يبحثون عن رابع.. وحين أكدَّت لهم صادقا جهلي بها، تركوني، فأصر أحدهم أن يشاركهم صديقي «القاضي» اللعب، فاعتذر بكل أدب ولطف.. لكن هذا الزميل استخف دمه فقلبها إلى استهتار حين سحب الغطاء الذي كان يتدثر به من شراسة شتاء الصحراء.. فغضب وكان على حق غضبا لم أعهده فيه.. وجلس جلسة النمر في وجه الزميل المستهتر من ناحية.. ولأنه لا يميل إلى هذا النوع من «المزاح» الذي يمس «الكرامة» ومن ناحية أخرى.. اضطر الزميل إلى الانسحاب خائباً.. هذا هو الموقف الوحيد الذي رأيت فيه صديقي «القاضي» غاضباً.. لكنه بعد دقائق عاد إلى طبيعته كأن شيئاً لم يكن، ولم يحدث!!
بعد حصوله على «البكالوريوس» في اللغة العربية.. انتسب إلى «الأزهر» فنال شهادة «الماجستير».. وانطلقت مواهبه.. وتعدّدت مسؤولياته الكبيرة في مجتمعه.. فهو اليوم رئيس تحرير «المجلة العربية» الشهرية الناجحة.. وعضو «مجلس الشورى».. ونائب رئيس مجلس أمناء مركز الشيخ حمد الجاسر».. وأسهم في تقديم بعض البرامج التلفازية، أهمها برنامج «رحلة الكلمة» الذي استضاف كوكبة كريمة من الأدباء.. والشعراء.. والمؤرخين.. والمفكرين.
وهو رغم مشاغله المتعددة ظل وفيا متوهجا اجتماعيا بحضور أي مناسبة يُدعى إليها.. ويشارك الناس أفراحهم.. وأحزانهم.. ومن وفائه النادر انه حين تركتُ جريدة «الجزيرة» بعد ان عملت
معها «متعاونا» بضع سنوات كنت خلالها مشرفا على صفحتي الأدب تحت عنوان «الأسبوع الأدبي» اللتين تسلمهما بعد تركي لها إثر تعيين رئيس لتحرير مجلة «الفيصل».. كتب «كلمة وداع» نُشرت في أول عدد نزل اسمه في «ترويسة» الصفحتين عوضا عن اسمي.. وهو العدد رقم «1554» بتاريخ 21/7/1396هـ الموافق 18/7/1976م.. هذا نصها:
«من الصعب ان تودِّع «عزيزاً» عاش معنا.. وسهر معنا.. وكابد من أجل الكلمة الأدبية طويلاً.. طويلاً..!!
وعندما نودِّع الزميل الأستاذ/ علوي طه الصافي.. نودِّعه باسم أسرة «الجزيرة».. وباسم قراء الأدب في «الجزيرة».. فوداعنا له يضم في «رايته» التي نلوِّح بها لهذا الرجل الأسف على فراقه.. والفرحة بالثقة التي نالها.
لقد عانى علوي كثيراً.. وهو يعد صفحتي الأدب.. وكم جلستُ إليه، وهو يشكو مر الشكوى من عدم وجود سوق أدبية مشجعة لتقديم الإنتاج الجيد الذي يبحث عنه القارئ!!
ومع كل هذا فلقد بذل «علوي» الكثير.. وحرص كل أسبوع على ان يقدِّم المادة الجيدة، قصة، وقصيدة، ومقالة، حتى رحل عن «الجزيرة» التي كأني أحس بها تشعر انها فقدت رافدا من روافدها القوية.
كان يسعى مع أشقائه من الروافد الأخرى، لتشرق «الجزيرة» كل صباح تحمل ما يبحث عنه عشاقها، فتمنحهم حبها، ويمنحونها وفاءهم.
أخيراً.. رغم الوداع ف «الجزيرة» تفتخر ان تم اختيار أحد أسرتها رئيساً لتحرير رصيفة جديدة نتوقَّع لها النجاح.. ولزميلنا التوفيق» انتهت كلمة الوفاء.. ولم ينته وفاء صديقنا «القاضي».. وانني حين أعيد نشر هذه الكلمة، إنما أعيدها لأسباب موضوعية هي:
الأول: إن الصديق «القاضي» بهذه الكلمة التي اعتز بها.. قد خالف ما هو سائد في شرقنا العربي في أكثر مواقع العمل إلا ان «الخَلَف» يسعى دائباً على طمس حسنات «السَّلف»، ومنجزاته.. هذا إذا لم يسئ إليه، واتهامه باطل بما ليس فيه.. جاعلاً من نفسه مجدِّداً، ومصححاً لمسيرة «السَّلف» التي يخلع عليها أوصاف «الانتقاص».. ونعوت «القصور»!!
الثاني: لقد عملتُ في أكثر من مطبوعة سنوات أطول من السنوات التي عملت خلالها في جريدة «الجزيرة»، فكوفئت بالجحود، والنكران، والنسيان.. ولم تكتب واحدة من هذه المطبوعات التي «ذبحتُ» خلالها ربيع أيامي.. واضعفتُ بصري في سهر الليالي.. لم تكتب عني كلمة تعزية على الأقل.. لا كلمة وفاء.. لكنني لم أندم لأنني أشعر براحة الضمير إزاء ما قدمته من جهود.. إضافة إلى ان القراء لا ينسون.. ورسائلهم تترى إلى اليوم على صندوق بريدي الشخصي.
والثالث: هذه الكلمة تجسِّد ما هية الوفاء عند صديقي «القاضي»، فهو لم يتحدِّث بلسانه، ولم يوقعها باسمه فحسب.. بل جعلها كلمة وفاء من جريدة «الجزيرة»، وكل العاملين فيها.. وهذا منتهى الوفاء النبيل!!
ومن عادات، أو طبيعة صديقي «القاضي» انه لا يحب استقبال المكالمات الهاتفية بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً، إلا إذا كان المتصل صديقه الإعلامي المعروف «منصور الخضيري».. ولله في خلقه شؤون، وشؤون.


ص.ب «7967» الرياض «11472»
alawi@alsafi.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved