الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 22nd December,2003 العدد : 40

الأثنين 28 ,شوال 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
مراكب ذكرياتي
عبدالرحمن العشماوي
سعد البواردي

الإبحار مع الذكريات يحتاج إلى مركب.. إلى زورق يجدف به المبحر كي يعبر به صفحة الماء.. في صراع مع الأمواج المتلاطمة.. والمخاطر المتعاظمة.. أحياناً يسلمه إلى النجاة فيسلم.. وأحياناً يستسلم للطماته فيبتعله الموج ويأوي إلى قراره دون رحمة..
وشاعرنا العشماوي عوَّدنا في شعره صموده.. وصعوده.. ومنازلته.. متسلحاً بإيمان وارادة تستهوي مواجهة الرياح بروح المقاوم.. وبريح المنازل الذي يستسهل الصعب غاضباً.. ومغاضبا حتى في ذكرياته التي هي بعض حياته.. هكذا أتخيل قبل ان امتطي معه مركبه في رحلة الإبحار..
ولأن الصبر امضى سلاح لمواجهة المجهول كان عليه أن يختار الصبر جنة.. حتى في أقسى لحظات الدجنة:
«ما غفا طرفي. ولا قلبي سها
أمرَ العقل فؤادي. ونهى»
بماذا امر العقل.. وبماذا نهى؟! لقد ابصر به صورة النجم.. والنجم ضياء.. ولمح من خلاله الروضة الوارفة والروض نماء.. وأنصت إلى الشدو الساحر على اشراقة الفجر.. والفجر بهاء.. ومع هذا يأخذه العُجْب.. أو العَجَب.. أو هما مجتمعين:
«عجبي من بعد هذا أن أرى
لوعة مدت لقلبي يدها
عجبي من خاطر مزقه
ألم نفَّذ فيه ما اشتهى»
توارت كل الصور الجميلة أمام ناظريه.. الضياء.. والنماء.. والبهاء بعد ان زرع خاطره شوكة في اعماقه وتمادى في تجنيه إلى درجة الأسى.. واليأس.. والبؤس.. انعطافة حادة بين درجتين متضادتين لم يملك امامها إلا اللجوء إلى صبره:
«ايه يا نفس اطمئني. واسكبي
جنة الصبر. التي اشدو لها.»
ومن صبر ظفر.. لأن القدر أقوى من رغبة البشر.. واذا كان للحنين تمر، فقد قدمه شاعرنا رُطباً جنياً لحظة احساسه بجوع لا يطفىء سعاره ثمر:
«قلمي ظلي.. وحبري منبعي
بين هذين اسألي عن موقعي
سافري نحوي فإني واقف
عند باب الأمل المنصدع»
لماذا خيبة الأمل التي أُجفلَ منها قلمه؟ وكاد يجف لهولها نبع حبره؟!
«أرقبُ العصر الذي تدفعه
كف عفريت إلى مستنقع
عندما مرت أمامي امتي
شقيت نفسي.. وفاضت ادمعي»
هكذا تحول مداد القلم إلى دموع ألم وهو يشهد أمة تقفو خطوات خصومها بعد ان مزقها الوهم وأبعدها عن صوت اليقين ودعوة الإسلام والسلام والمحبة..
هذه المرة ألمس خيط ضوء في نهاية نَفَق المستقبل لعله بشرة خير لما بعده:
«لا تيأسي.. ليل الشتاء سينجلي
والفجر سوف يزف صوت البلبل
ولسوف تهطل غيمة في حينا
لو لا صفاء قلوبنا لم تهطل»
مجرد أمنيات واحلام طافت بخاطره ومشاعرها.. الواقع ياشاعرنا يدحضها حتى ولوجسدناها شعرا. فالقلوب غير صافية ولا متصافية.. وانما متشاجرة متناحرة سمحت لأعدائنا وهم كثرة النيل منا.. والانقضاض علينا.. ومحاولة قضمنا قطعة قطعة دون حراك ولا نخوة..
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لحي بميت إيلام
دعني اشاطرك وهم الحلم من باب المواسات رغم بشاعة المأساة التي
يتعرض لها عالمنا الإسلامي وهو يغط في سباته.. ومن خيط الضوء الذي تراءى لشاعرنا العشماوي وسط ضبابية الرؤية يطل الشرود:
«شردت بذهني لحظة فوجدتني
أفرُّ إلى عينيك دوما وأهرب
وفكرت في أمرى فأدركت انني
اسيرٌ. واني في قيودك ارغب».
إلى هذا الحد من الحب آثر الأسر، واختار القيد بعد ان خلص من شروده وليت انه لم يخلص.. ياعزيزي حتى أنت الذي عودتنا كبرياء الكلمة وشموخها تمد يدك لقيد اسر حب دون حرية حركة.. لا.. اختر لنفسك خط رجعة حتى ولو كان عشقك جنونيا.. كبرياء الحب هو ما يوصي به العقل حتى في ساحة الشعر.. حب الاسترخاء لا يجلب رخاء..
ويتكرر الموقف امام ريحانة قلبه.. ولعل له عذراً وانت تلومه:
«حسبي من الهم ان القلب ينتحب
وان بدا فرحي للناس.. والطرب
مسافر في دروب الشوق تحرقني
نار انتظاري.. ووجداني لها لهب
كأنني فارس لا سيف في يده
والحرب دائرة.. والناس تضطرب»
السيف واحد من ادوات الفروسية يمكن لك كسب معركة الحب بإحداها دون سفك دم.. ودون توهان سفينة.. ان بوصلة الحب متواجدة في الأعماق تضبط الحركة دون ضياع.. المهم ان يرقى الحب من مرحلة الجسد إلى مرتبة الروح..
«مشاتل الألحان» زرعها شاعرنا شعرا يتغنى به ويومىء به لطيف أحلامه:
«هزي إليك بجذع حبي.. واقطفي
رطب السعادة من فروع بياني
وترفقي بحروف شعري.. انها
قطع منغمة من الوجدان
وقفي على جبل الحنين وشاهدي
شوق الربا.. وتطلع الكثبان»
احلام رومانسية استغرقها شاعرنا وغرق فيها حتى هامة الرأس.. الشعر اليوم لا يُقدم مهرا.. ولا حتى فستان زفاف.. حتى ولو جاءت قطع وجدانية موغلة في صبها وحبها.. لقد مضى العصر الذي كان بيت من الشعر يبني فيه بيتاً من الشهرة والجاه.. والانجذاب.. على قدر الفلوس تنجذب النفوس حتى في خيارات الحب مع الأسف.. انت على قدر ما تملك..
«عندما يرتحل القلب» احدى روائع ديوانه واكثرها صدقاً والتصاقاً بتجربته الحياتية.. هكذا توحي نبضات أبياتها المليئة بشوك الفراق.. وشوق الانتظار:
«رحلتِ؟ كلا، ولكن قلبي ارتحلا
فمن يقول اذا اقبلت.. حيهلا؟
ومن يسافر في قلبي يرى املا
عذبا، ويبصر في اطرافه وجلا
ومن يصفف شعر الليل.. لا رقصت
نجومه بعد ان غبنا ولا احتفلا»
هكذا وبهذا الوهج الشعوري جاء خطابه عالي الصوت لا استجداء فيه ولا قيد يذله.. المفردات.. الإيقاع.. الصور.. الاطار.. المضامين شكّلت لوحة بانورامية متكاملة تغني عن ديوان.. رغم نهايتها المُرّة:
«وان طعم حياتي صار بعدكموا
مُرّاً، وكان بكم فيما مضى عسلا»
هكذا الحياة يا صديقي احلال، وارتحال.. من فينا من لم يفقد أعز الناس إلى قلبه سفرا بعودة، أو سفراً بدون عودة..
وبين صباحه ومسائه يتفجر حوار حار مُستمد من موقدٍ فلسفي بالغ الروعة في صياغته وحبكته:
فتنتها ذلك الغموض الجميل الذي يفيض لهفة وتصابي..
ولأنها الرياض.. والرياض خصب وردي فلقد تطلع شاعرنا نحو السماء حيث مصدر النماء:
«ونداء إلى الغيوم صريح
وحنين مغلف بالعتاب
اركضي يا غيوم في كل شبر
من سمائي. واظهري كل خابي»
انه يخيلها كالحلم عن بعدُ.. ويناديها في لهفة العاطش:
«تتراءين من بيعد خيالا
فمتى تسعديننا باقتراب؟
ومتى تنفضين عنا وجوما
جعل النفس في اسى واضطراب؟
لقد سئم الصحو الذي طال أمده.. لم تُعد تغريه اشراقة الشمس في وضح النهار.. يريد ظلاما لا كظلام الليل سياجه غمام.. وعطاؤه مطر.. وحصاده رياض تزهو بزهورها:
«عكري صفو جونا فجميل
أن ترى وجه افقنا في اكتئاب..
يريد أن يقول في ضباب مليء مزنه بالماء..
شاعرنا العشماوي له مناجات مع الليل يبث فيها شكواه من خلال مقطوعته «لواطعنا جراحنا».
«أيها الليل قد عرفتَ شجوني
فلماذا تركتني في انيني؟!
ولماذا غدوت بحرا عميقا
من ظلام يتيه فيه سفيني
انت قاربت بين قلبي وبين
الشوق. حتى استلذ طعم حنيني»
عجيب أمر الشعراء انهم يلجأون إلى الليل وحده دون النهار.. مواويلهم داخل دهاليزه المعتمة.. وعويلهم داخل سراديبه المرعبة.. يحمِّلون.. ويَحْملون امام عتباته كل بلاويهم ودعاويهم.. ولم أجد شاعرا واحدا لجأ إلى وضوح النهار كي يكشف له شيئاً مما به..
«كلما ارجفت خطوب زماني
في فؤادي امسكت حبل يقيني
أيها الليل كم ارى فيك من
ذكرى، وكم فيك من رؤى تحتويني»
البيت الأخير قسمته غير عادلة.. اعد مفردة «ذكرى» إلى اهلها.. أي الى الشطر الأول كي يستقيم التوازن..
ومن الشطرين إلى الكوخين.. ماذا بينهما؟ كما ورد في العنوان:
«بين كوفي.. وكوخ جاري طريق
عن خطانا إذا التقينا يضيق
جاءني ذات ليلة وهو يدعو:
يا صديقي.. لو كان يجدي الصديق»
إنه يستنجد به من حريق شب في كوخه.. النار تُطفأ بالماء.. والماء في السماء لا وجود له في حارة الأكواخ ولا في سوق السقايين.. إنه بعيد بعيد عن المعدمين.. لا صوت يعلو على صوت النار.. وصراخ الذين تكوي اجسادهم وتحولها إلى جثث مازال فيها بقايا من دماء تشربتها عروقهم.. إلى الله المشتكى.. تلك هي الصورة البائسة بين الكوخين.. وليس بين القصرين لإجسان عبدالقدوس..
عناوين كثيرة تستحق التوقف عندها لو لا أن المساحة المتاحة لا تفي بالغرض.. «أصناف» «حدثيني» ثلاثية «تلال الرمال» «جفاف في موسم الخصب»، «ياعازف الحرف»، «منها وإليها» الذي يقول مقطعها:
«قالت: وهجتك من حبي الذي كانا
فكيف تصرف عني الوجه خذلانا؟!
وكيف تملأ ليلي وحشة، وأسى..
وكان ليلي بنور الحب مزدانا؟!»
ربما لأنها ارتمت في أحضان حبه إلى درجة التوسل والتسوّل ضاق بحبها.. فالإنسان بطبعه يحترم المرأة القوية حتى ولو لم يكن يحبها.. ومثله
المرأة.. شريطة أن لا تنتهي إلى درجة المهانة والإذلال:
«إني أحبك حتى لو أرقتَ دمي
ولو تماديتَ إعراضا وهجرانا!»
لا نصدق أبداً أن امرأة تنهزم بهذه الصورة إلا اذا كانت فاقدة العقل.. والكرامة.
وبين شدو الشاعر.. وشجو المتيمة بالحب الأعمى تنداح الصور في صراع لا ينتهي.. سلاحه الدموع.. وسلامه الفراق!
صرخة واحدة أيقظت لدى شاعرنا العشماوي كل حواسه.. هو ينصت إلى السبايا البوسنيات وهن يستنجدن دون نجدة:
«أيها النائمون نحن سبايا
أيها الآمنون نحن ضحايا
أيها الآكلون نحن جياع
أيها اللابسون نحن عرايا
ألكم أيها الرجال قلوب؟
إن من طبعكم كريم السجايا»
لا أحد.. كلهم صامت كصمت أبي الهول.. الصرخة لم تلق صدى.. والسبايا ما زلن ضحايا. عرايا ينتظرن النهاية..
على غير رغبة تجاوزت أكثر من محطة تحمل الدف، والزاد بين طياتها.. الخطوات عبر هذه الرحلة لاهثة تطوي جادة الدرب..
جادَّة في محصلتها رغم مرارة حصيلتها وما ترسمه من خلال مأساوية تخنق أفق شاعرنا حتى في عيده الحزين:
«أقبلتَ يا عيد، والأحزان أحزان
وفي ضمير القوافي ثار بركان»
الأحزان مضاعفة متكاثفة.. رمضاء تلفح.. أرض انس تحولت إلى قيعان.. الظلماء كاشفة عن وجهه المخيف.. الفؤاد حيران.. ومع هذه الاحزان يحاول شاعرنا ان يجري اللحن بين شفتيه رغم أن الأسى يعتصر قلبه كي يسعد بفأله المصطنع من حوله.. «رسالة إلى الرياض» «سلي فؤادي» «هذا يراع الحب» «عندما يكون العتاب دليلا على الحب» «واحة وفجر».. عناوين ومضامين شعرية جيدة المستوى والمحتوى.. أخلص منها إلى مقطوعة «يا من رحلت» حيث المشوار الأخير:
«ناديتُ لكن من يجب ندائي
في عالم متورم الأحشاء
كم دعوة ماتت على شطه ولم
تفرح بسمع صادق الإصغاء
نصحو.. ننام. وكل ما في همنا
ان لا يضر الصحو بالإغماء».
الحياة أمل.. الحادثات أجراس تقرع كي توقظ النيام.. أما الذين لا حس لهم فإن حياتهم موت حتى وهم على قيد حياتهم..
شاعرنا رغم استشعاره بالألم يرى في الحياة وجهها الخادع المفضي إلى العناد والفناء..
«يا هذه الدنيا جمالك خادع
ويلوح من بُعد خيال فناء
بين الولادة والممات قصيدة
تزري بكل قصيدة عصماء
ما زال يكتبها الزمان بحرقة
ويصبها في مسمع الشعراء»
قصائدك وصلت.. ودخلت مسامعنا.. سعدنا بها سوياً لأنها كائنات شعرية سوية حتى وإن أحسستنا بالوجع اللذيذ الذي نطلب المزيد منه.. أيها الشاعر المُجيد.. وخذنا إلى مراكب أخرى فبحور الشعر أحياناً تفتقر إلى أمواج تحرك الأبيات والبيوت الراكدة .


الرياض ص.ب: 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved