الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 22nd December,2003 العدد : 40

الأثنين 28 ,شوال 1424

صدى الإبداع
حرق الكتب في التراث العربي (34)
د.سلطان سعد القحطاني

للإجابة عن هذا السؤال، يذكر المؤلف عددا من الأسباب، على رأسها السبب الشرعي، واختيار المؤلف لهذا العنوان الفرعي «الشرعي» ولم يقل الديني، فالشرعي عادة ما يكون فيه الحكم القاطع، حسب التشريع.
يقول المؤلف: «يكاد يكون هذا السبب من أهم الأسباب التي أوردناها آنفا، بل يكاد يكون السبب الرئيسي في ظاهرة إتلاف الكتب في تراثنا الإسلامي والعربي..».
ويؤكد المؤلف على أن المجتمع العربي الإسلامي مجتمع أبوي، يعتمد على الإجماع، مثل الإجماع على «المصحف الإمام» وإحراق ما عداه من المصاحف، لأن الإجماع يمثل المصدر الثالث بعد القرآن والسنة النبوية. وإذا عرفنا أن الأمة لا تجمع على ضلال، فإن الإجماع هنا لم يأت من فراغ، وإن ما وجده السلف من كتب توافق أو تختلف مع منهج القرآن الكريم، أمر لا يجب السكوت عليه، فالقرآن قد أحاط بكل شيء «في الديانات القديمة» ولا داعي للرجوع إليها، لكن خوف العلماء من رجوع بعض أهلها إليها بجانب القرآن، ولاسيما والقوم حديثو عهد بجاهلية مما يحدث تشويشا للفكر الإسلامي، بل أن الرجوع إلى الكتب السماوية التي حرفت على أيدي العلماء أو غير العلماء من أهلها ربما يكون سبيل جرأة إلى التحريف في القرآن الكريم، ولو أنه أمر مستبعد، فالله تعالى قد تكفل بحفظه. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي كتابا بيد عمر اكتتبه من التوراة وأعجبه موافقته للقرآن، فتمعر وجه النبي حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقاه فيه.. إن هذا الكتاب التوراتي، الذي وافق القرآن ولم يعجب النبي بالرغم من موافقته للقرآن، إنما هو نوع من التعدي في القاعدة الشرعية، وهي الأخذ بالأصول، والأقرب كقاعدة الوضوء والتيمم «إذا حضر الماء بطل التيمم».
ونجد المؤلف قد اجتهد في بسط النظرية العلمية الاجتهادية، وهي قرب الخطأ قبل قرب الصواب، ويستشهد على ذلك بقول الميموني: «ذاكرت أبا عبدالله خطأ الناس في العلم، فقال: وأي الناس لا يخطئ ولا سيما من وضع الكتب فهو أكثر خطأ» وتعود بنا الذاكرة إلى القول المشهور عالمياً «من لم يعمل لم يخطئ» لأنه لم يعمل شيئاً، كي يصيب أو يخطئ.
وقد أشرنا إل أن التطور العقلي يحتم على صاحبه إعادة النظرفي الكثير مما ألفه، فيقول كلما نظر إلى ماكتبه: ليتني قلت كذا، ولم أقل كذا..، ويذكر المؤلف آراء كثيرة نقلها ولم يعلق عليها وهو في منهجه هذا يتبع طريقة الوراق التاريخي.
ويذكر سببا مهما جداً، وهو السبب العلمي عند ظهوره في زمن التدوين المبكر، وما كتب في ذلك الزمن كان جمعا يماثل طريقة المسودات في زمننا هذا، وكثير من أجزاء الكتاب يقدم أويؤخر ويحذف منه الكثير، ويضاف إليه مثله، ويحرق البعض، خوفا من إرباك الفكرة العامة.
وفي هذه الفترة من الزمن كثر الكذب والوضع والانتحال والتصويب. وسأضرب مثلا مما أورده المؤلف، قال يحيى بن معين: «بالعراق كتاب ينبغي أن يدفن: تفسير الكلبي عن أبي صالح، وبالشام كتاب ينبغي أن يدفن: كتاب الديات لخالد بن يزيد بن أبي مالك، لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة».
ويذكر المؤلف سبباً ثالثاً، هو السبب السياسي، ويكتفي بذكر كتاب «فضائل الأنصار وأهل المدينة» حيث خشي عبدالملك بن مروان أن يقع هذا الكتاب في أيدي أهل الشام. ونحن نعرف حساسية الموقف بين بني أمية وأهل المدينة، وخاصة الأنصار، ونعلم جميعا هجاء الأخطل التغلبي لهم في زمن يزيد بن معاوية.
وتذكر المصادر أن كتابا وقع في يد سليمان بن عبدالملك، قبل أن يصبح خليفة، فأحرقه بأمر من أبيه، وقد أشار إليه المؤلف إشارة عابرة، كعادته في هذا المؤلف.
ويشير المؤلف في كتابه إلى سبب آخر، من أسباب إتلاف الكتب في التراث العربي، هو السبب الاجتماعي أو القبلي، وهذا السبب لم يعد تراثياً بل أنه من ضمن أسباب متوارثة في الثقافة العربية، منها التوجس الديني والعرف القبلي والاقليمي والمذهبي، وغيرها. وهذا من سد باب الذرائع وإشاعة الفتنة، وتأويل ما ورد في الكتاب، حتى إن البعض من الدواوين وكتب الأنساب والروايات سحب من الأسواق، أو منع دخوله على بلد ما لتعارضه مع سياسة الدولة أو لما فيه من التعدي الأخلاقي أو التشويه.
وقد أشار المؤلف إلى حادثة واحدة من هذا النوع، وضرب لها مثالاً بكتاب «الإكليل»، حيث يقول: «وقد أتلف الكثير من أجزائه لهذا السبب، ونجد أجزاء من كتاب ما بينما لا نجد الأجزاء الأخرى للسبب ذاته» ويذكر المؤلف سببا آخر يتعلق بالمؤلفين، وهو السبب النفسي، وقد ذكرت بعض الحوادث من هذا النوع لبعض المبدعين والباحثين والعلماء، الذين وصلت بهم الحالة النفسية إلى إحراق وإتلاف مؤلفاتهم. وهذا السبب يجر وراءه أسبابا أخرى، مثل الإحباط، والتدين، وعدم القناعة بما كتب، أو الزهد، وغيرها. بيد أن المؤلف يذكر حادثة أبي حيان التوحيدي، العالم الفيلسوف المعروف، عندما قام بحرق كتبه عندما اتهم بالإلحاد.
أما التعصب الديني فقد مر عليه المؤلف مرورا سريعاً، ما كان ينبغي له أن يمر به هكذا، فكتب التاريخ والمصادر تذكر الكثير من أفعال التعصب المذهبي القائم على الجهل، وكان الحرق يتم إما فردياً أو جماعياً، ومنها حرق التتار لمكتبات بغداد، وحرق الصليبيين لمكتبات الأندلس، والتناحر بين المذاهب الإسلامية، حيث يحرق القوي كتب الضعيف، لأنها لم تتفق مع توجهاته وأنساقه الفكرية، ومنها إحراق كتاب «النصرة لمذهب إمام دار الهجرة» والذي حكم عليه أحد القضاة في مصر بالحرق، لأنه شافعي، وهذا الكتاب مالكي، وهذا دليل على عدم قبول الرأي الآخر داخل المنظومة الواحدة، فماذا نقول عن الكتب من خارجها. وهذا ما يؤسف له عن عدم قبول التعددية، فالإسلام لم يرفض الأديان الأخرى في التعامل، والدليل قوله تعالى: {...لّكٍمً دٌينٍكٍمً وّلٌيّ دٌينٌ} فكيف يكون ذلك في دين واحد؟ ومذهب الإمام مالك يعمل به في بلاد المغرب العربي القريب من مصر..!!
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved