الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 22nd December,2003 العدد : 40

الأثنين 28 ,شوال 1424

خواطر مرسلة
من قديم أوراق الأديب الراحل عبدالله بن إبراهيم الجلهم رحمه الله
أعدها للنشر أ.د. عبدالكريم الأسعد
مُطالعات مختارة..!!

أبو الطيب المتنبي
هذه المطالعات تعود بنا الوراء نحواً من قرون عديدة حينما كان أبو الطيب «المتنبي» بطل هذا الحديث يُجري مغامراته ومطامحه في بيْدٍ مخيفةٍ من البيئات المختلفة الفهوم والمتباينة المدارك والعقول فيعود منها أبو الطيب في بعض الحين بمغنم كبير وربح طائل وشهرةٍ أدبية عريضة.. فقد رُزق طيب الله ذكره رغم الكائدين والحسّاد نباهةً في الذكر، وشمولاً في الصيت لم يتحقق لأحد من قبله وربما لا يتحقق لأحد من بعده.
سار شعرُه كلَّ مسير ورُويت قصائده في كل أرضٍ وجغرافية، واشتدَّ التعصُّب له والتعصُّب ضده بين أرباب العلم والأدب وفي أوساط السلطة والسلطان حتى بلغ حدَّ الهوس والشَّجر والخصام.. روى بعض أصحاب العالم الأديب «ابن العميد» أنه دخل عليه أحدهم في مجلسه فوجده واجماً حزيناً وكان قد مات حبيبٌ له منذ أيام فظنه محزوناً عليه، فقال له: طب نفساً أيها الوزير.. لا أحزنك الله..!! فرفع طرفه إليه وقال: إنه ليُغيظني أمرُ هذا المتنبي وكلفي في أن أخمد ذكره.. ولكنني أفاجأ اليوم بنيِّف وستين كتاباً في التعزية بفقيدي ما منها إلا وقد صُدِّر بقوله:
«طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ
فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ»
«حتى إذا لم يدع لي صدقُه أملاً
شرقتُ بالدمع حتى كان يشرق بي»
بسطت دولة الأدب والشعر للمتنبي ذراعيها وأحضانها فأصبحت لا يستجير الآبق منها بمعتصم، ولا يعيذه من النظر إليها عمى، ولا من سماع دويّها صممٌ ولجاج... وهو الذي يقول:
«أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ»
«أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم»
وهو القائل سَلِم لسانُه:
«وما الدهرُ إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهرُ منشدا»
«فسار به من لا يسير مشمِّراً
وغنّى به من لا يُغني مغرِّدا..»
وحسب طبيعة الأحوال، فلا بد لهذه الشهرة الفسيحة من حُسَّاد وناقمين يقفون لنبوغ العباقرة بالمرصاد فكان حظُّ «المتنبي» من هؤلاء وافراً وجسيما.. لذلك تعذّبت نفسه وخابت آمالُه في الحياة والأحياء، فعاش بين أعداءٍ له ما من صداقتهم بدُّ.. قنع من صداقتهم بالإشارة والابتسام، وشكا من كل من يصطفيه لأنه بعض الأنام.. فلا تكاد تخلو قصيدة له مَن ذكر الحسَّاد والملامة منهم حتى بلغ به الأمر أن سمَّى ابنه «مُحَسَّدا» وما هو من الأسماء المطروقة والمقبولة، ولكنَّ نفس «المتنبي» أبت إلا أن تعلن جواها بفلذة كبدها وأن تبدي مكنونها وحسبُك منه أنه القائل:
«ماذا لقيتُ من الدنيا وأعجبُهُ
أنى بما أنا باكٍ منه محسودُ»
وحسبُك أيضا أنه رسم صورةً ناطقةً لشقائه وعذابه فقال:
«أُعادَى على ما يوجب الحبّ للفتى
وأهدأ والأفكارُ فيَّ تجولُ»
ويبدو أن «المتنبي» لم يكن ممن شُغفُوا بمحاسن الطبيعة وبهائها ومفاتنها، غير أنه كان ممن يُقبلون على جهاد الحياة ولأوائها ويلجون معاركها فيحصون عليها هزائمها وانتصاراتها ويكتبون لها حسناتها وسيئاتها ولذكل أخرج لنا من شعره معرضاً حافلاً بكل ما يحوِّم في فلك النفس السايحة... وترك لنا خزانةً حاويةً لفنون الحكم والأمثال والقواعد المقررة..!!
أفسح الله مجال العبرة «للمتنبي» إذ أحيا والله في ذلك العصر الذي كان مميّزاً عن غيره من العصور بالمطامع والمطامح والدعاوى والشهوات والتقلبات.. لذلك لم يترك دخيلة طبع ولا وديعة نفس إلا استفزها وحفزها ورجَّ وعاءها كما تُرجُّ القارورة لاختبار ما بداخلها فأبرز صورة ذلك العصر للعين بصفوها وكدرها وسار شعره آنذاك وبعده مسير الشمس في رابعة النهار...
وإذا اتجه «المتنبي» إلى ميدان الحياة، وانصرفت نفسه تصوّر ببراعة ما بين الناس من الدوافع والعواطف والصلات، فهو الجدير بأن يسمعك أصداء النّفس البشرية في جهرها وسرها ونجواها وفي اشتياقها وانقباضها وفي ارتفاعها إلى معارج الخير وتردِّيها إلى مهابط الشر.. وهو الذي يترجم ألغازها وكناياتها فإذا هي كلمات مأنوسة محسوسة، وإذا هو يجمع هواجسها وسوانحها فإذا هي قوالب سليمة ملموسة..
قد يُطْربك بعض الشعراء في غزله، أو يعجبُك في وصفه، أو يشجوك في شكواه ورثائه ولكنه لا يجد فيك هذا الطرب حينما يقرع خيالُه غرضاً آخر من القول.. بَيْد أن «المتنبي» حيثما أرسل لحنه وحرك أوتاره فستصفى إليه النفس طائعة مختارة.. ففي مناسبةٍ «خاصة» وهو إذ ذاك في مصر مجاور «لكافور الأخشيدي» نظم قصيدةً رائعة يصوّر فيها أحوال الزمان وشؤونه ومواقف النفوس من صروفه وأحداثه.. ولم يُنشدها «كافوراً» لوجدة في نفسه:
«صَحِبَ الناسُ قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولَّوا بغصةٍ كلهم منه
وإن سرَّ بعضكم أحيانا»
«رُبما تُحسِن الصنيع لياليه
ولكنْ تكدِّر الإحسانا
كلّما أنبت الزمانُ قناةً
ركّب المرءُ في القناة سِنانا»
«ومُراد النفوس أصغرُ مِن أنْ
نَتعادَى فيه وأنْ نتفانا
غيرَ أن الفتى يلاقي المنايا
كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا!!»
ولو أنَّ الحياة تبقى لحيّ
لَعَددنا أضلَّنا الشجعانا
وإذا لم يكنْ من الموت بدٌ
فمن العَجْز أن تكون جبانا!!»
وبمناسبة أخرى، وعند فراقه الأليم لممدوحه ومحبوبه الخاصّ «سيْف الدولة» أنشد «كافوراً» قصيدة رائعة يمدحه فيها ويُعرّض بسيف الدولة في بيتها الخامس فما بعده ولكنْ على مضض وأسى لأنه في قلبه ومشاعره:
«كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً
وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقاً فأعيا أو عدواً مُداجيا»
«إذا كنتَ ترضى أن تعيش بذلة
فلا تستعدنَّ الحسام اليمانيا
فما ينفع الأسد الحياء من الطّوى
ولا تُتَّقى حتى تكون ضواريا»
«حَبَيْتك قلبي قبل حبِّك من نأى
وقد كان غدَّاراً فكنْ أنت وافيا
واعلم أن البيْن يَشْكيك بعده
فلستَ فؤادي إن رأيتُك شاكيا»
«إذا الجود لم يُرزق خلاصاً من الأذى
فلا الحمدُ مكسوباً ولا المالُ باقيا
وللنفس أخلاقٌ تدلّ على الفتى
أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا»!!
إلخ
وفي غمضة عين، يتجرد «أبو الطيب» عفا الله عنه من مديحه ل«كافور» الذي لم يطفف فيه لممدوحه ولكنْ لم يكن يصطفيه ويرتضيه ممدوحاً له فيهجوه بقصيدة حادّة بذات الوزن والقافية وذلك حينما نهض «كافورٌ» بعد سماعه لقصيدته السالفة فيلبس نعله ويهمّ بالخروج فيبصر «أبو الطيب» على بُعدٍ منه شقوقاً في رجليه.. وكان قد ضاق ذرعاً بالمقام عنده دون طائل يرجوه منه فيقول:
«أُريك الرضا لو أخفت النفسُ خافيا
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
تظنُّ ابتساماتي رجاءً وغبطةً
وما أنا إلا ضاحكٌ من رجائيا»
وتعجبني رجلاك في النَّعل إنني
رأيتك ذا فعل إذا كنتَ حافيا
ولولا فضولُ الناس جئتك مادحاً
بما كنتُ في سرِّى به لك هاجيا»
فأصبحت مسروراً بما أنا منشدٌ
وإن كان بالإنشادِ هجوك غاليا
ومثلك يُؤتى من بلادٍ بعيدة
ليضحك ربَّات الحِداد البواكيا»
رحم الله «المتنبي» وغفر له فقد كان وقد خُلَّت للأجيال الباحثة والدارسة المتعاقبة ثروة أدبية وشعرية.. خلّت ذكره وأعلت قدره.. وإن كان «كافورٌ الأخشيدي» لا يستحق منه هذا الهجاء المرَّ ولكن لكل جوادٍ كَبْوة، ولكل إنسانٍ هفْوة..
ومغفرةً منك ياربِّ ورحمة،،،


عبدالله البراهيم الجلهم
عنيزة 29/8/1374هـ

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved