الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 23rd January,2006 العدد : 137

الأثنين 23 ,ذو الحجة 1426

مأزق النهضة التاريخي!

ميشيل كيلو
لم تترك النهضة العربية التي بدأت في نهايات القرن التاسع عشر مسألة من مسائل السياسة إلا وطرحتها انطلاقاً من أرضية ثقافية - معرفية حديثة.. وأدخل ما يمكن تسميته فكر النهضة إلى العقل السياسي والثقافة العربية - الإسلامية منظومة جديدة من الأفكار والمعارف، لاعتقاده أنه يجب أن يأخذ العرب بها أيضاً، لأنها أسست الحداثة الكونية، ووضعت أوروبا في موقع القيادة والريادة من العالم المعاصر، وجعلتها نموذجاً ومثالاً، تعني إعادة إنتاجه داخل بلد ما تحديثه وتقدمه.
لكن النهضة العربية لم تحقق أغراضها، بل وفشلت، كما يزعم غالباً بعض التغريبيين الذين يرون في التطور تنامياً من بذرة بسيطة إلى نموذج كامل هو النموذج الغربي الذي يتقدون أنه لم يتحقق عندنا، ويخلصون من ذلك إلى أن فشل النهضة كمشروع تاريخي، حتى في تحقيق ذاتها جزئياً ضمن بيئتنا التاريخية ذات السمات الثقافية والسياسية الخاصة.
يطرح هذا الاستنتاج سؤالاً مهماً وراهناً: لماذا فشلت النهضة عندنا، بينما أخرجت غيرنا من ظلام العصر الوسيط إلى نور العصور الحديثة، ومن تأخره إلى تقدمها، وحولته من موضوع ينفعل بغيره إلى ذات فاعلة تلعب دوراً رئيساً في تعيين شروط تقدمها وتقدم الآخرين والعالم؟
ثمة أجوبة على هذا السؤال تتصل بفكر النهضة، تقدم بعضها الجماعات الإسلامية بوجه عام، بينما يتصل بعضها الآخر بالمجتمعات العربية - الإسلامية، تقدمه عموماً مدارس وجماعات الحداثة المختلفة.
تقول الجماعات والتيارات الإسلامية إن فكر النهضة الغربي فشل لأنه لا يلائم مجتمعاتنا ولم ينبعث من تاريخنا، كما أنه لم يقم بأية وظيفة عندنا، فبقي برانياً وخارجياً وسطحياً، ولم ينجح في تخطي نخب صغيرة إلى عمق المجتمعات العربية - الإسلامية، وافتقر إلى شرعية شعبية أو مجتمعية تعينه على التوطن في بلداننا.
وتضيف هذه الجماعات والتيارات أن فكر النهضة نشأ وتبلور في حاضنة تاريخية وثقافية وسياسية مختلفة عن حاضنتنا، لذلك افترض توطنه عندنا مروره في مرحلتين: مرحلة أولى يتم خلالها إزاحة فكرنا الخاص ونزع هويتنا، ومرحلة ثانية يحل أثناءها محلهما. وبما أنه فشل في الأولى، فقد كان من الطبيعي والمنطقي أن يفشل في الثانية. في هذا الفهم، يعد فشل النهضة العربية دليلاً على أصالة ثقافتنا وقوة وعينا بها، بالنظر إلى أن النهضة ليست في حقيقتها غير محاولة أجنبية لاختراقنا، كان من الضروري صدها بما لدينا من ثقافة تجسد هويتنا، ولو كنا فشلنا لكنا الآن في معضلة قاتلة. بكلمات أخرى: لو وجد فكر النهضة الحديث حاملاً تاريخياً عندنا لما فشل، رغم أنه فكر غريب عنا ومجافٍ لثقافتنا وهويتنا.
يوافق أصحاب النظرة الحديثة على الاستخلاص الأخير، المتصل بافتقار النهضة إلى حامل تاريخي من داخل مجتمعاتنا، أو بعجزها عن بلورة حامل كهذا، ويختلفون مع الجماعات الإسلامية في أسباب الفشل التي لا يعزونها إلى أسباب ثقافية تتصل بالهوية، بل إلى تقصير سياسي - تنموي عجز عن تأسيس ركائز مجتمعية تستطيع تحقيق ثورة صناعية شبيهة بالثورة الصناعية الأوروبية، من شأنها تغيير بنية المجتمع ونسف ما هو تقليدي ومتخلف في علاقات مكوناته بعضها ببعض، وخلق الحامل التاريخي الضروري للتحديث. يوافق أصحاب هذه النظرة الإسلاميين على جانب آخر، هو أن فكر النهضة جسد نموذجاً يختلف عن النموذج الإسلامي، ولأنه فشل في استزراع نفسه داخل وعي الإنسان اليومي، فقد فشل في تغريب مجتمع ومواطن العالم العربي، مما أبقى أسس النهضة برانية بالنسبة إلى دوله وبلدانه، وجعل منها، في اتفاق ثالث بين الحداثيين والإسلاميين، لصيقة وضعت على جسم غريب، فرفضها وجعلها عاجزة عن التفاعل معه وعن إمداده بشيء مفيد. تقول هذه النظرة: إن فشل فكر النهضة في تحقيق ذاته كنموذج كامل، وتحققه على مستوى جزئي، تسبب في خضوع مكوناته للنموذج الأصلي القائم الإسلامي الهوية، وفي قيامها بوظيفة مغايرة لوظيفتها الأصلية والمفترضة. لذلك يصعب القول إن فكر النهضة تحقق جزئياً، ومن الضروري الاعتراف بأنه اندمج في المنظومة الثقافية - المعرفية التقليدية القائمة، وعزز، بهذه الآلية ولهذا السبب، ما كان يفترض به إزاحته، من العقول والنفوس قبل كل شيء.
بدورها، تعترف مدارس الحداثة السياسية - الفكرية بمعضلة الحامل، التي اعتقدت أن حلها ممكن من خلال قيام كل واحدة منها ببلورة كتلة تاريخية حديثة خاصة بها داخل المجتمع التقليدي، تتكفل، عبر عملية تفاعل موجهة ضده، بتحطيمه وإحلال مجتمع حديث على أنقاضه. هذه الوصفة في التحديث عبر الثورة، وفي تغيير الكل عبر جزء مناهض أو مناقض له، اعتمدتها مدارس الحداثة المتباينة: الستالينية، والقومية، والليبرالية التي استهدفت جميعها زرع منظومتها الفكرية الحديثة أول الأمر في وعي نخبة بعينها، على أن تنقلها فيما بعد، وقد تحولت إلى بنية، إلى مجتمعها التقليدي الذي سيتغير ويتحدث بقوة المجال السياسي وبواسطة أدواته، بما في ذلك الإكراهية منها.
يعد فشل النهضة أولاً وأخيراً فشلاً لهذه المدارس جميعها. ومع أن هذا موضوع يمكن أن تفرد له صفحات كثيرة، فإنني سأكتفي هنا بطرح الأسئلة الثلاثة الآتية من وحيه: هل يمكن أن تقوم اليوم نهضة عربية - إسلامية عبر فكر نهضة حديث، كوني وغربي، في ظروف يتزايد خلالها بروز مسألة الهوية ويتحول الصراع بيننا وبين الغرب إلى صراع حضارات؟ وهل يتوفر اليوم في مجتمعاتنا وبلداننا حامل تاريخي ملائم لنهضة كهذه، علماً أن مشكلاتنا الحالية ليست أقل بل هي أكثر خطورة من مشكلات أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؟
وهل في حياتنا الراهنة فكر غير الفكر الديموقراطي يستطيع بناء هذا الحامل، بما له من جوامع ومشتركات، وما يمتلكه من جاذبية في عصر يصعب اللحاق به وبلوغه بغير إرادة وطنية ومجتمعية عامة وموحدة، سبيلنا إلى قيامها الإنسان الحر الذي غدا دوره خياراً إجبارياً، بعد أن فشلت جميع الخيارات الأخرى، طيلة قرن ونصف قرن؟ أخيراً، هل يمكن للفكر الإسلامي، وبأية شروط ومضامين، تحقيق النهضة العتيدة، وفق منطلقاته ومراميه، إن كان يرفض البديل الديموقراطي وما يضمره من حداثة يعدها ذات شبهة كونية وغربية؟
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved