الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 23rd January,2006 العدد : 137

الأثنين 23 ,ذو الحجة 1426

أنا وسعاد حسني ومراكز الحدود

*قاسم حول
عندما أدخل بلدا عربيا وأرى على الجدار إعلانا ممزقا لمطرب عربي يقيم حفلا ولصق فوقه ملصق لرئيس البلاد وإلى جانبه إعلان عن مسحوق جديد لغسل الملابس، ثم أجد شعارا مكتوبا على الجدار بالبوية عن موعد انتخاب نائب منطقة الشمال أو الجنوب أو العاصمة، فإني لست بحاجة لمعرفة السياسة الخارجية لذلك البلد.
وعندما أدخل وسط المدينة وأجد شخصاً قد احتل ساحة أو رصيفا عريضا وفرش عليه أشرطة كاسيت صوتية وإلى جانبه جهاز تسجيل وقد علق على حاجز الجسر مكبرا للصوت ومكبرا آخر على شرفة بناية وثمة صوت لمغنية ريفية تغني على إيقاع الطبل وينطلق الصوت وسط أبواق السيارات وصفارة شرطي المرور في عصر الكمبيوتر وبرمجة التقاطع ومجسات السرعة، فإني لست بحاجة لحضور المهرجان السينمائي أو المسرحي والاستماع لكلمة الافتتاح لوزير الثقافة في ذلك البلد؛ لأن كل ذلك يبدو لي محض افتراء. حكاياتي مع أمتي أصدرت عنها كتاب يحمل عنوان (مذكرات جواز سفر) تركت لجواز سفري وأختامه ليتحدث عن معاناته نيابة عني!
وصراحة توقفت عن زيارة الكثير من البلدان العربية منذ سنوات.. واعذروني. أنا مخرج سينمائي عراقي غادرت بلدي قبل أكثر من ثلاثين عاما ولم أعد لوطني حتى كتابة هذه الخاطرة.
***
مركز حدود رقم (1)
وصلت على متن طائرة عربية. نزلت. وصلت إلى رجل الأمن. استغرق ختم جواز سفري أربع ساعات. الرحلة من اليونان حيث كنت أقيم استغرقت للوصول إلى ذلك البلد ثلاث ساعات. سمح لي بالدخول بعد أن تعبت من الحديث ومن الجوع ومن الاتصالات الهاتفية مع وجود تأشيرة دخول على جواز سفري. وجدت حقيبتي تدور وحدها داخل المطار. كنت آتيا إلى ذلك البلد لتصوير مشاهد في الصحراء لأحد أفلامي. عادة أنا لا أحب كثرة الحقائب ولا أحب الحقائب الكبيرة. أعمد إلى حمل حقيبة واحدة متوسطة الحجم وبعجلات تساعدني في الوصول إلى الفنادق دون إرهاق يضاف إلى تعب السنوات والتشرد. ولأنني كنت أصور مشاهد سينمائية وفي الصحراء فإن الحال يستدعي أن أكثر من الملابس الداخلية والقمصان والكثير من أدوية الصداع والمعدة وأدوية ضد لسع الأفاعي وكذلك بعض المعلبات هذا إضافة إلى نسخ السيناريو والديكوباج وبعض الروايات وديوان شعر أتمتع بقراءتها عند التعب وفي أيام الاستراحة، وعدد من أفلام الفوتوغراف والكاميرات الفوتوغرافية والعدسات وناظور العمل السينمائي بحيث يصعب فتح حقيبتي وغلقها.
كنت أتمنى أن يرحمني رجل أمن الجمارك ويثق بي ويوفر علي فتح وغلق الحقيبة بعد تفتيشها.
كان رجل الجمارك العسكري يقف عند ممر المغادرة. قال لي افتح حقيبتك. فتحتها.
بدأ يخرج محتوياتها قطعة قطعة الكاميرات والأفلام والناظور السينمائي والأدوية والمعلبات والسيناريوهات والأسبرين وكان يسألني فأجيبه بكل هدوء وقدمت له رسالة مؤسسة السينما التي تسمح لي بالتصوير وقرأ اسم الفيلم وطلب مني أن أغلق الحقيبة وأخرج. وبصعوبة بالغة أعدت المحتويات للحقيبة وتمكنت من غلقها. حملت حقيبتي وكان عسكري آخر أعلى رتبة من الأول يقف على بعد بضعة أمتار، فطلب مني أن أضع الحقيبة على الطاولة وأفتحها. قلت له: لقد فتش زميلك حقيبتي وأنت كنت تنظر إلينا. لم يعجبه الكلام. فبدأ يسألني وأنا أجيب:
- ماذا تعمل؟
- عاطل عن العمل!
- وكيف تعيش؟
- أنا لست على قيد الحياة!
- كيف؟
- ميت يمشي على رجليه!
- أين تقيم؟
- في اليونان
- أعطني جواز سفرك.
قدمت له جواز سفري. قرأ المهنة (مخرج سينمائي) سألني:
- وكيف تقول عاطل عن العمل وأنت مخرج سينمائي؟
- نعم أنا مخرج سينمائي ولكني عاطل عن العمل.
- هل تعرف سعاد حسني؟
- طبعا أعرفها.
- أقصد، هل تعرفها شخصيا؟
فكرت أن أقول له نعم عسى أن أضفي أهمية على شخصي من خلال أهمية سعاد حسني من وجهة نظره..
قلت له:
- نعم أعرفها.
- شخصيا.
- نعم شخصيا.
- حسنا. أعطني عنوانك في اليونان وسأزورك هناك، وأريدك أن تعرفني على سعاد حسني!
***
مركز حدود رقم (2)
نزلت في مطار بلد عربي بعد أن حصلت على موافقة لتصوير مشاهد عن المرأة في ذلك البلد.
وقفت في الصف منتظرا ختم جواز سفري وعليه تأشيرة الدخول. كان ثمة عسكري يتطلع إلى الواقفين. أشار لي بالخروج من الصف. اقتادني إلى غرفة. دار بيننا الحوار التالي:
- أنت فلسطيني؟
- كلا لست فلسطينيا.
- بل أنت فلسطيني!
- كلا لست فلسطينيا.
- أنت مسلم؟
- الحمد لله.. مسلم.
- أقسم بالله العظيم أنك لست فلسطينيا.
- أقسم بالله العظيم أنني لست فلسطينيا.
- هل أنت فدائي.
- كلا لست فدائيا.. أنا شهيد!
- من أي بلد أنت؟
- من العراق.
- ولماذا لا تحمل جواز سفر بلادك؟
- حكومتي لا أروق لها ولا تمنحني هذا الحق.
- اذهب إلى صالة الانتظار هناك وطائرتك ستعود إلى اليونان بعد ساعتين.. عد من حيث أتيت!
- ولكن عندي تأشيرة دخول لبلادكم وعندي تصوير فيلم.
- هذا لا يعنيني.. تأشيرتك من وزارة الخارجية. ونحن هنا وزارة داخلية! عد من حيث أتيت.
جلست في صالة الترانزيت وكانت امرأة تتطلع نحوي وأنا أعالج دمعة في عيني تكاد تسترخي فترتد...!!
***
مركز حدود رقم (3)
بعد أن أنهيت تصوير المشاهد الخارجية لفيلم (عائد إلى حيفا) أخذت معي الممثل لتصوير بعض المشاهد الداخلية للفيلم في بلد عربي. كان ذلك بعد سنوات من هزيمة حزيران وما سمي بحرب الأيام الستة التي هزم فيها العرب في ستة أيام. قالوا لي إذا كانت هناك أختام على جواز سفرك فسيسمحون لك بالدخول وفي حال كان جواز سفرك جديدا فلا يسمحون لك بذلك. كان جواز سفري مليئا بالأختام والحمد لله. أما الممثل صاحبي فكان جواز سفره جديدا وبدون أختام في الدخول والخروج والتأشيرات. لم أصدق الحكاية لأنها خارج المنطق. وصلت نقطة الحدود. قدمت الجوازين. ختم العسكري جواز سفري وأعاد لي جواز سفر صاحبي الممثل وقال عليك باستحصال موافقة من (المعلم.. العميد.. في تلك الغرفة). طرقت الباب ولم أسمع جوابا.. حاولت ثانية ولم أسمع جواباً. فتحت الباب. شاهدت مجوعة نياشين عسكرية خلف طاولة ولم أر وجه المعلم العميد حيث كان قد أرخى كرسيه إلى الوراء وهو يقرأ في مجلة الشبكة. سلمت عليه فلم يرد علي السلام. بدأت أشرح له الحكاية. قلت له.. والفيلم عن فلسطين والكاتب هو الروائي غسان كنفاني وأنا مخرج الفيلم وصاحبي سيلعب دورا في الفيلم والكل في انتظارنا ونريد موافقة سيادتكم على جواز سفر صاحبي الممثل لأن جواز سفره جديد وليس عليه أختام بالدخول والمغارة، فباسم فلسطين والقضية العربية أدعو سيادتكم بالموافقة لتصوير مشهد الفيلم السينمائي (عائد إلى حيفا).
لم يرفع المجلة عن وجهه، بل أشار لي بإصبعه أن أغادر الغرفة. خرجت وصاحبي. قلت له:
- لقد عاملنا بهذا الازدراء وهو مهزوم.. كيف سيعاملنا لو كان منتصرا؟!
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved