الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 23rd January,2006 العدد : 137

الأثنين 23 ,ذو الحجة 1426

خالد الأنشاصي..
و(موسيقى الجنائز)

محمد الدبيسي
بكل ما يمكن أن تضفيه (الحميمية) لحظة تكونها وانهمارها.. وبكل ما يمكن أن تدره من شعور يستقي تفاصيل اللحظات تلك.. ويتجاوز بها حرارة الإلف الشخصي، وإطار الانفعالات العفوية الغريزية،بالناس القريبين من الشاعر، من ذاته أو تفكيره واهتمامه وكذا الأمكنة،إلى مكمن من مكامن العلائق النفسية والوجودية الأبقى،بينه وبين هذه المكونات.
*) فكأنه يستل من دفئها صوتاً حزيناً.. تحترفه ذائقته الشعرية،عبر مكوناتها الحميمية،فينسج نصوصه الومضية والفائرة بإيقاعها ورسمها ومساحاتها وأجزاء البياض المحيطة بها، ونسب توزيعها على ذلك البياض.. وخارطة تشكل جملها ومفرداتها على مساحاته، والمنظم بشكل نصاني، وقصد دلالي فائق الدقة.
** نصوص (الأنشاصي).. لا تفتعل حميميتها.. ولا تعبر لحظاتها الخلاقة، أو تبتسر دفئها الآني،وزخم تبلورها الفني.. أو ترسم خيالاتها الوهمية على الوجوه والأشخاص..؟ فتثقلهم بزوائد التعبير والتفسير..؟ إنها أقرب إلى أن تكون حميمية (الروح والموقف).. وليست وقدة الانفعال النفسي العاطفي.. وحدة الشعور اللحظي المباشر.. أو تشظياته التي تتوسل باللغة وهندسة أسلوبيتها،لتعبر عن طاقاتها الدفينة وزخمها النفسي.
ففي نصوص لا تتجاوز (مائة صفحة) من القطع الصغير.. لا يتجاوز أقصرها أربعة كلمات.. يعتمد (الأنشاصي) الاقتصاد اللغوي المنطوي على طاقة شعورية من حميمية (الإنسان - الشاعر) مع فضائه المواتي القريب.. الأصدقاء الذين تجلت أسمائهم كعناوين ل(ست قصائد).. تراءت كرسائل وصفية تأملية، تدقق في زوايا خفية في ذواتهم.. يكشفها الشاعر ويضيئها عابراً بهم ومعهم وحشة الغربة الحزينة إلى لذة المناجاة: (مازن عليوي.. تبحث في ملوحة البحر - عن نهر - تُرى- هل تستطيع أن تنام في ظلالها - دمشق- وأنت بين ذلك الركام.. -... - تنام!!.))
** إن ما عنيناه بحميمة (الروح والموقف).. هو ذلك التجاوز للحظة الانبهار العابر أو وقدة الشعور المفاجئ أو الدائم، والعواطف العلائقية بالآخرين، وتصور سدى الارتباط بهم وماهيته،إلى اعتبار هذه الشعرية التي ترسم موقفها الحميم من الذات والمكان والآخر..؟
فالآخر.. لدى (الأنشاصي) هو عالمه القريب: الأب والصديق والزوجة و(المرأة)، محيطة النفسي الذي تشع منه القصائد فكأنها صبابات بوح، تستاف من روحه تشكلها،فلا تبين إلا عن ذلك النزر من الكلمات التي يتعامد فيها التكثيف اللغوي والزخم الدلالي للفظة،وموقعها في السياق النصي،بإيقاعها الموسيقي والنفسي،الذي لا تحكمه أحياناً وحدات وزنية، بل ينفلت منها محققاً إيقاعا داخلياً - تنجزه الثنائيات والتقابلات الضدية لأجزاء الجمل الشعرية، ومقاطعها بدءاً من العنوان (موسيقى الجنائز) كعتبة تصل تلك المساحة من لوحة الغلاف وشمسها الغارقة في لحظة غروب باتجاه الانطفاء، بينما ينعكس احمرار شفقها على البحر، ليحيله إلى لون ناري، وعتمة سماء ذلك المشهد.. فلا يبدو ذلك الخيط من البياض إلا عبر تلك المساحة التي تفصل بين حيز الشمس المتلاشي وجزء السماء الداكن،ليشع باسم الشاعر واسم المجموعة. ويدنوها كلمة (شعر) لتبين الجنس الفني للمجموعة.
ذاتها الكلمة - شعر - تعود لتتوسط صفحة كاملة من (البياض) مؤكدة هذا الجنس؛ ورامزة إلى ضياعه،أو التقليل من جدواه.. عبر إحاطته بهذه المسافة من الفراغ.. يقابله الإهداء.. إلى ((سيدة الماء.. بعضاً من حقول العطش..)) ليعيد تأكيد ثنائياته الضدية الجدلية، التي تؤسس مفهوماً دلالياً للمفارقات المدهشة، كما ستلي في خواتم نصوصه، محيلة إلى إيقاع دلالي.. يحفز قابلية التلقي،متناغماً مع اتجاهها وانخطافها لهذه الإحالات، وفورتها الماتعة،التي لا ترهق قارئها،بل تمنحه متعة التذوق الجمالي، دون استنزاف فائض تأمل يتجاوز إطار لحظة التلقي ذاتها،إلى عناء فرز مكونات النص والمشاركة المضنية في توليف روابط الدلالة. أو اكتشاف مجاز المعنى...؟
ففي ((اعتزاز.. سامحيني عندما - أحط أوجاعي عليك - ألعن الذين يأكلون من كرامة الأحياء.. )) وكما اختار الأقربين لمحيطه النفسي،المألوفين لوجدانه،وانتقى خيطاً يشكل علاقته بهم ويعبر عنها،غير اعتيادات الألفة النفسية والتوافق العاطفي..؟
اختار كذلك أمكنته الأليفة،متجاوزا بها تقليدية علاقة الإنسان بالمكان،واشتراطات التناسب البيئي بينهما،باعتبار (الثاني) التجليات الأولى للذاكرة ومفتتح بصيرتها على الوجود والعالم..؟، ف(أنشاص) التي ينتسب إليها.. يشعل عبر نصها مفارقه المكان الذات - المكان الوطن.. في تعالق حميم يتقصى كل أبعاد الذات وأعبائها.. وأزماتها الوجودية،ليبوح بها للمكان،معلناً اعترافه بأمومته،ومشاركته اليأس من كل ما هو خارجه,عبر هذه الحمولات من الرموز والإشارات (الرائحة،الفول،الحمير،المواء) في سياق النص:- ((لم أفِ بما وعدت - ولم أعد محملاً بشيء - ولم أحاول مرة - أن أُزيل طينك القديم - لكنني استطعت - أن أمنح اسمي الصغير - رائحتك الشهية-ولم تزل أكلتي المفضلة - فولاً أخضر -كباقي حمير بلادنا.. إلا أن صوتنا - لم يزل مواء- مواااااء!!))
** ويأخذ الفضاء البصري للنص.. وإيحاءاته الدلالية عبر طريقه الكتابة،ورسم الكلمات عناية ذات مغزى،تعيد التوكيد على المعنى النصي وفي إطار حقله الدلالي، وبحكم إيقاعه، وذلك في نص (كتبوه) حيث يغاير في حجم بنط الكتابة،عن باقي النصوص، ويأخذ توزيع جمل النص على (البياض) دلالة تعبيرية، إذ يكتمل معنى الجملة في المسافة التي تنتهي فيه على السطر,.. بينما لا تشكل بقية الكلمة المجزأة- (م ف ر د ة) -أي معنى،في حالة فصلها عن الجمل التي قبلها، أو التي تليها والمنتصبة والمكتملة على سطر واحد ((ولا لبرودة طقس الفؤاد - إنما كشفته انكفاءاته فوق أوراقهم - كتبوه - من البدء- حتى- انتهاء الكلام)) وتكاد هذه الجملة القصيدة تشكل بؤرة النص.. وتجليه الفاتن.. وفيها -كما النص بعامة- تتجلى الثنائيات الجدلية بين الكلمات والجمل.. لتحمل الصفحة المقابلة من النص.. استئنافاً ينطوي على نتيجة المقدمة المتشظية على صفحتين.. (له الآن - أن يسترد دماه - يصفق للمانحين خطاه - إلى نقطة المحو - يفتتح الصمت - منفرداً - بالبياض) وقد تخطى الشاعر مسافة أسطر.. بين كلمة (منفرداً، والبياض) التي تلتها،وكأن هذه المساحة من الصمت (الكتابي) الموحي بالانفراد والقطيعة، لتليه كلمة (البياض) المعتبرة في الشعرية الحديثة دلالة على المحو والفراغ.. والمستند إلى دلالتها في سياقات شعرية متقاطعة ومتباينة،وإن كانت في أبرز إحالاتها الدلالية تلك،هي حالة من قلق الذات وعدمية الجدوى، ومن هنا يقوض (البياض) (الكتابة) المعنى، لتمنحه فاعلية حميمية، تتقصى ذلك ال(كتبوه) الذي يجسد أهم القيم الفنية في تجربة (خالد الأنشاصي).. المتعاضدة وبشكل مكثف مع قيمة أخرى، وهي الاتصال الدلالي المباشر،والتماهي بين عناوين النصوص، بداياتها وسياقاتها بشكل عام.
** العنوان لدى (الأنشاصي).. ليس جزءاً مختصراً أو مشيراً رامزاً لبنية النص.. بل تأكيد على علاقته العضوية به. وكمبتدأ دلالي للجملة الأولى منه، في تناغم سياقي يوظف قيمه الدلالية الرمزية والجمالية في العنوان،وربطه بالسياق النصي.
** إن هذه التجربة الفائقة الأناقة،في شكلها ومضمونها وأجوائها وتقنية كتابتها،وتنظيم تراتبها وتواليها النصوصي، وإيقاعها الهامس،التواق إلى تقصي أغوار الشاعر القريبة والمؤتلفة مع أفقها الإنساني الحميم،واستدرار مخزون روحه الوجداني، تشكل (موقف) الشاعر، المنحاز إلى مستوى (روحي) وجداني،تراءت علاماته النصية المتمايزة عبر هذا الكم النوعي من النصوص. حتى النصوص.. التي تشاكلت مع بعض قيم الواقع الحياتي العام،وأسئلة الوجود وتجلياتها على تصوره الشعري ووعيه الجمالي- عبر صيغ تساؤلية ساخرة..؟ - (سبتمبريات، لا جديد، اشتباك، سؤال سياق - بلا ظل) تجلى ذات النظام التعبيري بسياقاته اللغوية الشعرية، وتقنية تشكيلها النصي، وثنائياتها الجدلية،وبنيتها الإيقاعية المنسابة بألق صاف، والمؤسسة على رؤية جمالية خصبة.


* موسيقى الجنائز،شعر - خالد الأنشاصي،الطبعة الأولى 2004م إصدارات بدايات القرن
Md1413@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved