الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 23rd February,2004 العدد : 47

الأثنين 3 ,محرم 1425

أعراف
نقدٌ (أخف من الريش.. أثقل من الهم)
حول نهاية الشعر.. وحكاية الحداثة (3)
محمد جبر الحربي

لم أشأ يوماً أن أقف في زاوية مدافعاً عن نفسي، أو عن مشروع ثقافي، أو تجربة ثرية متنوعة، أو عن حركة شعرية، فكيف بي مدافعاً عن الشعر العربي العالي والباقي، من ذلك المكان الضيق.
ولذلك، لكل ما مضى من سنين تعب، وصمت، ومغالطات نقدية، وافتراءات تقودها أهواء، واستعداءات، وكلام هزيل من مبهوري ثقافة وشعر ما استووا أدباً، ولا استووا..، وليس من العدل، لا نريد، ولا نقبل أن يكون الغذامي الذي وهب عمره للنقد والتأليف منهم.
كان لزاماً عليّ أن اقف على ساحة، وأن أخاطب من علٍ، حيث المكان الذي مهدنا له عبر عمر من التجريب،لا التخريب. وعبر جهد ثقافي، لا ينكره إلا من زيف, أو دنس، أو تعامى عن حقائق وتواريخ مشرقة فاعلة وموجبة.
إن عدم مقدرة بعض النقاد على المتابعة، سواء أكانوا حبيسي أقفاص الأكاديمية، واسوار الجامعة أم كانوا من هواة مطاردة الصرعات والموضات، كما هو حال الراكضين خلف سراب تجاوز يعني النفي والإقصاء، لا التراكم والإثراء. كما يعني لديهم تشويه ما مضى لتبرير جمال ما هو آتٍ، ما أودى بهم الى ما هم عليه الآن، وأوصلهم الى تشبث بالضوء مبهر، حتى لو اضطرهم للوقوف على جثث الآخرين للوصول الى ما يعلي من شأنهم، ويرفع من قاماتهم.
ولو ضربنا مثلاً غريباً هنا،طالما ان القوم اغتربوا، وغرّبوا، فقلنا ان الموسيقى الكلاسيكية مثلاً لم تفقد وهجها، رغم المتغيرات الهائلة في الحضارة الغربية، ورغم الحروب، والثورات الصناعية والتقنية والمعلوماتية، والموجات الفلسفية، والمتواليات النقدية والفكرية، والإبداعات المتغيرة المتلاحقة، بدءاً من الروك، والبوب، والسول، مروراً بحركات السلام الهيبية ثم موجات (البنك) و (النيو ويف) حتى سجع الراب وصولاً الى الأغنية (الجنسية) الحديثة معنى ومبنى، إيحاء وتجسيداً.
كل ذلك التدفق اللاهث والسريع لم يزحزح موسيقى الأصول، بيتهوفن وباخ وموزارت، وبرامز، وتشايكوفيسكي، وبقية الكبار.
لأنها أساس من أسس الثقافة الغربية. أساس كقيمة مفردة، وأساس للباليه، وأساس للسينما أو في الأقل داعم لها، وأساس للسلام أو النشيد الوطني, عدا أدوارها في الطب، وفي صناعة السياحة: مطاعم وطائرات ومطارات..، وصناعة الأزياء.. الخ..
ونسأل لماذا؟!
فيقفز جواب وان كان بعيداً، وهو لأنهم لا يملكون نقاداً متسرعين كدكتورنا العزيز عبد الله الغذامي في رأيه الأخير في (الوطن) الجريدة عندما يقول: (القصيدة ليس هذا زمنها) كما هو حال غيره من النقاد العرب، من المستندين على حضارة يشرب منه ويسقيها الشعر، والملمين بحضارات الغرب، ليقولوا لهم: (الموسيقى الكلاسيكية ليس هذا زمنها) لأن مشروعنا النقدي (الغذامي وآخرون) قائم على النقد الثقافي.
والموسيقى كالشعر من عدة نواحٍ بل هي أسه ورافده.
وموسيقانا (شعرنا) عمرها آلاف السنين، وقاعدة صلبة من قواعد لغتنا وثقافتنا وحياتنا منذ أول بوح شعري وحتى اليوم..
فهل عليها، على الشعر ان يختفي لان الغذامي أراد له أن يختفي، فيما قامات، المعلقات، وقامات الشعراء كالمتنبي، وابي تمام، والمعمري، وآلاف من الشعراء من الجاهلية مروراً بثراء الحضارة عبر القرون العربية، الى اليوم عالية سامقة بيننا، وقطوفها نائية دانية؟!
بالطبع لا، ولذلك، لكل ذلك أدعوهم الى ان يفتحوا النوافذ على الأقل طالما أنهم لن يخرجوا الى الشوارع ليشاهدوا السيّاب الذي ما زال يصيح بالخليج. والبردوني الذي ما زال يسائل (مصطفى)، ويبكي الأوطان.
ومظفر الذي يصيح بقهر (بالريل وحمد) والعواصم وأمل دنقل الذي ما زالت نصائحه بعدم الصلح مدوية في ذاكرتنا ووجدانا، وما زلنا ندفع ثمن إغفالها من قبل من أرادوا تعمد إغفالها.
ودرويش الكرمل والزعنر وبيروت والحصار ورام الله، وسعدي، والمقالح، وعبد الواحد، والصائغ، ومن المدارس والتجارب المذهلة:
منذ ابن القيس، وطرفه.. إلينا.. الى الغد. ومنذ الخنساء، وولادة الى نازك وفدوى.. الينا الى الغد.
وعلى ذكر السياب (يصيح بالخليج)، ومظفر (يصيح بالريل)، فقد نشرت مقالاً في هذه الزاوية (أعراف) (بتاريخ 2341424هـ) عنوانه ( ليس الصراخ بحكمة) (رداً على مقال للغذامي بعنوان (الصراخ حكمة) نشر في جريدة الرياض بتاريخ 53 1424هـ ولكنه آثر تجاهله فما (صحت) لأنني آثرت (السمو فوق النفس).
وبما ان الغذامي كان قد قدم لنا نقداً عن لعبة (البلوت) فلا مانع هنا من ان نضرب مثلاً عبر لعبة اخرى، فنقول إننا لم نسمع بلاعب كرة يعتزل، فينعي لعبة كرة القدم، لان هذا ليس زمنها، لم يفعلها (بيليه) عالمياً، ولا فعلها (ماجد عبد الله) محلياً وعربياً وعالمياً.
ان الشعر العربي هو وجدان أمة وثقافتها، وهو ديوانها شاء من شاء، وابى واستكبر من ابى. وانه لحاضر في كل تفاصيل حياتنا، وانه لزاد المثقفين، والناس.. كل الناس، والمقاومين في جبهات المجد مع الأعداء، وهو وقود الفكر، ووقود القلب والعاطفة، وسند الحكماء واستشهاداتهم ، وزاد العشاق والمحبين للناس والأوطان، كما هو تعبير الأرواح الأسمى. وهو الذي أعطاكم معشر النقاد أسماءكم ومناصبكم، وواجهاتكم. وهو الذي تلجؤون إليه عندما يخونكم التعبير وتخونكم دراساتكم العليا، ونظرياتكم اللاهثة.
وموت الشعر، كما كان من قبل موت المؤلف لا يتحقق الا إذا لا قدر الله ماتت هذه الأمة العظيمة.
وموت الأمة نظرية ارتكاس لا تخلو من انجرار تآمري سواء أتت عن علم وقصد إيذاء أم جاءت عن اغتراب ونقص إيمان، وذوبان، في الآخر بثمن أم بدون ثمن. ومن الجلي أنه لا يؤمن بها، أو ينساق وراء خوائها الا من تأمرك، أو بلغ اليأس منه مراحل لا شفاء منها.
وأنا هنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وارفع دكتورنا الفاضل فوق ذلك، (وأسمو به فوق) جوقة المتأمركين الذين ازرقت عيونهم، وكادوا يحرقون أعيننا بشقرة شعرهم، وانعكاسات جلودهم، تحت شموسنا الفاضحة الماحية.
وأمتنا أمة حية فريدة بين الأمم ولولا عظمتها لما استهدفت عبر التاريخ مراكزها الحضارية والدينية والثقافية، ولا روحها كما هو حاصل اليوم فيما يتناطح المثقفون حول التجاوز والسمو. وقد أرادها الله هادية ويسر لها ذلك عبر بيانها، ولغتها العربية الخالدة، فكانت لسان قرآنه الكريم: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ )(103) سورة النحل، وحكمه وكذلك أنزلناه حكماً عربياً {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} (37) سورة الرعد.
وظلّت ناصعة عالية فوق اللغات ببيانها العظيم، وشعرها الذي لا شعر مثله، وقصيدها الذي لا تهزه الموجات ولا النظريات.. وقصيدتها العذبة الدافنة المتحركة المحركة التي لا يمحوها حوار هاتفي سريع مع محرر للوطن أو غيرها.
أما فيما يخص كتاب الغذامي الجديد (حكاية الحداثة) فلست بالمتحمس لقراءته بعد ان تابعته على شكل مقالات في صفحات الرياض الثقافية، فلم تعجبني الحكاية من بدايتها، ولا أعجبني تصريح الغذامي الأخير للوطن.
لان في الحكاية والتصريح طمس لحقائق وتواريخ وجهود واعلام، لم يُسعفوا بلطف الغذامي ساعة كتابته للحكاية، أو لحظة كتابته لها، أو لم تسعفهم مزاجية الحالة، والظرف، والأوان الذي كتبت فيه الحكاية.
أو لم يسعفهم حضورهم غير المتوائم مع الرغبات الكامنة، والمسكوت عنها، حين كتابة الحكاية وهكذا أسدل الستار، واقصيت مرحلة من عمر نبيل من العمل الثقافي، بسبب حكاية صاغها الدكتور لا غافلاً، بل عارفاً، ليصبح في مقام المتقصد وأد مرحلة حاسمة، ومفصل مهم، لمحو (عارٍ) يخشى من ان يمسه في سعيه الحثيث نحو مشاريع ونظريات وامجاد اخرى لا يريد لها ان تتشوه بذكر اسمي، وأسماء غيري.وبما أنني أتحدث هنا باسمي، وكم أجد هذا مرّاً أقول لدكتورنا الفاضل، ان اسمي مقرون بالنبل والخير والفعل النجيب، وهو معجون بالإيمان والحب، وهو نظيف من الشبهات، وهو مستمر بعون الله شعراً ونثراً وفعلاً ثقافياً الى ان يتوفني الله برحمته.
وقد كنت ولا زلت كاتباً وشاعراً ملتزماً، ثابتاً، سامياً.
والحمد لله ان لدي من الجمال والصدق ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة من المبدعين، ولكنني، والحمد لله مرة اخرى، ومن قبل ومن بعد، قد اعتبرت من (قارون) فلم ابطر وما زادني الألق الا تواضعاً، ولم ابخل على ساحة عطشى.
وإذا ما كان من حق الغذامي ان ينظر ما شاء حول التجاوز، فإنه لا يملك الحق بأن ينزع عني صفة لأزمتني وهي السمو بالنفس. وللحقيقة لا للتمظهر، أحب أن أحيل دكتورنا الفاضل، الى قصيدتي (الفارس المطعون بحراب الأهل) والتي نشرت قبل أشهر وقد رأى المئات من المثقفين والمتلقين أنها استمرار لروح الشعر الجميل، أو كما يرى الأخ القاص سعد الدوسري في زاويته في الرياض أنها عادت ثقته بالشعر، وقد نشرت في كل من الحياة والفيصل، و26 سبتمبر، وعدد كبير من المواقع الإلكترونية، كموقع قاسم حداد، وخطى، وجسد الثقافة، وغيرها من المواقع وأثارت ردود فعل جميلة، كذلك (وطن الجنى) و(ست البنات) والعظيمة، والمعلقة العراقية..) إضافة الى الطبعة الثانية من ديوان (خديجة) الذي يعرض في معرض القاهرة للكتاب، إضافة الى العمل الصحفي في الجزيرة عندما زارنا مدعواً مع غيره من الأدباء والفنانين والإعلاميين في تطوير بديع للجزيرة، كفعل موجب تشرفت بالإسهام فيه، والكتابة المستمرة في زاويتي (أعراف)، و(للريح للمطر) والكلام الأخير لليمامة.
ان تجربتي الحديثة التي يريد اختصارها الغذامي لم تكن عبر القصيدة فحسب بل كانت فعلاً ثقافياً تشرفت به، وواصلت القيام به، وسأستمر بعون الله.
وان تحوير حكاية الحداثة من قبل الدكتور الناقد عبد الله الغذامي أو القفز على تفاصيلها لا ينفي وجود حركة ثقافية شعرية حديثة نمت وتتنامى منذ النكسة 67، عدا الإيماءات والومضات والتجليات الفردية قبل ذلك.
وقد توهجت هذه الحركة، ونالت حقها في الثمانينيات بفعل تضافر جهود عدد كبير من المعنيين: أدباء، ونقاد، وصحفيون، ووسائل إعلام وجهات ثقافية.
وقد كانت لأسماء بعينها جهود رائدة لا يخطئها المبحر والمنصف والباحث عن الحقيقة، الشجاع في نقلها.
ولعل واحدة من اكبر مشاكل (مثقفينا) انهم يريدون جر الساحة معهم كلما أرادوا تجريب نكهة أو صبغة غير مدركين ان قيمة التجاوز الحقيقية تكمن في الاختلاف الخلاق، والتفرد العملاق، لا في التشبث بالبقاء في دوائر الضوء اياً كان المنتج، وكيفما كانت الظروف: فلا مانع هنا أو هناك من التنقل حسب الخط العام، أو حسب الرغبات السائدة أو حسب الموجة العاتية.
وغالباً ما تأتي (إبداعاتهم) ونظرياتهم، ونكهاتهم سريعة زائلة، لأنها لم تعط مجالاً للثبات في ركضهم السريع، وعدم قدرتهم على الصمت الحكيم، والقراءة المتأنية، رغبة منهم في البقاء دائماً في دائرة الضوء، والإبداع الحقيقي لا يخرج عميقاً وعالياً ومخالفاً وصادقاً الا من دوائر الظل والأناة.
ان القيمة الحقيقية للشعر والنقد والكتابة ليست بالكم، وهذه مسألة لا تحتاج الى صفحات من التنظير، بل بالكيف وبمدى أهمية المنتج والخطاب وما يترك من قيم معرفية وأثر متواصل بليغ. ويعرف الدكتور ان شعراء وأدباء خلدوا بعمل واحد، أو قصيدة واحدة، أو بيت واحد وكلمة واحدة .وربما كانت (لا) نموذجاً فريداً لما نقصد.. كلا في وجه من قالوا نعم.. فلا التي خبرناها جيداً، ولا تعطى الا للندرة، تشكل لنا هنا خير ختام فلا لصراخ الحكمة.. ولا للحضور الدائم على حساب الجوهر، ولا (لموت الشعر)، ولا للتنظير دون دراية من قبل النقاد وهم بالعشرات لأن لا يعرف الشعر الا من يكابده.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولك أن قدتني الى ما أريد.. وان اضطررت الى مجاراتك.. وغيرك، فدخلت في مواطن لا يقبلها حبي، ولا أدبي.
ولكن كان لزاماً عليّ إيضاح موقفي.. وتبرئة ساحتي، والرد على ما ينالني من سهام من البعيد والقريب. ودم قريباً وعزيزاً، ولا حول ولا قوة الا بالله.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved