الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 23rd February,2004 العدد : 47

الأثنين 3 ,محرم 1425

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
من الأدب والوزارة.. إلى الفكر الإسلامي
بقلم/علوي طه الصافي*

نشأ محباً للأدب والصحافة.. انضم في مدرسته بمكة المكرمة حيث ولد إلى جماعة النشاط الأدبي، والصحافي.. كان المربي الأستاذ (عبدالله بليلة) تغمده الله بواسع رحمته مشرفاً على صفحة (دنيا الشباب)، أو (عالم الشباب) في إحدى الصحف.. وكان صديقنا ممن يكتبون فيها، هو وثلة من زملائه ممن جمعتهم حرفة، والأصح (هواية) الكتابة.. أذكر منهم إن لم تخني الذاكرة، الأصدقاء (عبدالله الجفري، محمد سعيد طيب.. وربما محمد عمر العامودي).. وغيرهم ممن لا أتذكر أسماءهم.. كانوا يجدون في هذه الصفحة متنفساً لهم.. وإشباعاً لهوايتهم.
كان صديقنا الطالب (محمد عبده يماني) واحداً من هذه الكوكبة، التي ينير عقولها حب (الأدب).. وتتنفس (رئاتهم) بنسائمه.. وتملأ (جوانحهم) دفقاته الشعرية، والشعورية.. ومن حسن حظ هذه (الكوكبة) أنها عاصرت جيل (الرعيل الأول)الذين وضعوا (مداميك) نهضتنا الأدبية.. وأقاموا أسسها.. لهذا أطلقت عليهم (موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث) الصادرة أخيراً (جيل التأسيس)، وبخاصة في (الحجاز) حيث عُرفت (المطبعة).. و(الصحافة) قبل بقية مناطق المملكة.. أذكر من أسمائهم (حمزة شحاتة.. أحمد عبدالغفور عطَّار.. عبدالقدوس الأنصاري.. أحمد السباعي.. محمد سعيد عبدالمقصود.. محمد سرور الصبَّان.. محمد حسن عوَّاد.. عبدالله بلخير.. إبراهيم هاشم الفلالي.. عبدالوهاب آشي.. فؤاد شاكر.. حسين عرب.. أحمد قنديل.. محمد علي مغربي.. حسين سرحان.. طاهر زمخشري.. عبدالسلام الساسي.. محمد سعيد العامودي.. أمين مدني.. محمد عبدالمقصود خوجة.. عبدالله عبدالجبار.. أحمد العربي.. خالد خليفة.. وغيرهم).
بعد دراسة (الثانوية العامة), انفرط عقد (الكوكبة) الشابة، فمنهم من توقّف عن الدراسة.. ومنهم من ارتحل لمواصلة دراسته الجامعية إلى القاهرة، أو إلى الرياض حيث توجد (جامعة الملك سعود).. وهي أول جامعة تنشأ في المملكة.
كان صديقنا العزيز (محمد عبده يماني) ضمن الدفعة الأولى التي التحقت (بكلية العلوم) حين إنشائها بجامعة الملك سعود، لقد أدرك الشاب، وهو في مقتبل العمر, أن العالم يمر بحقبة علمية مذهلة في معطياتها، ومخترعاتها، ومبتكراتها.. وأن أمته العربية والإسلامية مجبرة على مواكبة هذا العصر العلمي.. وألا تكون أمة متخلفة في مضمار العلم، والتقنية (التكنولوجيا) التي توصَّل إليها الغرب بصورة متراكضة، ومتسارعة، أعطتهم القوة لتحقيق أحلامهم في الصعود الى الكواكب الأخرى، متجاوزين جاذبية الكرة الأرضية.
من هذا الإدراك المبكّر لصديقنا العزيز الشاب، توجَّه إلى الدراسة العلمية، رغم موهبته الأدبية.. كان يدرك أن الأدب، وهو غذاء الروح يمكن تحقيقه من خلال (التثقيف الذاتي).. أما العلم فلا يدرك إلا بالدراسة، والتعامل مع (الأجهزة) والبقاء ساعات طويلة في (المختبرات)!!.
2 بعد حصوله على (البكالوريوس) صوَّب توجهه إلى (الأرض الجديدة).. أو بلاد (العام سام)، كما يطلق عليها وهي (الولايات المتحدة الأمريكية).. فانكب على الدراسة بكل جد واجتهاد.. إلى جانب نشاطه في صفوف (الجالية الإسلامية) هناك.. وكان يحرص في كل تصرفاته، وسلوكياته على التمثل بأخلاقيات الإسلام, ومبادئه النبيلة.
وحين حصل على (الماجستير, والدكتوراه) تخصص (جيولوجيا) عاد ليقدِّم علمه، ووفاءه للجامعة التي علَّمته (الغباء) ما توصّل إليه من علم، ومكانة علمية.. فعمل مدرِّساً في كلية علوم جامعة الملك سعود.
في هذه الفترة تعرَّفتُ عليه، معجباً بمسيرته الحياتية الكفاحية، ولأنه يمتلك روحاً (جاذبة) لإقامة علاقات إنسانية مع الآخرين.
وترافقنا في رحلة إلى مدينة (المجمعة) لإلقاء محاضرة عن صخور أرضية القمر، بمناسبة هبوط أول مركبة فضائية أمريكية (أعتقد انها ابوللو!!) لاختصاصه العلمي.. لم تكن المحاضرة شفهية.. بل كان خلال إلقائه لها ارتجالاً، يدعم حديثه بعرض شرائح أخذت لسطح القمر وصخوره Slides.. وأتذكر إن لم تخني الذاكرة أنه رافق الفريق العلمي طوال زيارته للرياض.. وتحدَّث معه على شاشة التلفاز.
بعد عودتنا إلى الرياض فوجئت بموضوع له نشرته جريدة (الرياض) يحمل عنواناً جاذباً لا يكتبه إلا من له موهبة الأديب، وروح الصحافي.. كان العنوان (في مدينة المليون نخلة) تحدَّث فيه عن مدينة (المجمعة).. فقلتُ إن الصديق العزيز الدكتور (محمد عبده يماني) ما يزال أديباً، وصحافياً.. وان تخصصه العلمي لم يقتل في نفسه روح ذلك الأديب الشاب الذي كان في مكة المكرمة، يمارس الكتابة مع غيره من شباب مرحلته في صفحة (دنيا الشباب).
وحين عُيِّن وكيلاً لوزارة المعارف حينذاك للشؤون الفنية.. زرته مهنئاً بصفتي صديقاً له، فاستقبلني بتواضع واقفاً في منتصف مكتبه، فقضينا معاً ما يقارب نصف الساعة دون أن يشعرني بملل، أو مضايقة.
ولأنه رجل نظيف اليد، والجيب، واللسان، فقد كانت المناصب تسعى إليه دون أن يسعى إليها، أو يطلبها.. لهذا عُيِّن مديراً لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة.. فأسهم بخبرته، وتجاربه في بداية إنشاء بعض مبانيها.. وجديد كلياتها.. وحرص على انفتاح الجامعة على المجتمع.. وأبرز مثال على ذلك دعوته إلى مؤتمر لأدباء المملكة، شيوخهم، وشبابهم.. كان المؤتمر في مكة المكرمة تظاهرة تاريخية أدبية ثقافية قدمت خلاله عدد كبير من المحاضرات المتعددة، والمتنوعة الموضوعات.. ووزِّعت خلاله الميداليات على الأدباء المشاركين.. واختتم المؤتمر الذي رعاه المربي الفاضل الشيخ (حسن عبدالله آل الشيخ) وزير المعارف يومذاك، تغمده الله بواسع رحمته ببيان احتوى على مجموعة من التوصيات التي لو أخذ بها، وتم تنفيذها على ظهر الواقع، لحققت لأدبنا (نُقلات) كبيرة، مثمرة.. ومنها أن ينعقد المؤتمر سنوياً.
وهذا ما لم يحدث مع الأسف الشديد.. مع ضرورة الإشارة إلى أنه انعقد مرة ثانية.. لكن بعد مرور عدة سنوات، وفي حجم متواضع.. مرَّ دون أن يترك أثراً في مستوى المؤتمر الأول, لأسباب لا نرى ما يدعو إلى ذكرها!!
ثم تولَّى منصباً رفيعاً، حسَّاساً، له خطره، وخطورته.. هو منصب (وزير الإعلام).. حينها كنتُ موظفاً في (المديرية العامة للمطبوعات) التابعة لوزارة الإعلام.. وفي أحد الأيام فوجئت بمدير عام المديرية الصديق (عبدالرحمن فهد الراشد) يعلمني بأن الوزير يريد مقابلتي.. فسألته: هل عرفت السبب؟ أجاب: يبدو انه يريد نقلك إلى مكتبه.. سألته: وهل وافقت؟ قال: حاولت إقناعه بعدم الاستغناء عنك.. لكنه أصرَّ على ذلك.. واتفقنا على أن تعمل في مكتبه في الفترة الصباحية.. وتكمل وقت عملك اليومي في المديرية.
وفعلاً، ذهبتُ لمقابلة معاليه.. فعرفتُ منه أن الفترة التي سأعمل خلالها في مكتبه صباحاً سوف تكون تجربة، يتم بعدها نقل وظيفتي إلى مكتبه.. فطلبتُ منه شيئين.. أحدهما: أن ظروفي لا تسمح لي بالحضور قبل الساعة التاسعة صباحاً.. وستلمس في المقابل الإنتاجية في العمل التي هي القيمة الفعلية كماً، ونوعاً، ومبادرةً، ونشاطاً.. والآخر: أن تكون علاقتي في العمل مع معاليكم مباشرة، لا عن طريق مدير مكتبكم الذي أعرفه جيداً، ولا أرتاح لأسلوبه (البيروقراطي) في العمل!! فوافق رغم عدم ارتياحه لمسألة الحضور المتأخر للعمل، لأنه شخصياً يحضر إلى مكتبه في الساعة السابعة والنصف صباحاً، لأنه اعتاد على النوم المبكر، والصحو المبكر.. على عكس ما اعتدت عليه.. وللمرء من دهره ما تعوَّد!!
وبدأتُ العمل في مكتبه.. كان يحرص على قراءة الخطابات التي أحرِّرها قبل دفعها لموظف الآلة الطابعة.. وبعد حوالي أسبوعين أصدر أمره بطباعة الخطابات التي أحررها دون عرضها عليه!!
شعرتُ بالارتياح لهذا الموقف.. وبدأ يكلفني بمهمات، وأعمال لها حساسيتها وأثرها، وتأثيرها.. وكان الله معي فنجحت في أداء كل الأعمال والمهمات التي كان يسندها إليَّ، والتي كانت تمثل جوهر عمل المكتب.. وكان لهذا النجاح ضريبته لأنه أثار استياء مدير مكتبه عليَّ.. فلم أعره اهتماماً، لأن من يعمل، ويخلص في عمله يجب أن يضع في ذهنه انه سيقابل بعدم رضا كل الآخرين عليه.. إن لم يجد من يناصبه العداء.. ويزرع في طريقه الشوك!!
ومما زاد من استياء مدير المكتب أنني حين لاحظت أن عدداً من أصحاب الحاجات الذين لا تحل مشاكلهم إلا عن طريق الوزير، لم يكن المدير ليسمح لهم بمقابلته بأعذار غير صحيحة. كأن يقول لهم إن الوزير مشغول، أو إن عنده اجتماعاً سرياً.. في الوقت الذي يتعامل فيه مع الوجهاء، والأثرياء، وأصحاب المناصب بأسلوب مغاير.. فأشعرته ان أسلوبه يسيء لأصحاب الحاجة، كما يسيء إلى الوزير شخصياً.. وان منصبه فرصة كبيرة له لعمل الخير، ومساعدة الآخرين.. فرد عليَّ بما يعني أن هذا الأمر ليس من شؤوني، وأن عليَّ أن أكون بمنأى عن تدخلي غير المرغوب فيه!!.
بعد تفكير في موقف مدير المكتب وجدتُ أنه من الإصلاح إخبار معالي الوزير بالأمر لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.. وهذا ما حدث.. فوجدتُ من تجاوب الوزير بأكثر مما كنتُ أتوقع.. إذ طلب مني الجلوس.. وضغط على (زر) الجرس فدخل العامل المسؤول عن مكتبه، وكنتُ قد عرفته من خلال الأيام التي مضت أثناء عملي بالمكتب.. وهو رجل يتميز باللطف، وبشنب كبير، كنت حين أدعوه أقول له (يا أبا شنب) لتفترش الابتسامة وجهه المريح.. قال له معالي الوزير: من اليوم إذا طلب منك علوي إدخال أي شخص على مكتبي، فنفّذ أمره.. رد عليه بلهجته النجدية (سَمْ) وهي كما يبدو لي منحوتة من كلمتي (سمعاً، وطاعة)!!.
وحين هممتُ بالخروج شاكراً للوزير ثقته.. رد عليَّ سأضيف إليك مسؤولية أخرى.. وهي صلاحية حل مشكلة أي مراجع سواء بطريقتك الشخصية، أو بالشرح على أي معاملة لها علاقة بوكيل وزارة، أو مدير عام بتوقيعك دون الرجوع إليَّ.. فشكرتُ معاليه على هذه الثقة الغالية، والمسؤولية الحسَّاسة.. ولأن هذه المسؤوليات من اختصاص مدير مكتبه فقد سألته: وماذا أبقيت من مهام ومسؤوليات لمدير المكتب؟ أجابني انني أهيئك لتكون مديراً للمكتب بعد أن نجحت في التجربة.. أما مدير المكتب فقد كل شيء قرب موعد إحالته إلى المعاش!! ومن يومها طلب مني أن أعمل في المكتب كل الوقت دون أن أكون مسؤولاً عن العمل في مديرية المطبوعات.. فسار العمل كما يجب أن يسير.. بإيقاع متسارع يواكب حجم المسؤوليات المتسارع.. وبأسلوب لا يحكمه الروتين.. ولا تعرقله التعقيدات.. ولا تتدخل فيه الأغراض الشخصية.. وهذا كله بتوفيق الله، ثم بالتشجيع الكبير الذي لقيته من معالي الوزير الصديق العزيز الدكتور (محمد عبده يماني)، وثقته الغالية.. وهذه مجموعة تمثل مفاتيح نجاح أي عمل يصاحبه الإخلاص.. والصدق، والأمانة لمرضاة الله سبحانه وتعالى في الدرجة الأولى.. ثم بما يبعث السرور والارتياح في نفوس أصحاب الحاجة.
لكن، العمل مع الصديق العزيز الوزير الدكتور (محمد عبده يماني) لم يطل كثيراً، لأن صاحب السمو الملكي الأمير (خالد الفيصل بن عبدالعزيز) طلب نقل عملي إليه، كي أكون رئيساً لتحرير مجلته (الفيصل) التي يعزم إصدارها.. ومع ذلك ظل الصديق الدكتور (يماني)على صلة بي، يسأل عني، ويتفقد أحوالي كأحد إخوانه الصغار.. وكنتُ أكبر له هذه الأخوة الصافية.. والصداقة الصادقة.
وأكبرته أكثر حين نُشر معه لقاء مطول في جريدة (الجزيرة) قال فيه إنه كان في صغره يبيع (البليلة)!! إنه تواضع المسلم الصادق مع نفسه، ومع الآخرين.. فهو لم يقل إنه من أسرة ذات جاه ومال!!
وفي الوزارة أطل علينا بعدد من الروايات.. والمجموعات القصصية القصيرة.. لكنه بعد إعفائه من الوزارة اتجه إلى أعمال البر، والخير، والاهتمام بالقضايا الإسلامية.. وهمومُ الأقليات الإسلامية في العالم.. وانخرط عاملاً في الجمعيات الخيرية، وأصدقاء المرضى.. ومساعدة ذوي الحاجة.. وتحوَّل بثقافته إلى الناحية الدينية الإسلامية شريعةً، وتاريخاً.. واختص في اهتمامه مركّزاً على (السنة النبوية) الشريفة.. وألَّف كتيبات وجهها بأسلوب مبسّط للشباب عن محبة رسول الله مسك الختام محمد عليه أفضل السلام وأتم التسليم.. ومحبة آل البيت. كما ألّف كتاباً عن (أبي هريرة) رضي الله عنه، وظَّف فيها جهاز (الكومبيوتر).. وكان كتاباً رائداً اثبت فيه أن الأحاديث الشريفة التي رُويت عنه على كثرتها لم تكن كذلك ،بل هي أقل مما يروى عنه.. وقد تُرجمت بعض كتبه إلى لغات غير عربية مثل (الاوردية).. وله برنامج أسبوعي يبث من خلال (قناة اقرأ) الفضائية بعنوان (كلمة طيبة).
إنه توجه كريم، وكبير، ونبيل نسأل الله أن يجعله في ميزان حسناته.. وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.. إنه على كل شيء قدير.
فاتني أن أشير إلى أنه أول وزير إعلام يذيع في تصريحه الرسمي عن كل ما يدور من مناقشات (بالتفصيل) في جلسات مجلس الوزراء بمباركة، وموافقة جلالة الملك الصالح (خالد بن عبدالعزيز) تغمده الله بواسع رحمته.. فأصبحت من بعده قاعدة (بروتوكولية) لكل وزير جاء بعده.
وأخيراً، أعترف أنه ما زال بقايا ذكريات مع الصديق الدكتور (محمد عبده يماني) تضيق بها مساحة النشر.. وكما يقول عمر أبو ريشة (بعض الربيع ببعض العطر يختصر).


ص. ب (7967) الرياض (11472)
alwi@alsafi.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved