الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 23rd February,2004 العدد : 47

الأثنين 3 ,محرم 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
نكهة الموت المصفى
سعد البواردي

لا أفهم موتاً مصفى إلا أن يكون موتاً بالسكتة القلبية.. أو الدماغية.. ذلك الموت الذي لا ينازع كثيراً.. وإنما نزعه فرصة لحظة لا تحمل معاناة الألم إلا حين اقترابها من الجسد.. وإلا حين ولوجها إليه..
قد يكون للشاعر قصد آخر لا أدريه قد يكشف ديوانه الشعري عن خباياها على طريقة أن السر في بطن الشاعر أو في فكره وعقله.. وكثيراً ما يأخذنا المنحى إلى فهم آخر لم نصنع له تقديراً في حساباتنا تأخذنا إلى متاهة التصور وتبعدنا عن حدوده.. واقترابا من وصولنا إلى ذلك السر في بطنه أو فكره أو عقله لابد لنا أن نتريث وأن لا نستبق ما بين السطور.. ان نأخذ حقيقة لا تلزمنا بالعنوان.. ولا تشدنا إلى ظاهره.. وإنما توصلنا إلى أعماق خواطره التي لم نطرقها بعد.. ولم نتطرق إلى معطياتها بعد.. في قصيدته الأولى تحت عنوان «إلى مريم باخطاب، أمي، التي» ماذا قال عن أمه؟ وما صلتها بحكاية الموت المصفى؟!
«يغسل البحر أذيالها
ويفجر ثورتها
لا تدل على حالكات
ينبش ما أجهز البحر
تضمد ما افتن في هجيه
حالكات الغياب
مريم الطود بين الخميلة والدار»
أشعر أنني مع مقطوعته الغامضة بين الخيال والتيه أضرب في سرابهما .. دون أن أجد موتاً مصفى ولا مقفى.. لن استعجل الأمر فأمامي مشوار طويل.. ومحطات.. ورحلة لا تخلو من تساؤلات.. ومن أسئلة ليلى أجد الجواب عليها.. «مفتاح الجنة والنار» لعلها ستقربنا إلى ساحة الصفر حيث الموت وما بعد الموت من ثواب وعقاب.
«من رائحة الشفق البحري
ينفث ماء الدهشة
في الطين المخبوء ليوم الدين
يزمجر عبر فياف
تتهادى في عليين.. وما عليون»
هذا عن نفث الماء لما بعد الأفول.. أما عن رائحة الخلق فيقول:
«حرفاً من تين، ومن يقطين
تتفجر أمواء الشهوة
ويصلصل في رحم الطين ماء اسود كالبلور
يفتق رائحة الخلق»..
ماء أسود كالبلورة ما عشته في خيالي.. ربما كان مطلياً بسواد شاهده واستشهد به لحظة حلم غيبي في عالم آخر.. «وزر» أو الكلمة التي ولج من خلال قفلها إلى جنة شعره.. ونار شاعريته فأقام عرجونها في نماء الماء كي يتزود من نزف الأشياء وكي تحمله وتحلق به في كبد السماء، ولكي يتداول قلعته المصبوغة بالحناء.. صور يكتنفها غموض المعنى كانت عصية على فهمي الذي لا يقدر على الرؤية وسط ضبابية الصور، وجهام المفردات.
لعل «بيروت» تخرجني من مأزق سوء الفهم.. وعسر الهضم:
«ايه بيروت.. لكني مزجت الدمع بالدم
تفيأت العشيات..
وأسرفت بوادي الشمس ترحالي
كنفث الشمس.
أسرجت نواص لم تفارقها تحياتي
القداس المشحون بأعصاب الطير
يكفكف أدمعه.. ويزمجر نحو بدايات
تتألق في التكوين
يندرج حروفا من تين، ومن يقطين»
وما زلت أتدرج مع شعره محاولاً أن اتصيد بناء شعرياً له وضوح الشمس التي أسرفت أو أشرقت بوادي ترحاله دون أن تسعفني الذاكرة ولا المذاكرة.. ومع هذا فإن عقدة الغموض بدأت تتحلل وإن في بطء .. مما يفتح أمامي فاتحة الشهية لما سيأتي:
«بنفسجة وأنا..
والرؤى تتحدد عبر مرايا الضنى
وشعيرات حب تدندن هذا السخاء الحميم
قم الآن توج عروش المحبة
أبر خيول النخيل
تجول خلال مدنٍ للنعاس
بنفسجة تنتشي»
ليت إني مثلها أنتشي وأهز طرباً وقد هزتني المضامين.. وتراقص بي الموضوع.. ما دمت صامتاً انتظر.
«السين المسجون بحد الجبر
والصاد المشحون بأحداث البعد الثاني
والعين المشبوكة في حلقات البعد»
تماما كأنا انني سجين بحد الجهل. ومشحون بأحداث قصر النظر وليس بعده أما عيني فمشبوكة في حلقات لا أفهمها.. دربي شاق أتحرك نحوه وأنا غريب عنه لست من فرسانه.. ولا تلامذة ديوان.. لعله عيبي لا عيب شاعرنا الحبيب سعيد بادويس الذي أدخلني معه في نفق لا أعرف سراديبه ولا أستدل على ممراته.. ربما أجد الضوء في نهايته أو قبل النهاية وأتطلع إلى السماء وقد انقشعت غيومها فأرى مصباح الشعر متراقصاً يدعوني إليه وقد أذاب عن وجهي كرة الثلج المتدحرجة.
«يا متفاضل..!
هل نبتت الجثة برعمك المتكامل؟
أبعد عنها الذئب
توكد في شفتي حزناً لا ينضب
هل تسكن رائحة الموتى؟
هل تسحق جدران الصمت؟
وإذا فج البحر لماذا تثور؟
هل تتعلق في كبد الشمس بقايا نذور؟»
يبدو انني اقترب من شمعة الفهم على دفع تساؤله المشحون بالتعجب.. وعلى حد بدايات فهمي أدرك مع شاعرنا ان الجثة لا تنبت لأنها نهاية مرحلة لا تتكرر لمن يضيرها ذئب مفترس فالشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها.. أما الحزن يا صاحبي فمساحته بحجم مأساته واتساع دائرته .. يولد كبيراً وينتهي صغيراً ثم لا يكاد يذكر.. يبقى من صاحب الجثة ذكره.. أما رائحة الجثة ذاتها فمتروك أمرها للتعرية والتآكل داخل سكنها المقدر لها خيراً أو شراً.. سكن لا يصلح لغيرها لا يحتمل السؤال.. حتى جدران الصمت لا يخترقها متفاضل حين يأتي صمتها صمت روح لا تملك الريح النفاذ إليه.. وعن البحر وفجه الغامض دع متفاضلك يثور في وجهه إن استطاع وماهو بقادر.. البحر يهزأ بالثائرين حتى لو كانوا من عتاة القراصنة..
«إصاخة» فقرة شعرية قصيرة توصلنا إلى ما بعدها «حميات وسعف في طريق الروح» تحت مظلة هذا العنوان تكمن عدة أرقام وفواصل لم أصل معها إلى قناعة تغريني بالاسترسال والخوض في متاهاتها.. زهيراتها تموت في كمد بالاختناق دون أن تعرف! والبنادق تجتاح ملحمة وتدور احتكاماً يغذي الطريق!! هذه واحدة..
أين منك الفجاءات تجتاح وحدتها، وتغري قواقعها.. وتضمخ أثمالها من ذهب وقصب!! هذه ثانية.
أين ما برح الوقت يقطعه تتدلى عناقيده في اللهب ويجرجر أسماله في التعب. ما الذي تعرفه!! هذه ثالثة..
أين ما برح الوقت يقطعه ويجيد بساطته. أين ما تفعله والحميات تستوطن الروح والكبد البلدي!! هذه رابعة..
أين منك البنفسجة المطرية تختفي احتلال قريحتها وتزنر الفتها وتتيح لماحتها أين منك اعتلال غضارتها!! هذه خامسة.
أين منك الذي تضيء بنفسجة تتحلى برقتها وترشرش عرجونها تتفتق عن ولد وتلد. تتفتق عن أرجوان!! هذه سادسة..
أين منك اشتعالات خدمة تتقطر من رحق. وتفجر فخرتها، تتهادى اشتياق القمم!! هذه سابعة.
أين منك القيم أين منك انطلاقات بخرتها تعري غضارته تتفتق عنه انعتاق الحمم. اللمم، اللمم حرض من لمم! وهذه الثامنة..
وثلاث عشرة وصلة أخرى مشابهة كلها تسأل.. ولا مجيب ولا مستجيب ليس بخلا في الاجابة وإنما بخلا في السؤال المفضي إلى التعمية وقتل الادراك أوشله على الأقل عن الحركة والفهم.
أعترف انني لا أمتلك اجابات لأسئلته لأنني عاجز عن فهمها.. ولغيري أن يجيبه عليها إذا فهم..
«اغتيال» عنوان مقطوعة أقف عند أبوابها مترددا لا أعرف من أين أدخل.. هل أدخل؟!.. دخلت:
(ماذا تقول القبيلة لرجل استفاق..
صباحاً
على ظهر انملة مفعمة بالتراتيل، والفيء
مزنرا بالرياح القتيلة
على سجف تنداح
فارشة الأفق)
هذا مجرد مدخل لما سوف يرويه عن والده:
(والدي يقول
ماذا نقول؟
في اغنيات هدها الترحال؟
واستشاطت أفراسها نغما إثر نغم
ممدة في حياض الزمن
تلوكها أفئدة البائسين
نزيفا من الاغتيال.
تاركة خلفها أرجوحة
مسمرة فوق الأعشاب
تحاور العابرين
وتزهو بملابسها الرثة
جانية أحلى أغنيات الآخرين
مستفيقة من ثلج إلى ثلم)
ليتك يا صديقي تركت لوالدك الحديث، ودائماً في كل قصائدك. كي نستغرق مفرداته القابلة للفهم وللرد عليها.. إنه الأقرب إلى خطابنا الشعري الذي نتحدث به ونستقبله..
نقول ل.. دع الأغنيات تستريح حتى تستجمع أنفاسها وقواها ثم تنطلق دون لي عنق.. ولن يضيرها بعد هذا أن تلوكها أفئدة البائسين.. انها الرجع الحزين لمعاناتهم ومأساتهم. هي منهم. ولهم حتى ولو حاولت القسوة اغتيالها.. إنها تتأرجح في أرجوحة الضمير الإنساني.. تنبتها أعشاب الحرية والحق.. تحاور البلابل.. بجنيها ونغمها تتحرك السنابل.. وتستفيق ملامح الفجر على حدود الشجن اللذيذ الذي لم تلوثه حناجر موبوءة..
لعل شاعرنا اكتسب من خبرة والده ما سمح له أن يهبنا شعراً جديداً نستقبله وتقبله ونقبله.. ماذا قال عن أسطورته:
(بماذا تنادين؟
يا امرأة تستدير على وجهها رزقة البحر
يشرئب على هامها نصع الامنيات
تجلي خطوطاً من الشمس
تنساب في لجة البحر أسطورة للغناء
من مطالع هذا الزمان الشموس تجيئين
تفتحين غلالته
وتديرين أصواته للغناء)
بداية طيبة.. وواعدة بلغة مفهومة لا تحتاج إلى ترجمة.. بلغة فارستها وبلغته هو المرسلة إليها تقول له:
بلغة الأمل أنادي.. وبلغة الحب أتحدث.. وبلغة النور أمد خيطاً للسالكين على درب الحياة كي لا يعثر أحد..
بكل هذا أتحدث.. وعن كل هذا أتحدث..
«هينمات الحمى» عنوان من بعده التفاصيل المفصولة.. «رهافة» 1
(فاطمة تزدهي..
مثلما يشتهى البحر
أن يزدهي)
كل حر في زهوه.. للبحر خياره ولها اختيارها وخصوصيتها التي لا ينازعها فيه أحد.. حتى رهافة 2 لا تبعد كثيراً عن روح المنافسة.. والمقارنة بين وجهين:
(فاطمة تنتشي..
منذ أن يرتدي البحر اسماله
ويغني غلالته للمساء
عباءة تزدهي..
منسوجة من كفن)
هل اننا نقترب رويداً إلى نكهة الموت المصفى؟! ربما لا أدري.. إن خطوات سيرنا الوئيدة مع شاعرنا أو لنقل ناثرنا تبدو بين مد وجزر.. موجة شعرية تقربنا من رائحة الجثة.. وأخرى تشدنا إلى رائحة القرنفل والبنفسجة في تقاطع أشبه بالبرزخ بين عالمين مختلفين.. فمن عباءة الكفن إلى عبارة «المجتال» القصيدة القصيرة المعبرة:
«يغسل البحر أذيالها
ويصوغ قلائدها القرمزية
يموء بأحداقها..
قبل أن تختفي»
لقطة بارعة من عدسته تجسد وقفة عروس بحر بشرية أمام مد الموج وجزره تحاكيه وربما تغازله وخوفاً من أن تمتد إليها يده سرعان ما تلوذ بالفرار.. تاركة له لوعة الفراق..
أكثر من محطة جميعها قصيرة لا مطاعم فيها إلا ما ندر تجاوزها الركب بحثاً عن زاد يزدرده في شهية كذلك الطبق الجميل الذي فرغ من التهامه لتوه على شاطئ البحر.. يحط بنا المسار إلى محطة تفوح من مطبخها رائحة تصعق الأنوف.. كانت نكهة الموت المصفى.. عنوان الديوان.. وعنوان القصيدة:
«وبسملة تضيء جوانح الموت المصفى
تزدهي أجواءه الثكلى بحمرة قلبها
تزدان أنى ترتدي وجناتها
عيد المواسم والخضول»
ويسترسل في مقطوعته تحت زحمة الدخان المتصاعد من الموقد المرعب.. وركام الكلمات التي تحتاج إلى كلمات «يمتقع انطفاءات يمتع بعضها بعضاً على أحبولة سكنت مرارتها» أولهم تراءى في خوافي السيد يمسك ما تبدى أنه نسخ وأوغل يبتغي انشودة» أينما أتيت غرفة تلاشت خلفها ألف ابتسامة وتطاولت شماء تشدني سحاباً مثقلاً بالحمض والغسلين».. وما دامت تستبدني السحاب لماذا لا ننتظر الريح..
« حنظلة.. تحدق في فيافي عطرها الأسماك
تستمطر آفاقاً من الشكوى
ترخص بارقاً أندى لياليها
وما فتئت تفتح مقلتيها
في انتظار الريح»
«حنظلة» من تكون! ومن يكون؟ رجل، أو امرأة.. ما أعرفه أنه اسم لرجل متداول لدى البادية أكثر.. واسم شجرة برية صحراوية جمعها «حنظل» «الحنظلة الرجل عطر» مذكر. لا تبصر الأسماك له مكاناً.. و«الحنظلة النبات عطر» إن كان له عطر لا يعبر المسافات كي تحدق الأسماك في فيافيها.. بقي أن يكون اسم امرأة لها عطر ومن حولها بحر وأسماك تحدق..
لحسن حظ الرحلة مع شاعرنا أو ناثرنا سعيد بادويس أن يأتي الختام مسكاً ينفض عنا غبار الرحلة.. وإجهادها.. وأن يسري عن أنفسنا بنفحات شعرية قصيرة توحي بجماليات الصورة.. ووضوح مفرداتها، عن الصمت يقول:
«أغمس عمري بضجيج الصمت
الراضع من ثدي الصحراء
وأدندن صمتي في فلك الأنوار».
صمت جميل.. له صوت أجمل.. وإيقاع أجمل..
«خرائط لحمي تشوي ديدان الصمت
تمتص غبار الكلمات الممجوجة
تصفي هذا الجو»..
بمثل هذه المقطوعات أحسست بصفاء جو لم أعهده قبل.. سأستزيد منه:
«الليل يا مدينتي الشحيحة الكذوب
كالدمعة الخجول في محاجر الخيول
الماء فوق ظهورها محمول»
دورها المنوط بها أدلة.. على أهلها أداء ما تبقى من دور لها.. إنها بدونهم مجرد جسد بلا روح..
«دواجن حنطتها
تسأل عن معنى الصبر
تجيب الأكفان»
سؤال وإجابة شافيتين كافيتين:
«الرجل الأخضر يجري
مبهوراً بالوحش
يدندن آهته معزوفاً
في آلام الصمت»
هكذا وبثبات وجلد تجاوزنا عقبات وعقبات وددت لو أن فارسنا مهَّد الطريق إليها سالكاً دون أشواك..
دون استغراق إلى درجة الإغراق في ركام الجمل التي قتلت أو أثقلت بمعنى أصح نبض خلجات الشعر ومضامينه وحولتها برمزيتها المفرطة وغموضها إلى طلاسم يصعب حلها.. ويستعصي فهمها.
شكراً لبادويس بطل الرحلة.. على أمل بطولة أخرى أكثر إمتاعاً وإشباعاً.. وفهماً..


الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved