الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 23rd May,2005 العدد : 107

الأثنين 15 ,ربيع الثاني 1426

(موسوعة) نقد نقد العقل العربي إشكاليات العقل العربي 2
د. عبد الرزاق عيد
بعد تناول جورج في الجزء الأول من موسوعته (نقد نقد العقل العربي) أصول نظرية العقل عند الجابري، ومن ثم التوظيف المركزي الإثني لنظرية العقل، ونقده لهجاء الجابري للعقل العربي من خلال وضعه بحالة ضدية مع العقل اليوناني، ومن ثم قيامه ببحث موسع في تطور مفهوم العقل في الحداثة الأوروبية، ليخلص إلى تناول مظاهر الخلط بين العقل والعقلية في مشروع الجابري لنقد العقل العربي.
فإنه في الجزء الثاني (إشكاليات العقل العربي) يتناول ثلاث إشكاليات:
1 إشكالية الإطار المرجعي للعقل العربي (عصر التدوين)
2 إشكالية اللغة والعقل.
3 إشكالية البنية اللاشعورية للعقل العربي.
عصر التدوين:
يستند الجابري في تحديده لفترة عصر التدوين بوصفها تمثل الإطار المرجعي لهذا العقل إلى كتاب (تاريخ الخلفاء) للسيوطي: الذي ينقل عن الذهبي تحديده لهذا العصر بأنه يبدأ سنة ثلاثة وأربعين ومائة للهجرة، إذ صنف ابن جريح في مكة، ومالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وصنف ابن إسحاق المغازي، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي، ثم بعد يسير صنف هشيم والليث وابن لهيعة ثم ابن المبارك وأبو يوسف وابن وهب، وكثر تدوين العلم وتبويبه، ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس.
جورج طرابيشي يضع تعبير (عصر التدوين) بين قوسين إشارة إلى عدم اعترافه بشرعية هذا التعبير، ويعلن أنه سيبدأ بالمسكوت عنه في نصه قبل المنطوق به.
يكتفي الباحث بتعليق سريع وعرضي إلى عدم اعترافه بشرعية التعبير، كون تعبير عصر التدوين يختزل في نص الجابري إلى (التبويب) لما هو جاهز، في حين إن العملية انطوت على الإنتاج والبناء والتنظيم للثقافة العربية الإسلامية، وقد تمثلت في الانتقال بالثقافة من طور (شفاهي) إلى طور (كتابي) مما يتطلب تجاوز الذاكرة والتبويب إلى الإنتاج وإعادة الإنتاج الثقافي.
يكتفي الباحث بهذه الملاحظات السريعة رغم أهميتها التي تتطلب وقفة تحليلية خصبة، لينتقل مباشرة لتناول المسكوت عنه:
أولاً سكوت الجابري عن المصدر الذي أخذ منه الفكرة والتسمية، وهو كتاب (ضحى الإسلام) لأحمد أمين الصادر منذ سنة 1934، بل وإلى الشيخ أحمد الإسكندري الذي رفض اعتبار عصر بني أمية هو عصر التدوين، فحصر هذه الصفة بالعصر العباسي الأول، كما أن جولدزيهر في كتابه (دراسات إسلامية) دافع عن فكرة النقلة الفجائية من طور الرواية الشفهية للحديث إلى طور التدوين الكتابي في الفترة الحاسمة الممتدة بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث الهجرية.
ثانياً يسكت الجابري عن المصدر الذي استقى منه نص السيوطي الذهبي، وليس كتاب أحمد أمين فقط الذي لم يكن مع ذلك الوحيد في الأزمنة الحديثة الذي تنبه لأهمية نص السيوطي الذهبي، بل وكتاب شاكر مصطفى في (التاريخ العربي والمؤرخون) الذي يعرفه الجابري ويستشهد به تكراراً (ص16)، ليدخل الأستاذ طرابيشي في محاجة تحقيقية طويلة حول حقيقة اطلاع (الجابري) فعلاً على كتاب (تاريخ الخلفاء) للسيوطي، وهذه (الملاحقة) ستشكل أحد المداخل الأساسية التي يلجها ناقد نقد العقل العربي لمحاكمة الناقد الأول (الجابري) أخلاقياً، عبر الأجزاء الأربعة لسفره، ويبدو أن الأول (الجابري) وضع نفسه في موقع الشبهة بسبب ترخصه المتكرر بعدم توثيق المراجع التي دافعها على الأغلب ليس ادعاء التبحر بالعودة إلى المظان الأولى للمصادر والمراجع فقط، بل نزوع للتعالي على منتجي مشهد الفكر العربي الحديث بمجمله، تجلى هذا النزوع في أكثر ما تجلى في كتابه (نقد الخطاب العربي المعاصر)، حيث يتسفل الجميع إلى الهامش، فلا نجد اسم أي علم من أعلام الفكر والثقافة العربية في القرن العشرين من يستحق أن يحتل شرف فسحة المتن، ولهذا فإن القارئ لقسوة جورج في هذا التعقب والملاحقة، لن يشعر بالتعاطف مع الجابري إذ يكشف ناقده عن عورات أخلاق البحث العلمي الذي من أول شروطه هو الأمانة الوثائقية والتوثيقية في سرد الوقائع، والأمانة تجاه حقوق الآخرين التأليفية، أي رد الأمانات لأصحابها.
المسألة المركزية التي أراد ناقد النقد أن يبرهن عليها، هي التأكيد على الزمن المبكر لعصر التدوين الذي يعود إلى النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، خلافاً لتحديد الجابري الذي يتأخر به حتى منتصف القرن الثاني للهجرة، وأن التدوين الأول المبكر، هو النموذج الأول لكل تدوين لاحق، والذي هو تدوين القرآن (ص59)، لكن ناقد العقل العربي (الجابري) يقفز تماماً فوق الواقعة القرآنية ليجعل من منتصف القرن الثاني إطاراً مرجعياً يتيماً للعقل الذي يتصدى لنقده، عازياً ذلك إلى (التقيّة) أو وفق ما يقدره الجابري في: (أن الوطن العربي في وضعيته الراهنة لا يتحمل ما يمكن أن نعبر عنه بنقد لاهوتي)، مما أدى إلى الزج بواقعة تدوين القرآن، أو (مصحفته) في غيتو اللامفكر به le nonpense أو الممتنع التفكير به l'impensable ليجعل من تدوين الحديث هو البداية المطلقة لعصر التدوين، وفي سبيل أن يفند الأستاذ جورج أطروحة الجابري عن تاريخ عصر التدوين تفنيداً شديداً، فإنه يحدثنا بالاستناد إلى مصادر لا يحددها بأن عدد المصاحف التي رفعها أفراد جيش معاوية على أسنة الرماح في وقعة صفين عام (37 هجرية) بلغ نحواً من خمسمائة!
ولا ندري كيف يمكن أن يركن الباحث إلى مثل هذه الرواية، ولم يمر بعد على جمع القرآن إلا بضع سنين!
هل يمكن لأفراد الجيش في تلك الفترة أن يكون لديهم (500) مصحف، هذا ما عدا ما لدى الناس الآخرين في الأمصار من نسخ في ذلك الزمن؟.. وذلك إذا كانت معظم دور النشر العربية اليوم لا تنشر أكثر من ألف نسخة للكتاب المطبوع في العالم العربي الذي تعداد سكانه (300) مليون نسمة!
هل من الممكن بحق أن نطمئن إلى تحقيب كرونوجي حاسم؛ اعتماداً على كتب في السيرة والأخبار والغزوات لا تفعل سوى أن تكرر بعضها بعضاً في الخطأ والصواب، بل وأن تناقض بعضها بعضاً حد عدم اتفاقها حتى على تاريخ وفاة النبي بين (10) إلى (11) هجرية!
لماذا يسهب صاحب نقد النقد في إيراد الشواهد والنصوص التي تبرهن على وجهة نظره بأن عصر التدوين يعود إلى منتصف القرن الأول؟.. ما هي الدلالة التاريخية المتوخاة في إنتاج الوظيفة المعرفية الراهنية لمثل هذا الإثبات أو النفي؟
يعتبر ناقد النقد أن الجابري تبنى لحسابه خطيئة عصر النهضة بإعلانه عن عدم أزوف ساعة الثورة اللاهوتية وذلك بتبني الأسطورة البعدية لعصر التدوين، ومن ثم إخراج واقعة تدوين القرآن من ترسيمته الإشكالية، مما يترتب على ذلك ضرورة إرجائها إلى أجل غير مسمى، ومن ذلك مطالبته ب(استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي) (ص 69)!
إن جورج طرابيشي الذي يعود له الفضل، فضل الريادة في التصدي لحالة النكوص الفكري العربي، ومن ثم إضراب الإنتلجنسيا العربية عن التفكير، وذلك من خلال تصديه المبكر لجائحة تأثيم وتكفير وتخوين عصر النهضة العربية، إذ كان سباقاً في التصدي لهذه الجائحة بوصفها ظاهرة مرضية بحاجة للعلاج النفسي قبل الفكري!
جورج الذي قام بهذا الجهد الرائد، ها هو يعود من النافذة لا لتجريم فكر النهضة باتهامه له بالجموح وعدم التبيؤ، والهجنة والاستيراد، والغزو الثقافي، بل ليجرمه من خلال اتهامه بالقصور لأنه لم يقم بالثورة اللاهوتية، بل ومن باب الغرائب أن يذهب باحث عربي آخر (برهان غليون) الذي كان من رهط المجرّمين ليجرم فكر النهضة ليس بالغزو الثقافي فحسب، بل والقصور أيضاً كما يفعل ناقد النقد، ووجه هذا القصور بالنسبة لغليون هو أن فكر النهضة العربية لم يهتم بالعلوم الطبيعية والتطبيقية، والتجريبية الصناعية والتقنية!
نحن لم نذكر الفكرة الثانية (غليون) إلا لمباطنتها اللاتاريخية للفكرة الثانية (طرابيشي)، وهي أن الثورة اللاهوتية ما كانت لتتحقق تاريخياً لولا ثورة كوبر نيكوس العلمية، ولذا ليس مصادفة أن يكون تاريخ وفاة كوبر نيكوس (1543) متزامناً مع تاريخ وفاة مارتن لوثر (1546)، حيث إن ثورة اللاهوت لتحرير الرسالة من التاريخ تبدأ مع بداية انبعاث البعد الروحاني في الدين، متمثلاً بتلك الرعشة الروحية التي تفردت بها الصوفية تاريخياً، وهي التي ما كان لها أن تتفتح إلا على هامش الحضور الوضعي المتجهم لعالم فقد لمسة الشعر، وهو المحايث للثورة العلمية في كل الأحوال.
هل من المعقول أن ننتظر من السقف التاريخي لزمن محمد عبده أن ينجز على مستوى حركة الإصلاح الإسلامي ثورة لاهوتية أكثر مما أنجز؟.. وهو المجرّم والمدان بل والمخوّن دينياً ووطنياً بعد قرن!.. هل كان من الممكن للمصلح عبده أن يحدث ثورة لاهوتية في مجتمع ما كان يعرف سوى العلوم الدينية، إذ أن محمد عبده هو أول من أدخل إلى مؤسسته العلمية الوحيدة (الأزهر) تدريس بعض العلوم غير الدينية!
ألسنا مضطرين اليوم للدفاع عن سمعة العلمانية، أن نعود اليوم للكواكبي وطه حسين وعلي عبد الرازق وسلامة موسى وأحمد أمين.. إلخ بعد أن أسقطتها الحركات القومية واليسار الشيوعي من برامجها لاعتبارات سياسوية شعبوية؟ ألم يغدو شعار الثورة المصرية (1919) (الدين لله والوطن للجميع) مذموماً مدحوراً، وهو الذي شكل الأفق الوطني للمرحلة الليبرالية العربية، ألا يشكل اليوم شعاراً مداناً ومرفوضاً من قبل منظومة قيم العقل العربي القائم والمهيمن السائد معبراً عنه بصوت الشيخ يوسف القرضاوي (بابا الإسلام) اليوم، الذي يقود جناحي الأمة (الإسلام والقومية) في المؤتمرات القومية والإسلامية بعد أن ضاعت الحدود بين التيارين، وذلك عندما يفتي بحكم الردة على العلمانيين الذين يرفضون شعار الدولة الدينية والذين لا يزالون مثابرين على تبني شعار البداهة الوطنية (الدين لله والوطن للجميع) بوصف هذا الشعار غريباً عن روح الأمة وإسلامها الذي هو حسب القرضاوي دين ودولة وعبادة وقيادة ورسالة وسيف...!
والبعد السلبي الآخر لتأخير (عصر التدوين) حتى منتصف القرن الثاني يتصل هنا بإشكالية أخرى في منهج الجابري، وهي ما يراه جورج بعدم استيعاب الجابري لإشكالية العقل المكوَن والعقل المكوِِِن التي قادته لوصف عصر التدوين بأنه عصر العقل المكوَن، مما حجب عن الوعي الابستمولوجي إمكانية قراءة جدلية ثنائية الطور للحضارة العربية الإسلامية، في طور عظمتها الأولى المتطابق مع اشتغال العقل المكوِن ما بين القرنين الأول والخامس، وفي طور أفولها وانحطاطها المتطابق مع سيادة العقل المكوَن وقد تبلور ثم تحجر في الحقبة ما بين القرنين السادس والثالث عشر.
هل حقاً أن القرون الخمسة الأُوَل كانت تمثل عصر عقل مكوِن لطور حضاري عظيم؟.. هل عصر التدوين إن كان بدأ من منتصف القرن الأول أو الثاني يمثل طور عقل مكوِن، إذ هو يدون العلوم ويصنفها ويبوبها ضمن وظيفة واحدة، وهي مأسسة المقدس، أي وضع جميع هذه العلوم بتعدد نصوصها النحوية والبلاغية واللغوية والفقهية والكلامية بخدمة النص الأول وتحت تصرفه، أي كلها كانت تطوف حول نواة ابستمية واحدة وهي القرآن، أو كما يعبر الأستاذ طرابيشي (بناء المعقولية القرآنية) الذي يعزو إخفاق المشروع النهضوي الأول منذ نهاية القرن التاسع عشر، لأنه لم يقترن بثورة لاهوتية لإعادة بناء المعقولية القرآنية، ومن ثم الحاجة التنويرية إلى تحرير (الرسالة) من عبء التاريخ؟
الأستاذ جورج قبل خمس صفحات ص (66) يقر بأن قيام الحلف في القرن الثاني بين أهل الحديث وأهل الفقه أدى إلى غلبة التفسير الفقهي للإسلام مما شكل مأزق العالم الإسلامي المعاصر مع الحداثة، فكيف استقام إذاً لناقد نقد العقل العربي أن يأخذ على الجابري وصفه لهذا العصر، أنه عصر عقل مكوَن؟ وكيف لم يتح له أن يعتبر أن هذا القرن الذي لم يفعل سوى تدوين ما يسميه أرسطو ب(الأوندكسا) أي حفظ ما حفظه الناس، وتقييد مقولة قولهم حول النواة الأبستمية الأساسية، (ابستمية الوحي) أنه عقل مكوَن ما دام يقر أن القرنين الأولين شهدا تحالفات شكلت مأزقاً للعالم الإسلامي المعاصر مع الحداثة، وعلى هذا فإن عملية التدوين تعني أن كل شيء كان جاهزاً وأن المهمة كانت منتهية سلفاً، حسب الجابري الذي يبدو أنه كان محقاً في اعتباره لعصر التدوين أنه عصر عقل مكوَن.
وعلى هذا فإن القرن الأول والثاني كان العقل يتكون (نقلياً)، ولم يغدُ عقلاً مكوِناً إلا عندما غدا العقل ذاته موضوعاً للتفكير والتعقل، وذلك بدءا من القرن الثالث ليتوج في القرن الرابع، الذي انتهت إليه كل ثقافات العصر، إذ كانت حضارة الإسلام بوجه عام متصلة بإحياء ثقافات وحضارات متقدمة عليها، وذلك هو تفسير وتعليل محمد عبدالهادي أبوريدة لتسمية القرن الرابع الهجري من قبل آدم متز، بأنه عصر النهضة، إذ يماثل متز دلالة النهضة الإسلامية بعصر النهضة الأوروبية التي قامت على (إحياء الحضارة القديمة)، ليشير إلى أنه في القرن الرابع ظهرت بين المسلمين أفكار ومذاهب وأساليب في الحياة وعادات كانت موجودة قبل الإسلام عند أمم أخرى، ثم عادت إلى الظهور من جديد، هذا من جهة أول أطراف المماثلة مع النهضة الأوروبية، أما الوجه الآخر فهو انحلال دولة الخلافة الكبرى إلى دول صغرى كما حدث للدولة الواحدة التي قام عليها العصر الوسيط في أوروبا عندما نشأت القوميات وتجزأت الدولة الواحدة، ولهذا فقد كان الفصل الأول من كتاب متز، هو تناول المملكة الإسلامية وانحلالها إلى دول في القرن الرابع الهجري الذي يمثل ذروة الازدهار الحضاري والثقافي المتزامن مع بداية الانحلال السياسي: التفتت والتجزئة؟
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved