الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 23rd May,2005 العدد : 107

الأثنين 15 ,ربيع الثاني 1426

استراحة داخل صومعة الفكر
دفتر الحزن فيصل السعد
سعد البواردي

يتبادر إلى الذهن وللوهلة الأولى أن حروف هذا الدفتر خطت بمزيج من الدم والدمع.. وان محتواه نشيج ونحيب وآهات.. وذكريات مُرة.. فالحزن صرعة ولوعة وعذاب.. والدفتر وعاء تصب في داخله كل تلك المعاني والمضامين الدرامية التي لا فرح فيها.. ولا سعادة معها.. هذا مجرد مدخل تخميني يتماشى مع العنوان.. فهل انني محق في هذا التصور.. لا أدري.!
بداية يقول شاعرنا فيصل في أولى مقطوعاته التي تحمل عنواناً بكائياً هو: (أيام الزوايا المعتمة)
لا تأخذني للقاتل
خنجره بين العمرين ينام. وغطته الأوراق
وأنا ابتعث الغربة
مرَّغنِي الهمُّ المكبوت بصدري
فوق تراب البُعد لأني اشتاق
حزن غربة المشتاق تفيض لوعة وحسرة.. الغربة وحشة وحزن وإشفاق على ما تبقى من عمر..
لتراب بلادي العالق بالعمر الآتي
ذهني يستجدي من قلبي المحروق بجمرة حب الأرض
عطور العشاق..
هكذا يحول الحب المفتون بالوطن الجمرة الى عطر شوق تعطي للقلب المحروق طعما حلو المذاق رغم مرارته لأنه ضمير اشتياق لا يطال منه فراق.. فمن مداد دواته رسم لحظات مشلولة وقد رشت حبر الإغفاءة على عينيه ليغفو مكبل الصمت لأن الأعناق استسلمت لذاتها.. إنه يبحث عن حرف نجاة!
من يمنحني حرف نجاتي؟
حتى الأسواق لا تملك من يبتاع الحزن الخانق
آه.. إن الموت الصادق درب نحو الأرض المهجورة..
من قال لشاعرنا أن الحزن كالخبز يباع.. انه مشاع تمتلئ به الأسواق، ولكن لا أحد يسوق حزن لغيره.. كل الباعة مهمومون بأحزانهم ودوا لو وجدوا من يحملها عنهم بالمجان.. وبالكثير من الشكر.. وفي مقطع آخر من قصيدته يقول:
لا تلعب بالنار إن كنت تخاف الضوء
ترجل عن فرس الأسفار فأنت التارك زادك
خلف غيوم المطر المقبل
أنت المخنوق بخوف الذات من الضوء السابح في عينيك
مأساة أن يزرع الضوء الساكن في العينين خوفاً تجعل منه الفرس الحلوة راكضة في صحراء العمر المجذب وأخيراً يتساءل:
ثم من أنت؟
هل أنت المدمن جرعات الصمت؟
هل أنت الموت؟
لا تلعب بالنار إن كنت تخاف الجوع
أقسى من الجوع يا صديقي أن يمتلك الخنوع إرادة الإنسان.. ألا يلعب لعبة الحياة حتى ولو كانت شاقة..
ومن حزن إلى آخر من أيام زاويته المعتمة إلى أنين ذاته.. كلتاهما تستمطران الشفقة والرثاء:
تظلين في خاطري غنوة.. لا تحب السكينة..
ودربك حين تنام العيون اشتياقي
وصوت ينث حنينه.. عليك
(ينث) لا أعرفها ربما فاتت معرفتي.. قد تكون صحيحة.. لقد قرأتها (يحث) هل هذا صحيح؟ إنه مع خاطرته، ومعها يتذكر ذلك الزمن الذي استبدل فيه الصبر بالملح، وراح يتجرعه رغم مرارته، لأن سنينه الطوال مرت كما تمر اللحظة الطائشة دون لقيا، ويبقى لوحده رهين حروفه التي لا تجيد اختراق الصحاري للوصول إليها.. إنه يتعذب هذه المرة بغربة حبيب يفصله البعاد عنه..
ومن لسعة الحب الى لسعة البرد القارصة جاء يشكو:
غنيت.. كانت كل أمتعتي غناء
أغفو على موج الطيوف.. وغفوتي
بقيت مبللة بدمع الحلم. يا دفء السماء
القشعريرة تحفر أوصاله.. يبحث عن نار.. أليست فاكهة الشتاء؟ يبحث عن أشعة شمس دافئة تسري في أوصاله:
لو تنزل الشمس الحبيبة فوق صدري
إن همّ البرد جاء..
لعله برد لا تدفئه نار ولا شمس.. أنه خوف مميت من شتاء حياة تناثرت أوراقها على مهب الريح الغاضبة.. جمود فكر.. خمول عطاء..
يا أنت يا زمن العطاء
ارحل فما عدنا نعيش الانتظار
لو مرة تهب المعذب جرعة من مائك المغموس بالحناء
لماذا تطلب الرحيل؟ وممن؟ العطاء ليس طيفا.. ولا ضيفا ثقيلا.. إنه أنت.. وهو. وهي. وهم.. العطاء يرحل بموت أهله فهل تطلب لنفسك الرحيل؟!.. لا أظن..
(من يفتح بابي) أي باب شاعرنا المغلق عليه بداخله.. أو باب مواويله المجهدة الراعفة الخائفة الزاحفة نحو القبر:
المواويل الى قبرك تزحف
ثم تزحف. ثم تزحف. لتموت
إنها تبحث عن صوت يغنيها
فهل تملك صوتا؟
يبدو من سياق أبياته أن لا أحد يغني مواويله:
آه يا عمرا على الشاطئ مهجورا يموت
أنت لو تستطيع أن تجمع ذكراك لغنيت
وباركت السنين..
إنه العجز يا شاعرنا قاتله الله.. العجز حتى في ترجيع المواويل التي لا تكلف صاحبها أكثر من فتح فم.. ناهيك عن فتح نافذة العقل..
أنت لو توقظ أعوامك لابتعت الحنين لترابك
لشربت المطر الآتي.. وودعت الأنين
دع العاجز لعجزه يقتله ظمؤه كي يتحرك إنقاذ لحياته..
(لهاث العمر المسحوق) عنوان جديد لظمأ جديد.. الليل فيه الفاعل..
الليل يصيرني نبتا
لا يثمر غير صراخ المفجوع
الآهات. الأرق الغافي
فوق الذهن المجروح
يفيق ليطعمني خوفي أو لهاث الجوع..
يسترجع شيئاً مما فات.. فهل ان ما يحاول استرجاعه قد مات؟ هذا هو السؤال:
في زحمة أحلام اليقظة غنيت.. بحثت
سألت عن العنقود المخنوق..
رئتي الأخرى.. تدرك ما يعنيه الماضي المسحوق..
نحن جميعا لا ندرك.. هل نحو ضالتنا في إجابته:
ريح الأعوام المهدورة
مازالت تتسلق أيامي
عمري المسحوق..
مازالت تصعدني كي تركلني ثانية
يا أموات التاريخ
ريح أعوامه الخالية غاضبة من خواء عمر لا يتعلم.. ولا يتكلم.. من حقها أن تثور لعل في هبوبها ما يحرك الساكن.. وينير الداكن..
الموت الموجع طالبني بالصمت
رفضت.. فحاصرني
يا عتمة هذا الكون الجاثم فوق المصدر أضيئي
خليني أعرف ذاك القابع خلف الأبواب
فأنا عاشرت البؤس. السوط
عرفت صراخاً سوّره الأعداء
ورأيت الإنسان المنهوك يباع
كل هذا عرفه شاعرنا، وهو في مخبئه المظلم داخل نفسه يقارع ويصارع وأخيراً يطالب ظلمة الليل أن تنجلي من ذاتها!! قديما قال فيلسوف الصين العظيم كونفشيوس.. (لا تلعنوا الظلام ولكن أوقدوا الشموع).. شموع المحبة.. شموع الأمل.. شموع العمل.. حينها لا يكون لعتمة الكون سبيل إلى سمائه..
شاعرنا يستطيب الوحدة ويشكو منها.. يستمرئ الوحشة ويهابها.. هذه المرة داخل.. الكهف.. لماذا اختاره؟!
لي بين أوردة الحياة منابع
حلم التراب بمائها.. وأباضع
يغفو فتوقظه الرياح كأنها
تدري بأن زنادها لا يهجع
هو يحلو له السبات.. أما ريحه أو روحه فإنها تحاول دفعه الى اليقظة، وهذا من حقها عليه. ومن حقه عليها..
بيني وبين تراب خطوتي الحبيبة ألف ميل
بيني وبينك يا ضياء الصوت يولد ألف جبل
هذه المسافة أغرقتني يتمتني. بعثرتني..
مزقتني.. ضيعت كل الدروب..
ألف ميل يبدأ بخطوة واحدة واثقة لا تهاب طول المسافة.. ولا تستسلم للخمول والكسل.. فهل جربت؟ في شعرك لم تجرب حتى اللحظة.. انك تلقي لومك على غيرك، وهذا هروب من الواقع الذي ترسم مواقعه الأقدام الثابتة في خطوها وفي خطواتها:
ألست القائل في مقطوعتك التالية التذكر؟
أنام وحلمي يدثره في المنام التراب
ويركلني الوهم. أصحو وأدرك
إن شرودي هروب، وصحوي اغتراب
تعالوا فإن التلون كهفي
ولون النفاق دثاري
تعالوا لأبكي على كتفكم
وخلوا حروفي تعاتب سيفي
أشعر مع هذا الوجع السلبي أن شاعرنا لا يتحدث عن نفسه.. وإنما يرسم بريشته الذكية واقع العالم المسكون بجهله وضعفه وهوانه.. إنه إنسان يصرخ بأدواته يلفظها شعراً.. ويرفضها شعوراً.. ولكنه يستبطنها كواقع حي يعيشه البشر لا يقدرون على تصحيحه.. قصائد شاعرنا متشابهة الصور والمضامين رغم اختلاف العناوين.. النار. والريح. والبرد. والنوم. والكهف. والهروب قواسم مشتركة تكاد تلمسها مع كل قصيدة في ديوانه (دفتر الحزن) وما أخاله يخرج عن الإطار الذي رسمه وحدده للديوان.. فهو معانات تتأرجح بين الشكوى.. والرفض.. وهو أسلوب ينزع إليه شعراء الواقع الذين لا تأخذهم الأحلام السرابية مأخذها فيغرقون..ويغرقون في سرابية الحلم الكاذب..
(دفتر الحزن) العلامة البارزة التي اختارها شاعرنا السعد عنواناً لديوانه (تعالوا معا نقلب أوراقه بدءا ببكائيته) بكاء..
مررت بداركم فوجدت قلبي
طريح الشوق يحلم بالتراب
ولم تمض على حبي سنين
مضت يومان فوق دنا سحابي
وقد هجروك قلبا مستهاما
فكان الهجر سما في شرابي
الهجر يا شاعرنا هجير لافح يكوي القلب ويدمي العين، وخير لك أن تهاجر عن هجرك الى واحة أخرى تمنحك الخصب وشيئا من الكرامة والاعتزاز بالذات.. وبقيمة الحب الذي لا هجران فيه، وإنما الغفران والتسامح.. لا أريد لقلبك أن يفقد صوابه. ولا أريد لليالي أن تؤرقك.. انفض غبار الحرمان عن مقلتيك.. ابصر دنياك بعينين مفتوحتين لا رمد فيهما ولا غبار، ولا انتظار لحب من طرف واحد.. ومن البكاء الى الهذيان الحزين الأكثر لوعة ووجعاً..
سأبكي:
كل ما لمست أيادي الأمس أجفاني
وأرى كل حرفي الملثوغ.. أركله
إذا طرقت حروف الأمل آذاني
لقد سئمت دواء الدم أوردتي
واغبيتي نحن اليوم للماضي
هل إنها الصحوة المفاجئة..؟ أم هذيان كهذيان المحموم الذي لا يدري شيئاً عما يحكيه؟
دروب الضوء ما عدنا نطيق الآه والقهرا
دعيني ألمس الجدران أجمع حبر أوراقي
أسامرها، أذكرها بخطوة ضوئي الأولى
دعيني أطرق الأبواب.. أصرخ.. إنني باقي
نعم كان هذيان صحوة لا هذيان حمى.. لقد انتصر على آلامه رغم الجرح المفتوح في قلبه.. وبقايا من بقايا حبه يرددها:
أواه.. لو أعبر أنهر الرياح منشدا.. حبيبتي..
(شوق رملي) تعريف جديد لمفردات مصطلحات الشوق تجعلنا نبحث عن الشوق الصخري.. والشوق الطيني.. فلكل منبت شوق مذاقه:
بعيد عنك والآمال في عيني تزدهر
وطيفك إذ يصب نسيمه المبتل
في شفتي.. يطرق أبواب أشواقي وينتظر
فتفتح بابها الأشواق
تحضن طيفك الليلي..
ولأنه غارق في بحر أشواقها حتى القاع وحتى النخاع فإنه يستنجد بها أن تأخذه
خذيني إن في عيني برقا فارق الراحة
سيأتلق.. ويشرب ضوءه الأفق
رغم هذا العشق الجارف فإنه ما برح يطرق الباب. يوشوش من شقوقه في همس.. إنه آت.. أما هي فلا أحد يدري.. قصائد كثيرة مررت عليها دون توقف (أنت وأحلامي واليقظة) (أنين السر) (الريح المسافرة) (ثلاث ليالي) (ثلاث حكايات صغيرة) (البستان) جميعها تحمل هما واحدا.. وألما واحدا.. في دفتر أحزانه لا ملامح فيه لبسمة.. ولا لنمسة حب باردة تطفئ غلواء قلبه.. هكذا اختار لنا ديوانه دفتر حزن.. وكان صادق الاختيار رغم سوداويته..
وفي النهاية يعرفنا شاعرنا فيصل السعد عن ذكرياته التي مازالت حية وعالقة في ذاكرته:
ذكرت مواقد النار
وثرثرة العجائز في ليالي البرد
(عن سلطان. عن جني)
وجيد النار إذ يعلو
إذا ما أُشعل السعف
إضافة الى جده. وخالته. وأخته وطفلتها.. والرمال التي ليست داره.. ومُنى الصغيرة التي تمنى لو كانت بين يديه يمشط شعرها الذهبي. ويُقبلها.. وهي تلاعبه وتداعبه ضاحكة.. (خالو..)
لعلها كانت نزاهة أسرية لها مذاقها مازال يسترجعها ويرويها:
نسامركم.. ونشعل فحمة الموقد
ونطوي قصة السلطان والجني
لنحكيكم عن الأسوار. عن رمل فرشناه
وعن شبح سحقناه
فخلف السور عاشت قصة الإنسان
نرويها لكل الناس..
إنه يتذكرها بين الحين والحين كليلة من أجمل ليالي عمره طرز فيها ضوء الفجر الأفق مادا خيوطه البيضاء إيذاناً بصباح جديد.. وعودة أخرى الى موعد آخر لم يحدد بعد:
وداعا يا أحبائي
سألقاكم بلا موعد..
ونحن بدورنا جميعاً نودع شاعرنا بعد أن شاركناه رحلة البحث عن دفتر أحزانه التي تمنيت أن يكون من بينها إطلالة أمل في حب مفقود اعتصر قلبه.. الأمل مطية حياة. والحياة زاد محبة..والحب ألا نفتح لليأس باباً.. حتى البؤس من أجل الحب يجب ألا تدفع الى القنوط.. اعطني حبا لا دموع فيه.. واعطني قلبا واحداً لا يبكي. الحياة في حياتها باكية وشاكية ولكنها تتحمل وتتحمل.. الحب طبيعته وطبعه وصال وانفصال هكذا علمتنا التجربة الحياتية المعاشة لا يصح لأحد انكارها شئنا أم أبينا.. تلك هي الحقيقة.


الرياض ص.ب 231185
الرمز: 11321 فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved