Culture Magazine Monday  23/07/2007 G Issue 208
الملف
الأثنين 9 ,رجب 1428   العدد  208
 

تجربتي في التتلمذ والطلب على يدي أستاذي محمد بن سعد بن حسين

 

 

دخل علينا في قاعة الدرس عام 1398هـ - 1978م مع بداية العام الدراسي في كلية اللغة العربية - وأنا في السنة الثالثة - شاب يناهز الأربعين عاماً بقليل، يلبس نظارة شمسية سوداء ويلبس شماغاً نظيفاً مكوياً بعناية، ومشلحاً أسود، ويحتذي (جزمة) سوداء أنيقة، ويمسك بيده المراقب العام على الكلية آنذاك الأستاذ الحازم عثمان النجران، حتى إذا انتصف الدكتور المشرق أناقة وامتلاء معنوياً وثقة قاعة الفصل تركه المراقب وودعنا ملوحاً بيده مع ابتسامة جادة!

سألت من بجانبي من الطلاب، وكان صديقي الذي ابتلعته الحياة في دولابها العريض الشاعر الرقيق عيسى الشريوفي: من هذا الأستاذ؟ وهل هو كفيف البصر؟ فأجابني: سمعت عنه، اسمه الدكتور محمد بن حسين.

استهل أستاذنا درسه في الأدب الحديث، وكان يعرض بالنقد لكتاب الدكتور عمر الدسوقي في هذا الباب عن عوامل نهضة الأدب الحديث في الوطن العربي بعد عصور الانحطاط، مستهلاً بهذا المدخل دراسة الأدب السعودي الحديث مع الأطوار السياسية والتاريخية التي مرت بها الحركة الفكرية والأدبية في الجزيرة العربية إبان العهدين: التركي والهاشمي قبل تكوين الدولة السعودية الثالثة ودخول الملك عبدالعزيز - رحمه الله - مكة المكرمة عام 1343هـ وصدور جريدة أم القرى بديلاً للقبلة (1)، ثم صدور الجريدة المؤثرة في الحركة الأدبية بصورة لافتة جداً (صوت الحجاز عام 1350هـ) (2).

كنا مندهشين ومعجبين في آن معاً بمقدرة الأستاذ في الإحاطة بمكونات النهضة، وبما كتب في ذلك، ومأخوذين أيضاً بأسلوبه الجيد في العرض، وبأنه من الجيل الجديد من السعوديين الذين قدموا بشهادات علمية عالية من مصر. لم يكن في الكلية ممن يحمل درجة الدكتوراه من أبناء البلاد سوى أربعة - إن لم تخني الذاكرة - وهم: د. عبدالله عبدالرحيم عسيلان، وكان يدرسنا أيضاً الأطوار التي مرت بها الجزيرة العربية في العهد التركي ثقافياً، والمخطوطات التي نهبت وما تضمه خزانات الأستانة من نفائس، وكان الدكتور العسيلان حديث عهد بتخرجه من مصر، وكذلك قدم في الفترة نفسها الدكتور عبدالله الحامد الذي اجتهد في الوقوف على قيم النقد الفنية الحديثة في النظر إلى النص الشعري، وتوقف طويلاً عند قصيدة البحتري في إيوان كسرى:

===========================

صنت نفسي عما يدنس نفسي

وترفعت عن جدا كل رجسي

===========================

وكنا نرى أيضاً شاباً أنيقاً يدخل إلى القاعات باستعجال لافت، ويمر علينا في المداخل واثقاً يلبس مشلحاً عودياً وعلى عينيه نظارة طبية، فسألنا عنه: من يكون هذا؟ فقيل: إنه الدكتور عبدالعزيز الفيصل. أما الدكتور عبدالله بن حمد الخثران الذي كان يدرسنا مادة الصرف فقد كان منهمكاً إلى حد أشبه بالتبتل في الإقبال على البحث والدرس. هؤلاء الأربعة ممن يحملون الشهادة العالمية (الدكتوراه)، وكان بجانبهم من الأساتذة الفضلاء: الشيخ ناصر الطريم وكيل الكلية في النحو، والشيخ عبدالعزيز الفالح عميد الكلية، والشيخ عبدالعزيز الشعلان مدرس مادة البلاغة.

جاء الدكتور محمد بن سعد بن حسين وكلية اللغة العربية تفتقد الكفاءات الوطنية (3)، والصورة العامة لقضايا الفكر والأدب في المملكة العربية السعودية غير واضحة في منهج الدرس العلمي؛ بل لم تكن مادة الأدب السعودي موجودة في الأصل؛ إذ كان هذا الأدب - إن اعترف به - تدرس نصوصه ضمن أشكال الأدب العربي دون أن يفرد بالدرس والتحليل والإحاطة بالظروف السياسية والاجتماعية التي كونته وأنضجته وتشكل من خلالها وتنوع إلى أن استقل بشخصية متميزة في العقود الأخيرة عند نهايات القرن الرابع عشر الهجري.

وحين قدم ابن حسين عام 1398هـ من القاهرة متخرجاً في جامعة الأزهر - كلية اللغة العربية - قسم الأدب والنقد وجد نفسه محاطاً بكوكبة من العلماء الأفذاذ في التخصصات اللغوية والنقدية كافة، ممن كانوا يمنحوننا الرحيق العلمي خالصاً مصفى بإخلاص وانقطاع عن الأسباب الحياتية الأخرى، يدفعنا معه ونحن الشداة المتطلعون إلى صحبة الأسماء الكبيرة والالتصاق بها ومذاكرتها إلى أن نكون قريبين منهم، منصتين إليهم، مرافقين لهم في روحاتهم وجيئاتهم، ولنا في هذه المواقف ما يستحق التدوين في مقالة أخرى إن شاء الله. كان يحيط بنا بالأستاذ الجديد القادم من الجامعة العريقة علماء كبار وهم: د. محمد محمد حسين أستاذ الأدب الحديث ورئيس قسمه صاحب كتاب (حصوننا مهددة من داخلها) وكتاب (التيارات الوطنية في الأدب العربي الحديث)، ود. درويش الجندي أستاذ البلاغة والنقد، ود.بدوي أحمد طبانة أستاذ النقد، ود. علي الجندي أستاذ الأدب الجاهلي، ود. عبدالخالق عضيمة أستاذ الصرف والحائز على جائزة الملك فيصل العالمية، ود. السيد خليل أستاذ النحو الظريف، ود. علي عبدالحليم أستاذ النصوص، ود. عبدالرحمن رأفت الباشا أستاذ ما يسمى منهج الأدب الإسلامي، ود. محمد علي الهاشمي أستاذ النصوص، ود. سيد عبدالفتاح حجاب أستاذ البلاغة صاحب الصوت الجهوري، ود. عبدالله ربيع أستاذ علم اللغة، ود.عبدالقدوس أبو صالح الذي كان يعطينا دروساً في شعراء صدر الإسلام مثل ذي الرمة.

هؤلاء هم نجوم كلية اللغة العربية الذين أشاعوا في الكلية جواً علمياً جاداً، وأسهموا بمشاركاتهم في الندوات والمحاضرات خارج محيط الدرس المنهجي بإثارة التساؤلات والجدل حول قضايا كانت - آنذاك - موضع إثارة وخصومات، مثل محاضرات د. محمد محمد حسين عن الماسونية، ومحاضرات د. الباشا عن الأدب الإسلامي، ومحاضرات د. بدوي طبانة عن تيارات النقد الحديث. ومن غير شك في أن الأستاذ القادم لتوه بشهادته العالية من الأزهر وجد نفسه محاطاً بهؤلاء وبجلال حضورهم الأدبي ولمعان أسماء كثير منهم في الصحف والندوات فزاده هذا اندفاعاً وحماسة نحو إثبات الذات العلمية والسعي إلى مزيد من البحث والكتابة والإسهام في الحياة الثقافية العامة.

لقد كان لكل أستاذ من هؤلاء لونه وطريقته في البحث وفي الإلقاء؛ بل كان لدى كثيرين منهم من الاعتداد بشخصياتهم العلمية ما يدفع القادم الجديد إلى مزيد من التحدي والصمود في هذا المعترك العلمي التنافسي المحمود.

ومما يحسن ذكره أن الكلية في عهد هذه الكوكبة كانت تدرب الدارس الناشئ على مناهج البحث، وتعلمه الصبر على السعي نحو الحصول على المعلومة، وتروضه على قبول النقد؛ وهذا ما أفاد كثيراً في تخريج أجيال علمية انطلقت خطواتها الأولى من هذه البيئة المخلصة الدؤوبة على العلم وتعليمه. لقد كان لابن حسين وهو يمد خطواته الأولى عام 1398هـ فضل كبير على أجيال عديدة لاحقة فيما بعد؛ إذ استفاد من مكوناته الذاتية العقلية الثاقبة، ومن جلده وصبره ومقدرته على احتمال المكابدة والمعاناة في سبيل الوصول إلى تحقيق الغاية المرجوة.

وفي هذا الجو العلمي بحثت (الحكمة في شعر زهير بن أبي سلمى) بإشراف الدكتور علي الجندي في الأدب الجاهلي في السنة الأولى، و(الاستعارة والتشبيه في سورة البقرة) بإشراف الدكتور سيد عبدالفتاح حجاب في البلاغة في السنة الثانية، و(المعرب في القرآن الكريم) بإشراف الدكتور عبدالله ربيع في علم اللغة في السنة الثالثة، و(الشعر السعودي بين التقليد والتجديد) بإشراف الدكتور محمد بن سعد بن حسين في الأدب الحديث في السنة الرابعة.

سعى ابن حسين إلى أن يكون للباحث السعودي استقلال في الشخصية واهتمام خاص بالبيئة الثقافية المحلية، ودخل في صراعات مبكرة أومأ إلى بعضها في مواضع مختلفة من سيرته الذاتية (4)؛ لأنه كان يستمع إلى بعض الآراء الناقدة التي تنكر على ابن حسين عنايته بقضايا الدرس العلمي في الأدب السعودي، وأنه لم يصل بعد في كثير من وجوهه إلى أن يخص بالدرس، وأن يُجعل موضع أبحاث طويلة؛ بل أن تفرد له مواد تدرس في الكلية للطلبة! ولم يستجب للأستاذ سواي في هذه الرغبة، على حين اتجه زملائي اتجاهات أخرى، أو توقف بعضهم عن الدرس بعد التخرج (5).

أوكل لابن حسين رئاسة قسم الأدب في الكلية عام 1402هـ بعد وفاة رئيسه السابق الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله - فأحدث ثورة في الدراسات المتصلة بالأدب السعودي، وبقضايا الحركة الفكرية والإبداعية في المملكة، ورفض مقترحات كثيرة لقضايا في المحيط العربي؛ متعللاً بأن لكل محيط دارسيه وباحثيه، وبأن أدبنا لا زال في حاجة ماسة إلى جهود علمية كبيرة ودؤوبة لخدمته وإبرازه وإظهار مكنوناته ومواضع القول فيه، وكنت وقتها قد سجلت للدراسة التمهيديّة في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود، وأجرى معي اختبار القبول الدكتور محمد بن عبدالرحمن الشامخ، والدكتور حسن شاذلي فرهود - رحمه الله - وهاتفني الشامخ يخبرني بقبولي طالباً في الدراسات العليا بالجامعة؛ لكن ابن حسين هاتفني في الوقت نفسه يدعوني إلى الالتحاق بكلية اللغة العربية من جديد طالباً في السنة التمهيدية عام 1402-1403هـ بعد أن رأس قسم الأدب فيها، وكان يعلم موقف الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله - مني حين كتبت في امتحان مادة الأدب عن الشاعر حسان بن ثابت وذهبت إلى أن شعره في الجاهلية أقوى منه في الإسلام فنياً، وكتبت في هذا باستدلالات وشواهد كثيرة وآراء متعددة للأصمعي ولغيره ملزمة كاملة، وكنت استأذنته قبل الدخول للامتحان في أن أقول ما أعتقده صواباً فرحب بذلك وأثنى على اتجاهي نحو التفرد برؤية خاصة؛ لكنه طالب وألح بالاستدلال وإسناد الرأي الفني بالشواهد؛ بيد أنه لم يفِ بوعده؛ ما اضطرني إلى إعادة سنة دراسية أخرى بعد أن أحدث في نفسي من العتاب والملامة الشيء الكثير، ودفعني ذلك إلى البحث عن مكان آخر أحضر فيه للدراسة العالية، وهو قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود؛ لولا حرص أستاذي ابن حسين ومعرفته واطلاعه على الإجراء غير الموفق الذي خسرت بسببه سنة دراسية كاملة، وبذلت بسببه أيضاً إعادة سنة دراسية كاملة جديدة!

المقالة في الأدب السعودي الحديث:

كنت اقترحت للبحث في الماجستير موضوع الرواية السعودية، وأسند الإشراف إلى الدكتور عز الدين الأمين، وبعد بحث متأن لم أجد ما يشبع رغبتي - آنذاك - في المنتج الإبداعي في الرواية، وجئت إلى الكلية باعتذار عن هذا الموضوع، وسألني الدكتور عبدالله الخثران: لماذا لا تكتب في المقالة الأدبية، وهو موضوع بكر على الدارسين وجديد على الدرس الأدبي؟ لكنه قال: إنه قد يأخذ منك سنوات غير قليلة بسبب المصادر الصحفية النادرة، ونفاد كثير من الكتب المقالية المطبوعة، وندرة الإشارات النقدية لقضايا المقالة في مراجع الدارسين؛ فاستشرت الدكتور ابن حسين وبسطت له ترحيبي بفكرة د. الخثران وحماستي لها فزادني - جزاه الله خيراً عني - حماسة وثناءً، ودعاني إلى توسيع المقترح وتحديد سنواته، والإشارة إلى مظانه ومواضعه وقضاياه، وهكذا تدرج البحث في موضوع المقالة في الأدب السعودي إلى أن عرض على القسم فأيده وحث الأعضاء على الموافقة عليه، وطلب أن يسند الإشراف عليه إليه.

وبدأت الدراسة والجمع والتحصيل والتنقيب والتقميش عام 1406هـ إلى نهاية عام 1410هـ، عانيت فيها من الرهق والمشقة والتقريع والتشجيع والتأنيب ما عانيت، ونالني من أستاذي من توجيه اللائمة على استطرادي وانسياقي خلف ما أعتقد صوابه ما نالني حتى ارعويت ووطنت نفسي على أسس المنهج العلمي الرصين، ويا لطالما رجعت من دارته القديمة في الملز وأنا أجر خطايا جراً بعد أن لم يقبل مني لا صرفاً ولا عدلاً، مطالباً إياي بحذف فصل كامل والاحتفاظ به لنفسي لنشره في أي مكان لكن لن يكون فصلاً من هذا الدرس المخصص لنيل الماجستير في موضوع المقالة، وكنت أعتقد أنني حين كتبته بلغت الثريا، وأن الأستاذ سيكون حفياً به حريصاً على ضمه إلى فصول الدراسة التي سبقت إجازتها.

صورة المرأة في القصة السعودية:

عرضت عدداً من الأفكار والقضايا على الدكتور عبدالحميد إبراهيم أستاذ الدراسات العليا بكلية اللغة العربية مطلع عام 1413ه في شقته أمام حديقة الفوطة بعد أن تعرفت عليه في الكلية، وكان لبقاً لطيفاً حسن المعشر، فدعاني إلى زيارته في المنزل؛ للتفكير والتأمل والخروج برؤى جديدة، لكنني أشرت في حديثي إليه وبتوصية من أستاذي ابن حسين إلى أنني أريد أن أخلص جهدي العلمي ودرسي للأدب السعودي وطرق قضايا جديدة في محيط الإبداع الأدبي السعودي، وكان الدكتور عبدالحميد إبراهيم معنيّاً بقضايا المرأة والدراسات حولها، وأشرف لتوه على بحث مطول ومتقن أجرته سوسن ناجي بعنوان (المرأة في المرآة: دراسة نقدية للرواية النسائية في مصر 1888-1985م) (6)، وهو امتداد لجهد علمي رائد قام به الدكتور طه وادي في دراسته المعنونة ب(صورة المرأة في الرواية المعاصرة) (7)، فاقترح الدكتور عبدالحميد علي أن أدرس صورة المرأة في القصة السعودية، وتحدث إليّ عن القضايا التي يحسن بي أن أتناولها في هذا الدرس، وإلى أهميته من حيث الجانب التاريخي؛ إذ لم يسبق لأحد من الدارسين تناول قضايا المرأة أو كتابتها الإبداعية، فاستعنت بالله وعزمت على القراءة فيه أولاً ثم الكتابة بهذه الفكرة إلى قسم الأدب بصورة موسعة.

كان الدكتور محمد بن سعد بن حسين أول المصوتين على هذا الموضوع بالموافقة على الرغم من المحاذير الكثيرة التي تكتنفه، واعتراض عضوين أو ثلاثة من الاتجاه المحافظ على جدوى مثل هذا الدرس، وأنه سيفتح الباب أمام إظهار الدعوات الخفية المبطنة في بعض النصوص القصصيّة المتمردة على الواقع الاجتماعي والديني، لكن اتفاق الدكتورين: ابن حسين وعبدالحميد على أهمية الموضوع دفعها إلى استقطاب أصوات أخرى إلى صفها بحيث نال الموضوع الموافقة بفارق صوت واحد فقط! وطلب الإشراف عليه وبلغتني الكلية بذلك فبدأت رحلة علمية جديدة مع هذا الموضوع إلى عام 1420هـ، حيث تمت مناقشته بعد ست سنين بصحبة المشرف عليه الدكتور ابن حسين، وهو بحث مطول جداً تكون من ألفي صفحة درستُ خلالها مائة وثلاثين رواية وأكثر من ستمائة قصة قصيرة، وجلستُ مع أستاذي خلال ثلاث سنوات بعد أن بدأت الكتابة بعد الجمع والتحصيل والتدوين ثلاثاً وسبعين جلسة، كل لقاء مدته ساعتان أو تزيد.

منهج الدكتور ابن حسين العلمي:

يعتمد ابن حسين في الدراسة العلمية على ثلاثة مبادئ، وهي:

- استقصاء المعلومة والتوثق منها بدقة وبصرامة شديدة.

- عدم القطع الكلي بصحة الاتجاه أو المذهب أو الرأي الذي يراه الباحث، وإنما الترجيح والتأييد بعد الوقوف على ما يدفعه إلى الاعتقاد بهذا الرأي أو ذاك.

- كبح جماح الاندفاع أو الشعور الذي يعتري الباحث بأنه قدم ما لم يقدم غيره، أو اكتشف جديداً، بل يعمد الأستاذ إلى زرع خاصية التواضع العلمي في شخصية تلميذه واحترام جهود غيره من الدارسين.

وأمام هذه القيم الأخلاقية الصارمة بدأتُ أتهاوى أمامه في كل جلسة في الماجستير حين بدأت القراءة عليه عام 1407هـ، ثم في الدكتوراه حين استأنفت القراءة عليه عام 1417هـ فخذلني كثيراً، وكانت أقسى الدروس في المرحلة الأولى التي بدأت اكتشاف شخصيته فيها بعمق لم أصل إليه حين كان يهادننا ويلاطفنا في المرحلة الجامعية بوصفها مرحلة عابرة، وشهادة تؤهل للوظيفة والرزق، ولا تؤكد بالقطع تخريج أو ولادة باحث علمي؛ لذا لم تكن شخصيته الصارمة واضحة كل الوضوح في المرحلة الجامعية؛ لأنه لم يفرغ لنا ولم نفرغ له نحن؛ لأن من يعطوننا دروساً كثيرون، وتضيع هوية المنهج عادة في حالة تعدد أوجه التلقي.

وفي أحايين كثيرة يشتد الخلاف ويدفعني اعتزازي برأيي إلى الإصرار على عدم التنازل، وهو أيضاً يحملني مسؤولية هذا الرأي، ويسعى إلى أن ألطف العبارات بما هو أخف وأكثر قرباً من المنهج العلمي الميال إلى الاقتضاب والتحديد والوضوح وعدم الاندفاع بتزيد أو إسهاب أو مبالغة في النفي أو الإثبات.

هكذا هو رأي الأستاذ، وحين يتأزم الموقف يقترح عليّ بعد حذف كلمة أو كلمتين أو سطر أو سطرين أن أشير إلى رؤيته هو في الهامش، ثم يدعوني إلى الوضوء والاستعداد لأداء صلاة المغرب، وحين نعود من الصلاة وفي أثناء حديثنا في الطريق يضغط على يدي متسائلاً: هل لا زلت مصراً على رأيك؟ فأجيبه: لا، سأحذف ما طلبت حذفه، فيحمد الله.

وحين أكرر عبارة أو أستملحها أو لا أجد غيرها، أو تلاحقني كلزمة لا فكاك منها يضحك مني معاتباً: ضاقت اللغة إلا من هذه! عدّل ما كتبت بعبارات أخرى غير مكررة. فأجيبه: استهلكت نفسي وضقت ذرعاً بطول المادة، وفقدت الحرص على التأنق والدقة في انتقاء العبارات. فيجيبني: لا تفقد ذائقتك اللغوية يا ابني، ابدأ نشيطاً وتوسط كذلك وانته وأنت كما بدأت في التجدد والنشاط، لا تكسل!!

أمرني أن أجري موازنة ختامية بين فنون المقالة في ختام دراستي فلم أجد نسقاً أتبعه؛ لأن الموازنات كانت للشعر، على حين خلي النثر من موازنات نقدية بلاغية جمالية، فأعياني التفكير في المنهج المفقود لدرس كهذا، ومكثت ليالي أدور في مكتبتي لعلي ألتقط إشارة تضيء لي الدرب، وحيناً أنكب على ما كتب في الموازنات الشعرية لعلي أجد شبهاً أو مماثلة أستنسخها إلى النثر فقرأت ما كتبه الآمدي وغيره كثيرون، وبعد أيام سألني: هل وصلت إلى شيء؟ قلت: ليس بعد. قال: إن مخك مقفل بعد هذا المشوار الطويل من البحث. اعمل كذا وكذا وكذا! ففعلت ونجوت من هذا الفصل المرهق.

مواقف وطرائف مع الدكتور ابن حسين:

كان يضرب لي موعداً للحضور إليه في بعض فصول السنة بعد صلاة الفجر بقليل، الساعة السادسة تماما، وثمة مسافة في الطريق تستدعي ما يزيد على عشرين دقيقة بين منزلي في حي شبرا بالرياض ومنزله في حي الملز عام 1407هـ، وتأخرت في يوم شتوي بارد ربع ساعة فوضعت إصبعي على جرس الباب أكثر من مرة فلم يجبني أحد، وبعد يأس وانتظار إلى السادسة والنصف عدت إلى منزلي معللاً نفسي بأن الأستاذ غلبه النوم بعد الصلاة!

وبعد الظهر هاتفته لتحديد موعد آخر لقراءة الفصل الجاهز وسألته عن غلبة النوم عليه وأنني وضعت إصبعي على جرس الباب أكثر من مرة، فقال: نعم سمعتك ولكنني لم أشأ استقبالك؛ لأنك تأخرت ربع ساعة، وهذا لا يليق بك.

فصرت بعدها أحزم أمري مبكراً قبل وقت كاف، حتى إن سيارتي تعطلت في إحدى المرات فركبت سيارة أجرة على عجل - ولم يكن آنذاك هاتف الجوال - متأبطاً ملزمتي وأوراقي وأقلامي؛ خشية التأخر على الأستاذ، وحين ألاقيه وهو يرد السلام يضع إصبعه على عقارب الساعة الملتفة على ذراعه اليسرى؛ ليتأكد من انضباطي بالوقت.

وكان حين يغلبه النعاس بعد صلاة الفجر يقوم من مكانه وهو يستمع إلي ويدور في المجلس أو المكتبة حيث نلتقي ساعياً إلى طرد النعاس والتيقظ لما بقي من صفحات الملزمة، وحين تمضي صفحة لا يتوقف عندها يغمرني شعور بالسعادة بأن هذه (عدّت) والحمد لله بسلام!

وفي إحدى الزيارات وزيارات بعدها اضطجع في المجلس مستلقياً وقال: اقرأ إن ظهري يؤلمني ولا أستطيع الجلوس، فاستأذنت طالباً تأجيل هذه الجلسة إلى أن يشفى ولكنه أبى!

وقدمت إليه في أحد اللقاءات العلمية لقراءة ملزمة وكنت مبكراً والليل بعد صلاة الفجر لم ينجل بعد، فقال: هيا بنا إلى الكلية - وحينها كان يرأس قسم الأدب - والكلية في حي الناصرية، فدخلنا الكلية بليل بعد أن طرقنا الباب طويلاً على الحارس، وقرأت عليه الملزمة كاملة في مكتبه.

ومن ذكائه الشديد وتسامحه أيضاً طلبه مني حين كتبت مقالة بعنوان (من مصادر دراسة الأدب السعودي) في جريدة الرياض أن أعتذر لفلان من أعضاء هيئة التدريس وأن ألاطفه؛ لأنه قد يكون أحد أعضاء لجنة المناقشة في الماجستير، بينما هو لم يغضب مع أنني انتقدته مع آخرين بقسوة (8)، وكان توقعه صحيحاً فقد تم اختيار (فلان) ذاك وفي نفسه علي ما فيها من سخط على ما كتبته، فصب جام غضبه في المناقشة وحرمني التقدير الذي أستحقه!

وطلبت مرة التقاط صور تذكارية في نهاية الجلسات المتصلة بموضوع صورة المرأة في القصة السعودية عام 1419هـ، واستعداداً لتأريخ هذه المناسبة أتيت ومعي الكاميرا واستأذنته والتقط قارئه - وهو أخ من مصر - صوراً عدة، ثم فاجأنا الأستاذ بقوله: هل تودان صورة مشتركة لكما؟ فقلت: نعم. قال: إذن هات آلة التصوير. فقلت: ماذا تريد أن تفعل يا أستاذ؟ فقال: أصوركما! قلت: كيف؟ قال: استعدا.. تحدثا بصوت عال ثم حين تحدثنا أضاء الفلاش، فقال: ثانية وثالثة أيضاً..تحدثا!

وحين خرجت الصور بعد التحميض (الكاميرا من الجيل القديم) فاقت في دقتها وتوازنها الصور التي التقطها القارئ!!

قدمت له برنامج (من المكتبة السعودية) مدة عشرين عاماً بدءاً من الحلقة الأولى في 1-9-1399هـ إلى نهاية عام 1419هـ (9)، وبالتعاون مع زملاء آخرين، فكانت الخطوط تختلف باختلاف من يستعين بهم للقراءة، ولكن الحلقة المكونة عادة من سبع صفحات إلى ثمان تأتي مطبوعة بالآلة الكاتبة وأجد بعض الحروف منقطعة في نهاية بعض الأسطر فأعلم أن الأستاذ هو كاتبها؛ لأنه يطبع على آلة بطريقة برايل، وهو أول من تعلمها وعلمها في مدينة الرياض.

بعض آرائه ومواقفه النقدية:

أجريت مع الأستاذ حوارات عديدة، منها القصير والطويل، وواجهته بما يقال عنه، وبما يتهمه به مناوئوه وهم كثر ممن يتجهون اتجاهاً آخر مناقضاً لما هو عليه من محافظة؛ ففي حلقة برنامج (بعد الإفطار) في رمضان من عام 1409هـ احتد وتدفق يقرع من يقول بتقليديته في الأدب نقداً أو شعراً. يجيب الأستاذ: (أما أني أميل إلى القديم فشيء أعتز به، وأما أني تقليدي فإذا كانت المحافظة على القديم والاعتداد به تقليدية فإني أقول: إني أعتز بتقليديتي، بل وإن شئت فرجعيتي على حد تعبير طه حسين، إني أعرف جيداً أن الذين يقولون هذا القول غير صادقين مع أنفسهم، ولكنهم يريدون التحرش وما عوّدت نفسي على الاستجابة لمثل هذا) (10).

ومن ذلك مواقفه من الأدب الإسلامي وما يقال عن التباس في موقفه منه، مع أنه عضو في رابطة الأدب الإسلامي، ولكنه يحمل رؤى نقدية أعلمها جيداً لكثير من اجتهادات منظريه. وقد نشر مقالة جيدة في مجلة الحرس الوطني تبين عن اختلاف كبير في وجهات النظر النقدية التقعيديّة مع واحد من الذابين عن هذا المصطلح، وهو الدكتور عبدالقدوس أبو صالح.

على أن الأستاذ لم يألُ جهداً في تأصيل ما يعتقده منهجاً يخدم هذا المصطلح، فكتب في هذا كتباً عدة تجلي موقفه وتبين عن رؤاه الواسعة التي تخرج بمفهومه عن قصائد الوعظ والإنشاد والنصائح والتواشيح الدينية (11).

وقد يشتد في النقد ويكون مواجهاً صلفاً مثل ذلك المقال الذي نشرته جريدة الجزيرة عام 1400هـ في ملحقها الأسبوعي، وكان يحمل فيه على الاستعمال الخاطئ للغة، واستخدام كلمات في غير موضعها، فنشر مقالة عن قصة للأستاذ سليمان الحماد عنوانها (الآلة تسرق ذهني) (12)، منصباً نقده على استخدام الكاتب السيئ للضمائر، فغضب الحماد وقتها من الأستاذ ورأى أنه اكتفى باللفظ السطحي عن النظر في التقنية الفنية للقصة.

وفي كتابه (كتب وآراء) المكون من جزأين وقفات نقدية لا تخلو في بعضها من الصرامة والبُعد عن المجاملة، وكنت أعلم الطقس النفسي الذي يكتب فيه الأستاذ هذا النقد القاسي من خلال طول ملازمتي له، فهو يشتد على ما يراه عبثاً وتجاوزاً واستسهالاً من المغامرين في الكتابة أو الشعر، ويحنق إلى حد الغضب بعبارات قاسية على ما يرى فيه تجديفاً دينياً، أو خروجاً على قيم أخلاقية، ولكنه يسلس ويلين ويرفق؛ بل يجامل في بعض المواقف؛ لكثرة ما يعرض من كتب على اختلاف مضامينها وتشتت مآخذها وتنوع اهتماماتها وتباين حظوظ أصحابها في التجويد والضعف.

وليس لدي ظن آخر في أن الأستاذ لديه عقل واع اجتماعي معيشي ازداد سيطرة عليه بعد التقدم في السن، فقد كان ذلك المقال وما يشبهه في اتجاهه الحاد مطلع عام 1400هـ، على حين لا يمكن أن نجد له اتجاهاً على هذا النحو الحاد الساخط في هذه المرحلة العمرية بعد تجربة طويلة في النقد ومران وتمرس وإدراك لما يغضب ويسخط ويبعد ويقرب.

وربما كان من هذا التوسط موقفه المُرضي كل الأطراف نحو ما يسمى ب(الأدب الإسلامي)، فهو لا يريد إغضاب أصحابه، ولا يريد إنكار ما لدى معارضيه من رؤى لا تخلو من حق، ولديه أيضاً رؤيته الخاصة التي تقعد لقيم أخلاقية في الأدب ولكنها لا تحده بإطار أصحاب المصطلح!

ماذا يجب علينا نحو الأستاذ؟

ربما كنت من أقرب تلامذته إليه وأوثقهم صلة به وأطولهم مداومة في الدرس على يديه؛ إذ تلقيت عليه في الليسانس ثم الماجستير ثم الدكتوراه، وقدمت له برنامج (من المكتبة السعودية) عشرين عاما، وحاورته مرات عدة في الإذاعة في برامج مختلفة، وفي التلفزيون، وفي الصحافة (13)، فتعرفت على طبيعته وتكوينه النفسي ونظرته للحياة وللناس وللقضايا العامة وللفنون وللشعر وللمرأة وللمصالح، ولما يحسن ولما لا يحسن فعله على المستوى الوظيفي المعاشي.

لقد كان مفاجئاً لي طلبه مني عام 1399هـ ونحن خارجان من باب الكلية في مبناها القديم بشارع الملك فيصل مقابل مسجد العيد بعد ختام اليوم الدراسي مادة فنية من مكتبة الإذاعة، وفي الفترة نفسها تقريباً طلب مني ونحن في الإذاعة الشيخ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري بعد خروجه من الاستوديو مسجلاً حلقات من برنامج يومي كان يعده ويقدمه أغنية (وسط الطريق) لنجاة الصغيرة، وفي ذلك الوقت - وربما لا زال - اشتهر ابن عقيل بغرامه بأم الوليد وبفنها، أو بالاثنين معاً! (14).

فعلمت أنني أمام أديبين كبيرين لهما ذائقتان فنيتان رفيعتان، وأنهما وإن كان يفهم منهما المحافظة والميل إلى التقليد إلا أن لهما حظاً كبيراً في الشعر والفن والقصة والتذوق، فالأول (ابن حسين) ليس ناقداً أو دارساً وعلى حظ وافر من التحصيل في العلوم الشرعية فحسب، بل هو مبدع موهوب وكاتب متدفق وفنان يرصد أدق خلجات النفس وخطراتها في مقطوعات ومقالات وخواطر ونصوص شعرية متعددة. والثاني (ابن عقيل) ليس عالماً في الفقه وضليعاً في اللغة فحسب، بل هو الكاتب الناثر والشاعر المحلق والمعبر المنثال ذو العاطفة الشفيفة الرقراقة (15). فابن حسين على هذا النحو ووفق هذه الرؤية أكثر عمقاً وشمولاً واتساعاً وأوسع مدى من ظنون كثيرة تدور حوله حين يعرض له نقد قاس ممن ينتمي إلى الجدة والحداثة؛ وكأن ما بينهما منقطع غير موصول، والأمر لمن هو مثلي في هذه المنزلة من القرب من الأستاذ جلي واضح، ويمنحني ثقة في عدم تحسسي أو قلقي من انتمائي والتلقي على أمثال الأستاذ، على حين أصيب الشبان الذين نبتوا مطلع 1400هـ -1980م وتبرعموا في أحضان التيار الحداثي بخيبة أمل مرة وانكسار محبط حين وقفوا في منتصف الطريق، لا هم تأسسوا وتعلموا المنهج الفني وقيمه وقوانينه وتاريخه في الشعر والقصة والفنون فكانوا أكاديميين، ولا هم لحقوا بموجات التجديد الحداثية الفنية وأثمروا فيها وأبدعوا ما يقيم لهم وزنا واعتبارا، ويضع لهم تجربة جديدة تتخذ منها الأجيال اللاحقة أنموذجاً للتجديد والتجريب والإضافة!

كان الشبان الثائرون مطلع القرن الهجري الجديد ينقمون على مجتمعهم وعلى عصرهم من خلال رفض الأسس والمنطلقات وربما بعض الثوابت والارتماء إلى الغريب والحديث أياً كان، والمخالف والمتجاوز والمنكر من الصور والأبنية والألفاظ والاستعارات والأخيلة. ولم أجد في هذه التجارب الفنية القافزة ذات العاطفة الجامحة في لحظة زمنية مؤقتة سوى أنها صورة من صور الغضب على الواقع ليس إلا، أو الاحتجاج والرفض لما يضطرب به المحيط العربي كله من انكسار وهزائم وشتات وصراعات مُرة، على حين وجدت في قيم الأصالة والاستقرار الفكري والنفسي التي يأخذ بها الأستاذ منجاة من تدافع لذاتي من زملائي في الصحافة واندفاعهم وتساقطهم في غواية ونفور وشرود المعنى واللفظ والأبنية.

لقد اجتهد الأستاذ وأصّل وكتب في فنون كثيرة أكثر من ثلاثين كتابا، بعضها له طابع موسوعي شامل مثل كتابته عن الأدب الصوفي، أو الملحمة في الشعر الحديث، أو المعارضات في الشعر العربي، أو المدائح النبوية، أو الملحمة في الشعر العربي.

وقد قطع رحلة طويلة جداً في ميدان البحث والتأصيل والإبداع بدءاً من كتابه (الأدب الحديث في نجد)، وإلى سيرته الذاتية الضخمة المطولة المخطوطة التي ستصدر في أجزاء عدة (من حياتي) عمر هذه الرحلة العلمية ينيف عن خمسين عاماً من الجد والجلد والمثابرة أشرف فيها على عشرات الرسائل العلمية، وأغنى مكتبة الإذاعة، وأسهم في الصحافة، وفي الندوات والمحاضرات، وفتح صالونه الثقافي (ندوة النخيل) وأثار فيها قضايا عديدة كانت محوراً لنقاشات ساخنة.

هذا الأستاذ المتبتل في محراب العلم المنقطع إلا للدرس والبحث، المجتهد في تقسيم وقته خلال اليوم الواحد بين لقاءات مع طلبته وكتابة مقالة أو برنامج أو بحث وإلقاء دروس على طلبة الدراسات العليا في مقدرة عجيبة على التوفيق بين كل هذه المسؤوليات الجادة التي تنهك بدون شك من يداوم على هذا المنوال أكثر من خمسين عاما! هذا الأستاذ لم يحظ بوسام ولا بوشاح ولا بقلادة ولا بجائزة ولا بشهادة تقدير، لم نقل له: أحسنت وجهدك مقدر ونحن نشكرك لما قدمته لمجتمعك على الرغم من حاجتك إلى من يبصر لك واعتمادك على غيرك في القراءة والتحصيل والكتابة!

لقد دعوت في عام 1418هـ إلى تكريم الرواد بإعادة جائزة الدولة التقديرية في الأدب وإحيائها وتوسيع نطاقها لتشمل فنوناً أخرى من العلوم والاحتفاء بالمبرزين من علمائنا وكتابنا والمبدعين المتفوقين، تلك الجائزة التي توقفت بعد دورتين فقط من إنشائها وكرمت ستة من رموز ثقافتنا ثم طواها النسيان، وكأن مجتمعنا قد توقف عن إنجاب المفكرين والباحثين والموهوبين ومن يستحقون التكريم!! (16).

إن الشخصية السنوية التي تكرم في المهرجان الوطني جزء مهم جدا من هذا الاحتفاء الذي يحسن بنا أن نوليه لمبرزينا، والأصل في أن يتم التوسع في هذا التكريم بإعادة جائزة الدولة السنوية بنظامها التأسيسي الذي صدرت به عام 1403هـ واعتمدت عليه في النظر إلى الشخصيات الوطنية التي تستحق التكريم والاحتفاء (17).

ولقد سمعنا مؤخراً وفي احتفالية العواد بنادي جدة الأدبي خبراً مفرحاً من معالي وزير الثقافة والإعلام عن إعادة الجائزة بآلية جديدة؛ فلعل أحلامنا في تحقيق أهدافها تتحقق.

إن الأمة التي تطمح إلى إقامة حضارة وتشييد معمار مدني متفوق لا يمكنها أن تتحقق لها هذه الغايات السامية برص غابات الإسمنت العالية فحسب، ولا استنساخ المنشآت بعقولها المصنعة فحسب، بل بمن يفكر ويتأمل ويستشرف الرؤى المستقبلية ويبدع ويغني ويثري جفاف الحياة وصلابة الواقع وقساوة الصراع الحياتي البشري بما هو طيب وإنساني وجميل وسام ومترع بالمعاني الشفيفة والقيم الفنية الرفيعة.

****

هوامش وإشارات:

(1) صدرت (أم القرى) في 15-5- 1343هـ. انظر: مقالة عونك اللهم.

(2) صدرت (صوت الحجاز) في 27-11- 1350هـ. انظر: مقالة افتتاح الصحيفة.

(3) انظر سيرته الذاتية من حياتي، ص 459.

(4) المرجع السابق.

(5) ومن هؤلاء: عبدالمحسن اللعبون، وصالح السنيدي، وعيسى الشريوفي، وعثمان العبدالجبار، وزيد الخرعان، وظافر العمري، وعبدالله الجارالله، ومحمد الشراري، وغيرهم.

(6) رسالة ماجستير - جامعة المنيا، 1989م. وانظر أيضا: القصة القصيرة وصورة الرجل عند الكاتبات المصريات (1934-1987م ) رسالة دكتوراه - جامعة المنيا، إشراف الدكتور عبدالحميد إبراهيم، 1412هـ-1991م.

(7) دار المعارف - مصر، ط2، 1980م.

(8) من الأساتذة الذين عرض لهم المقال: د. محمد الشامخ، د. بكري شيخ أمين، د. عبدالله الحامد، د. إبراهيم الفوزان. انظر للكاتب كتاب: (كلمات )، ط1، الرياض: مطابع الشرق الأوسط، 1424هـ، ص 215.

(9) كان موضوع هذه الحلقة كتاب (عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان).

(10) انظر للكاتب كتاب (مواجهات)، ط1، بيروت: دار ابن حزم، 1427هـ، ص 366.

(11) انظر له كتباً عديدة في هذا الشأن، منها: الأدب الإسلامي بين الواقع والتنظير، والأدب الإسلامي عبر العصور، وقضايا في الأدب الإسلامي.

(12) انظر مقالة: قصة امرأة تعبر تفكيري عجزت أن تعبر حدود القصة!، جريدة الجزيرة، عدد 2941، 15-10-1400هـ، ص 3 (الملحق الأدبي)، والمجموعة من إصدارات نادي الرياض الأدبي، سلسلة كتاب الشهر، رقم 7.

(13) انظر مجلة: اليمامة، العدد 1110، 27 ذو القعدة 1410هـ، ص 57،58.

(14) انظر ديوانه: النغم الذي أحببته (وهو ديوان مفقود).

(15)انظر كتابه: هكذا علمني وردزورث، ط1، مطبوعات تهامة، 1404هـ.

(16) انظر كتابي (كلمات)، تكريم الرواد، ص 68-80، ومقالة: جائزة الدولة التقديرية الأولى، ص 238.

(17) فاز بالجائزة في دورتها الأولى عام 1403هـ ثلاثة، وهم: حمد الجاسر، وأحمد السباعي، وعبدالله بن خميس؛ وفاز بها في دورتها الثانية عام 1404هـ ثلاثة، وهم: عبدالله الفيصل، وأحمد عبدالغفور عطار، وطاهر زمخشري.

owein-2007@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة