Culture Magazine Monday  23/07/2007 G Issue 208
الملف
الأثنين 9 ,رجب 1428   العدد  208
 
قراءة في معالم الخطاب النقدي للدكتور محمد بن سعد بن حسين:
(الأدب الحديث في نجد) نموذجاً
د. صابر عبد الدايم

 

 

مدخل

تتعدد مناهج النقد الحديث، وتتعـدد تياراته، مثلما تعددت مدارس الأدب ومذاهبه، ومناهج البحث الأدبي هي: الطرق التي يدرس بها الأدب أو الأديب بحيث تستظهر خصائصه، وما يتصل بنتاجه من بواعث ومظاهر وجوانب مختلفة تكشف عن حقيقة الشيء الذي يبحث فيه كشفا واعيا.

- ومناهج البحث.. ومذاهب النقد لم تعد محصورة في الاتجاهات والمناهج المألوفة.. المتمثلة في المنهج التاريخي، والفني، والنفسي، والاجتماعي، والمنهج المتكامل كما عبر عنه (ستانلي هايمن) في كتابه (النقد الأدبي ومدارسه الحديثة).

وقفزت إلى الساحة عدة مناهج تمثل اتجاهات النقاد في تحليل الأعمال الأدبية ومنها: النقد التكويني، والنقد الموضوعاتي، والنقد التحليلي النفسي، ونقد النص. (1)

- ويقدم (ستانلي هايمن) في كتابه النقد الأدبي ومدارسه الحديثة عدة اتجاهات للنقد الأدبي تمثل في رأيه مدارس، ولا يلغي بعضها البعض الآخر، ومنها: النقد الاتباعي، والنقد المعتمد على السيرة، والنقد القائم على الموروث الشـعبي، والنقد النوعي، والنقد بالتفسير، والنقد المتصل بالعمل الرمزي، (والمذهب النقدي المتكامل).

- وتوالت موجات النقد الحداثي من البنيوية إلى التفكيك، ولها روادها.. في العالم الغربي ولها أنصارها في العالم العربي، ولها أيضا خصومها الذين قوموها، ويعبر د.عبد العزيز حمودة عن موقفه من أصحاب هذا المنهج حين يقول: إنهم أحالوا النص المنقود إلى غابة متشابكة من البيانات والجداول الإحصائية، والرسومات المعقدة من الدوائر والمثلثات والخطوط المتوازية والمتقاطعة والساقطة. ويقول (ليتش) في دراسته عن التفكيك: إن التفكيكية المعاصرة باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل تخرب كل شيء في التقاليد تقريبا، وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلامة، واللغة، والسياق، والمؤلف، والقارئ، ودور التاريخ، وعملية التفسير، والأشكال الكتابية، النقدية، ومن قبل التفكيكية فشلت البنيوية، وقد أقر بذلك بعض نقاد الغرب وعدد من المفكرين الفرنسيين. (2)

و د.محمد بن سعد بن حسين.. لم يحدد المنهج الذي اتبعه في رصده لمعالم الأدب الحديث في نجد، وذلك لأنه تعامل مع عدة أجيال تباينت توجهاتها، وتعددت مشاربها، فمنهم (التقليديون)، ومنهم (الإحيائيون) الذين يستشرفون معالم التجديد في حذر، ومنهم الرومانسيون المتفتحون على آفاق التجديد، ومنهم كذلك (الخطباء) وكتاب المقالة، وكتاب القصة.

وقد تعامل ابن حسين مع نصوص المبدعين تعاملا فنيا نابعا من المنهج الذوقي التأثري.. وهو في كل محاضرات الكتاب وفي جميع القضايا مزج بين المنهجين: التاريخي والفني.. وهذا النهج لم يتعمده الناقد، ولم يحدد معالمه في مقدمة الكتاب ـ ولكنه قال: هذه مجموعة محاضرات ألقيتها في مواسم مختلفة، وفي سنوات متعددة يجمعها موضوع واحد هو: (الأدب الحديث في نجد) أقدمها لك أيها القارئ كما هي دون تبديل أو تعديل، وإن كانت النفس تنازع إلى إضافة أشياء وأشياء.

وهذه أهم القضايا الأدبية والنقدية التي أثارها ابن حسين:

1- قضية إهمال الرواة والعلماء لأدب نجد منذ بداية القرن الثالث للهجرة حتى قيام الدعوة الإصلاحية في القرن الثاني عشر الهجري، وظاهرة ضياع المخطوطات والمكتبات التي توضح بجلاء معالم هذه الحقبة، وهذه القضية يجب أن يتنبه لها الباحثون، وأن يجدّوا في البحث عن معالم هذه الفترة الضائعة؛ لأنها امتدت حوالي (ثمانية قرون تقريبا) ويصور ذلك (ابن حسين) ويشاركه كثير من الكتاب والمفكرين هذا الرأي، حيث يقول: (هناك فترة من تاريخ نجد - ليست بالقصيرة - أحاطها الغموض، واكتنفها الظلام من كل جانب، حتى بدا منبت الفصحى، وكأنه من المجاهل التي لم يعمرها الإنسان. وهذه الفترة هي الواقعة ما بين العصر الأول من الحكم العباسي، وقيام المصلح الكبير الإمام محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني عشر. ويرى ابن حسين أن التسليم بهذه الحقيقة أمر مرفوض، وواقع لا يجب الإقرار به، ويستدل على هذا بأن الشعراء في كل العصور أشادوا بنجد ومعالمها، وقد جمع بعض الباحثين ما قيل عن نجد من قبل الشعراء في كل مراحل التاريخ العربي. وينبه المؤلف كذلك إلى أن طلاب ورواد المعرفة كانوا يؤمون تلك البقعة من نجد ليحصلوا منها على الكتب والمخطوطات النفيسة؛ ويؤيد موقفه هذا حينما يذكر أن المستشرق (عبد الله فلبي) في كتابه (تاريخ نجد) أشار إلى هذه القضية حينما قال: (ومن الغريب أن لدينا عن سدير تفاصيل تاريخية واسعة لأن معظم المؤرخين والفقهاء في تاريخ السعودية كانوا من سدير نفسها، أو من البلاد المجاورة لها). ويتساءل ابن حسين في دهشة مستنكرا، ومستثيرا همة الباحثين والآثاريين (فأين هي تلك المخطوطات الضخمة الكمية التي ذكرها فلْبي، إن لم تكن يد السرقة والإهمال قد عبثت بها، ثم يقـدم المؤلف هذه النتيجة التي تلقي على كاهل الباحثين عبء المسؤولية، وضرورة الجد في البحث والتنقيب عن آثار هذه الحقبة المجهولة، حيث يؤكد المؤلف أن نجداً لم تكن مقفرة من الأدب، خالية من الشعر في تلك الفترة التي أهملها فيها التاريخ، لكن رواة الخبر ومسجِّلي الأثر هم الذين أغفلوا ذكر نجد، حتى بدت وكأنها من مجاهل إفريقية التي لم يكن لها في التاريخ نصيب. (الأدب الحديث في نجد، ص 20).

2- إهمال العلماء للشعراء، والعداوة بينهم أحيانا:

وهذه القضية عرض ابن حسين أسبابها.. وحلل بواعثها.. ولكن العداوة لم تدم؛ لأن الشعراء اضطروا بعد ذلك لنظم الشعر في الرد على خصوم الدعوة الإصلاحية، وبعضهم أجاد، وبعضهم أخفق.. ولم ينظم إلا معلومات ومعارف لا صلة لها بالشعر. وبالكشف عن بواعث هذه الخصومة بين العلماء والشعراء.. يرى المؤلف أن تعريض القرآن بالشعر، وبعض الأحاديث الواردة في ذم الشعر أدت إلى هذا الموقف الرافض لفن الشعر؛ وأرى أن الأمر ليس بهذه السهولة. فللعلماء الثقات آراؤهم حول الشعر المقبول والشعر المرفوض، وقد جمع القرطبي في تفسيره أقوال المفسرين الأوائل واللغويين في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } وقالوا: (وإنما الذي نفاه الله عن نبيه عليه السلام فهو العلم بالشعر وأصنافه وأعاريضه، وقوافيه والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفا بذلك بالاتفا). ومن الذين استشهد بهم القرطبي الشيخ أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتابه (الزينة)، وأبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في كتابه (الصاحبي: في فقه اللغة)، والسيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) شارك في هذه القضية وقدّم رأيا فنيا صائبا، والقاضي: أبو بكر الباقلاني فصّل القول في هذه القضية، ونصّب نفسه للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقدم ابن حسين مخرجا لموقف العلماء من الشعراء.. وهو مخرج مقنع وغير مبالغ فيه: فيقول: (إن كثيرا ممن طرقوا سبيل الشعر، وامتهنوا القول فيه كانوا من المتطرفين المتساهلين في جانب الخلق والدين كأبي نواس وبشار بن برد، وحماد عجرد وأترابهم). (3)

ومما يؤكد إهمال العلماء للشعراء عنايتهم بالخطابة والكتابة في الطور الأول من أطوار الدعوة الإصلاحية..، وهذه العناية كانت بعد عصور من الجدْب والجفاف في ميدان الخطابة والكتابة..، ونَجْد - كما يقول ابن حسين - التي رزئت في شعرها وفصاحة لسانها، رزئت كذلك في خطابتها.. لكن متى؟ وكيف كان ذلك؟.. لا أحد يعلم. فنجْد في فصول تاريخ عصور الإسلام الوسطى كبلاد الأساطير.. ماضٍ عامر، وحاضر مجهول، غير أنه لا بد من أن تكون قد أصاب خطابتها، ما أصاب خطابة أقاليم العربية الأخرى، من إجداب في المعنى وإمحال، مع تكلف وتصنع في المقال، وركون إلى المدونات بعد العجز من البديهة والارتجال. (الأدب الحديث في نجد، ص 193- 194).

3-معالم النهضة الأدبية في نجد والتأثر بالاتجاهات الجديدة:

وهذه المعالم يتصدرها تأثر الشعراء في نجد وفي المملكة بصفة عامة بالمدارس والمذاهب الأدبية الجديدة في الثلث الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، وهذه المدارس هي: الديوان، والمهجر، وأبوللو، والاتجاه الرومانسي عند خليل مطران. ويسوق الناقد ابن حسين عدة أحكام (استطرادية) لا يؤيدها الواقع.. في موقفه من بعض الاتجاهات أو المدارس، ومنها مدرسة الديوان.. فيقول منتصرا للاتجاه المحافظ عند شوقي ونظرائه، حيث يقول عن مصير مدرسة الديوان:

غير أن تلك المدرسة لم تعمِّر طويلا، فقد خربت بأيدي أهلها، وعاد بعضها يأكل بعضا، بعد أن أجهدت نفسها في النيل من عمالقة المدرسة التقليدية فعجزت عن تحقيق النصر؛ لأن هدف الحملة كان مشبوها، وذلك أمر غير معروف!

ولا أدري سرَّ الحملة التي قادها العقاد وزملاؤه ضد شوقي وأنصاره، وهي تكمن في الاختلاف الثقافي والفني، وفي إدراك وظيفة الشعر ودوره بين الفريقين، وكلا الفريقين على صواب..؛ لأن النتاج الشعري يصور رؤية الشاعر وموقفه من الحياة.

ويرسي (ابن حسين) قاعدة تمثل منهجه ورؤيته لتطور الظواهر الأدبية، ومازال يتبنى هذا الموقف وهو أن التقليد هو الطريق إلى التجديد في كافة مجالات الحياة لدى كل أمة من الأمم، ويدلل الناقد على رأيه بما يؤكد أنه يتبنى المنهج التاريخي، مع الإشارة إلى التاريخ الطبيعي الذي يربط بعض ظواهر تطور الفنون الأدبية بمثل تطور الكائنات النباتية والكائنات الحية عموما حيث يقول: يشبه العلماء العلوم والفنون بالكائنات الحية، في كونها تبدأ حياتها ضعيفة هزيلة، ثم تأخذ في صعودها سلّم التدرج الطوري حتى تبلغ الذروة بعد أن تتم فيها الضروريات، وتأخذ بنصيبها من الاكتمال، عندئذ يجد البحث فيها عن التجديد، حتى إذا ما استنزفت أدوات الترف والكماليات في حياتها صارت إلى المخالفات لكل ما هو مألوف. وإنما يكون ذلك على يد هواة التجديد والشهرة.. ممن ليسوا من أهل ذلك، ويقدم ابن حسين تحليلا فنيا ورصداً نقديا لعدة شعراء مجددين ومنهم سعد البواردي، وحمد الحجي، والأمير عبد الله الفيصل. ومن الشعراء المحافظين التقليديين الذين أشاد بهم: حمد الجاسر، وخالد الفرج، وعبد الله بن خميس، وعبد الكريم الجهيمان، ومحمد المسيطير. ويرصد المؤلف الرؤى الموضوعية التي أنتجتها قرائح الشعراء في هذه الحقبة المائجة بالأحداث ومن هذه الرؤى المواكبة لإيقاع العصر.. وأحداثه:

1- الحنين إلى الوطن: ولا يكتفي الناقد بتجارب الشعراء الجدد، ولكنه يستطرد ويورد أشعارا من الشعر القديم، في الحنين إلى نجد، وكذلك من الشعر المعاصر آنئذٍ.

2- الشعر الوجداني: ويورد نماذج شعرية مع التعليقات الفنية الراصدة لأسرار التجارب في هذا المضمار، واحتفى بتجربة الأمير الشاعر عبد الله الفيصل، وناقش كثيرا من القضايا في هذا السياق.

3- القضايا الوطنية: ويفسر المؤلف ظاهرة خلو تجارب الشعراء من الشعر السياسي، ويعلل ذلك تعليلا صحيحا حيث يشير إلى سلامة البلاد وطهارتها من رجس الاستعمار الأجنبي، إذ لم يكن للأمم الاستعمارية فيه أدنى نفوذ.

4- القضايا العربية:

وشارك الشعراء في قضية فلسطين، وثورة الجزائر، والاعتداء الثلاثي على مصر، وقضية عمان، وقضية السلام... إلخ.

4- قضية الشعر الحر، والشعر المنثور.. وموقف ابن حسين من هذين اللونين:

إن هـذه القضية كثر حولها الجدل.. ومازال الجدل قائما حتى الآن، ومن كبار النقاد الذين يرفضون هذين اللونين: زكي نجيب محمود، والطاهر مكي، وأحمد هيكل، ومحمد زغلول سلام، ويوسف خليف؛ ومن أقطاب الشعر المقفى أو شعر الشطرين (عمر أبو ريشة)، و(محمد مهدي الجواهري)، وصالح جودت، ومحمد التهامي، وعبد الله شمس الدين.

ويرى زكي نجيب محمود أن ما يسمى بالشعر الجديد هو محاولة أن تكون هذه التجربة شعرا لكنها لم تبلغ أن تحقق لنفسها ما أرادت، والفرق عندئذ لا يكون فرقا بين شعر قديم وشعر جديد بل يصبح الفرق فرقا بين الشعر وما ليس بشعر على الإطلاق.

وبعض النقاد يرفض مصطلح قصيدة (النثر) وهم كثيرون، ولكنهم يؤيدون كل أشكال الشعر الحر.. وفي مقدمة هؤلاء: نازك الملائكة، ود.محمد النويهي، ود.علي عشري زايد، ود. إحسان عباس، ود.حسن ظاظا، ود.محمد مندور.

ود. محمد بن حسين يعارض الشكلين (الحر) أو شعر التفعيلة، والشعر المنثور أو قصيدة النثر، وله أدلته التي تؤيد موقفه، وهو ليس الرافض الوحيد.. لكنه ينضم إلى أسماء عديدة وكبيرة لها حضورها وتأثيرها في الساحة النقدية والأدبية، ولا يكتفي ابن حسين بالرفض.. بل يطلق صيحته الجريئة والصادمة ويجعلها عنوانا موضوعا أعلى الصفحة في صفحتين من الكتاب ص 270 و271 ويقول: الشعر الحر ليس شعراً عربيا، ويردف هذه العبارة بعبارة تالية وهي الأسباب الفنية لهذا الحكم، ثم يقول: (إنه لا يجوز لنا أن نعتبر ما يسمى بـ (الحر والمنثور) شعرا عربيا لأسباب عديدة من أهمها: فقدان الخصائص الذاتية الآتية:

1- الموسيقى الخارجية

2- الموسيقى الداخلية

3- الاستقلال الكياني

وحين ننظر فيما يسمى (بالشعر الحر والمنثور) لا نجد فيه من ذلك شيئا، اللهم إلا ظلالا من الموسيقى الداخلية توجد في بعض مقطوعاته. ويتهم كذلك الشعراء الذين ينظمون في قالب الشعر الحر بالتكلف واللف والدوران والتكرار، لمحاولة إبراز المقصود؛ وكأنما الشاعر وهو يكتب قصيدته يعاني عملية ولادة مستعصية.

أما الموسيقى الخارجية والتميز والاستقلال الكياني: فيقرر ابن حسين أنه لا نصيب لهذا الدعي فيهما، وهو يقصد بالدعي هذا اللون من الشعر أو الشاعر الذي أنتج هذا اللون الدعي، ويبالغ في الحكم ويرى أن الهدف هو العمل على هدم هذه القيمة الفنية بدافع من عوامل عديدة، بعضها من ذات الشاعر المغمورة بمركب النقص، وأخرى هدامة مخربة وجهته شعر أو لم يشعر إلى مصير سحيق. وهذه الرؤية الرافضة لشعر التفعيلة تحتاج إلى مناقشة وتحليل، ولكن لكل وجهته ورؤيته شريطة أن لا يرفض الآخر.. وإنما يظل الخلاف حول الشكل والقالب الشعري.

وأقدم رأي محمد مندور: وهو من أعلام النقاد في العصر الحديث، في سياق الرد على زكي نجيب محمود.. وعلى كل من يرفض هذا الشكل الشعري الذي فرض وجوده على الساحة الأدبية، وتشعبت طرائقه، وتعددت أشكاله.. وتجاربه: يقول محمد مندور: أبدأ فأؤكد للدكتور زكي.. بأن ما نسميه شعرا جديدا اليوم يكاد يكون الخلاف بينه وبين الشعر التقليدي الذي لا يزال يصدر عن الذاكرة أو من التوليدات الجافة العقلية، ويكاد يكون الاختلاف بينهما اختلافا في الطبيعة لا في نسبة الشاعرية وحدها، وهو اختلاف لا يقتصر على الشكل الموسيقي للبيت والقصيدة، بل يمتد أيضا إلى المضمون الشعري في شكل البيت وشكل القصيدة إنما ينبع من تغير الذوق الجمالي وحده، بل ومن تغير المضمون الشعري وطرائق التعبير والتصوير أيضا. (4)

وقد آثرت أن أقدم نص محمد مندور، في هذا السياق لأنه قيل مبكرا.. وكانت حركة الشعر الحر ما زالت في بدايتها..، وكذلك قال محمد بن سعد بن حسين.. رأيه في زمن قريب في عقد الستينيات من القرن العشرين، وبعض النقاد يغير من آرائه أو يعدل بعد ذلك، ويلاحظ أن ابن حسين.. قدم رأيه في سياق تقويمه لشعر الشاعر السعودي سعد البواردي، والشاعر التونسي الهمامي، وأراد أن يدلل على رفضه لهذا اللون التفعيلي، فأتى بنموذج من نثر الأستاذ محمد فريد وجدي، ونموذج من شعر الطاهر الهمامي، ونص (الهمامي) من الشعر المنثور وليس من شعر التفعيلة، وقد فضل الناقد نثر محمد فريد وجدي على النص الشعري التونسي. وقد تعاطف الناقد مع تجربة (سعد البواردي).. ولم يرفضها ولم يكل له الاتهامات، ولكنه قرر بأن قوالب أعماله الشعرية جلها من الشعر العمودي، وينعته بأنه من الرواد الأوائل الذين تركوا بمجهوداتهم العلمية والأدبية أثرا بالغا في صحافتنا، ثم يقول: فكل مأخذ عليهم مغتفر في جنب ذلك السبق. ومما يدل على أن هجوم ابن حسين على قالب الشعر الحر بدأت تقل حدته، أنه قدم نموذجا شعريا للشاعر سعد البواردي.. ووصفها بأنها مما يسمونه (الشعر الحر) وقال: (والحق أنه من أجود ما كتب في مثل هذا: قصيدة بعنوان (ابتهال)

يقول الشاعر سعد البواردي:

رباه...

كم يتعاظمون على مشيئتك الكبيرة

فيسرقون.. ويهدمون..

.. ويبطشون.. بدون خشية

ويقوضون بنغمة الأحقاد آمالا فتيّة... إلخ القصيدة

5-أثار ابن حسين قضية الشعر الفصيح، والشعر (النبطي) الشعبي، ونوّه في إعجاب بخصائص الشعر العامي عند (ابن بليهد) وأقر بفنية هذا اللون وتأثيره في أذواق الناس، وهو في الوقت نفسه يرفض (الشعر الحر) والشعر المنثور وهما فصيحان!!

ويقول في هذا السياق: غير أن هناك مسألة تجدر الإشارة إليها، وهي أن الناظر في شعر الشيخ (ابن بليهد) يتبين أن شعره العامي في مجاله أقوى من شعره الفصيح في مجاله. ص 59، 60

ويؤيد الناقد المؤرخ (ابن حسين) موقف (ابن بليهد) حين يتهم رجال الأدب بالخروج على المعايير الصحيحة في تقييم الأدب؛ لأنهم وصموا الشعر الشعبي بالسطحية والضحولة والجفاف، وهذا الموقف يؤكد تعاطف (ابن حسين) مع الشعر الشعبي وقائليه؛ لأنه يصور البيئة، ويرصد أحوال الناس، ويجسد عواطفهم، وينحت خيالاته من الطبيعة التي تشاركهم حياتهم.

6- ومن معالم الخطاب النقدي والأدبي لدى ابن حسين الموازنات النقدية والأدبية:

وهذه الموازنات عقدها بين اتجاهات بعض الشعراء السعوديين وتجارب بعض الشعراء العرب المتأثرين بالمذاهب الأدبية الحديثة، مثل الموازنة بين حمد الحجي والشاعر المهجري إيليا أبي ماضي، والموازنة بين الحجي وأبي القاسم الشابي، ورصد أوجه التلاقي بين الحجي وأبي العلاء المعري. وإذا كانت هذه الموازنات قائمة على رصد أوجه التشابه بين (الحجي) وهؤلاء الشعراء فإن المؤلف بالغ في تقديره لشاعرية الحجي في بعض المواقف وفضله على جميع شعراء العربية ما عدا طرفة بن العبد، ولكنه لم يدلل على المشابهات والخيوط الفنية بين الحجي وطرفة، مثلما دلل على ذلك حين عقد الموازنات بينه وبين الشعراء الآخرين، ولكنه لا يجزم بأن الشاعر قرأ شعر إيليا أبي ماضي أو شعر الشابي، ومع ذلك يسوق وجهين من أوجه التلاقي بين أبي ماضي والحجي.. وهما:

1- الأصالة والعمق في اللغة والتعبير والفكرة والأسلوب.

2- الانسياق وراء الأفكار التأملية إلى ما وراء المألوف.

ويعقد ابن حسين الموازنة الكاملة بين الحجي والشابي حيث يقدم أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف، وهي موازنة فنية جيدة ويجدر بها أن تفرد بدراسة نقدية مستقلة من أحد الباحثين الجدد. فأما أوجه الاتفاق.. فهي كما أوردها (ابن حسين) ولكنه لم يقدم الشواهد التطبيقية عليها:

1- صفاء الديباجة، وتأجج العاطفة، وصدق التعبير.

2- النظرة المتشائمة.. المتبرمة بالناس.

3- الطموح ونشدانه ما هو أفضل وأكمل.

4- تلاحم الصور والمعاني، وأخذ بعضها بحجز بعض. 5- السن والشاعرية المبكرة.

وأما أوجه الاختلاف فهي متعددة تشمل النشأة وظروف الحياة والبيئة والصحة والحالة الاجتماعية والنفسية.

7- رصد ملامح تطور الخطابة والكتابة في العصر الحديث في نجد، والموازنة بين خـطب الإمام محمد بن عبد الوهاب وغيره من خطباء الجيل السابق. والموازنة هنا أكثر إقناعا من الموازنة بين الشعراء في القضية السابقة، حيث يقدم الناقد نصين: أحدهما يمثل الوجه التقليدي للخطابة بكل مظاهر الضعف والتكلف، والآخر يمثل الوجه المتطور والمتجدد للخطابة، ورصد ابن حسين سمات التميز وأطلق على هذا الصنيع (الطريقة المدرسية) ومن أهم هذه السمات التي توشحت بها خطابة الإمام محمد بن عبد الوهاب وضوح القصد، قصر الخطبة، قصر الفِقَر، السجع غير المتكلف، وحدة الموضوع غالبا.. إلخ.

ويضع (الناقد) احتراسا.. وقيدا لهذا التميز.. فهو ليس على الإطلاق أسلوبا وفكراً وصوراً وتأثيراً فيقول: وهي في نظري الخطابة المطابقة لمقتضى الحال إذا ما أخذنا في اعتبارنا نوع ثقافة المجتمع الذي قيلت فيه، والبيئة الخاصة التي تحيط بالمجتمع (ص 197 الأدب الحديث في نجد).

8- ومن القضايا التي أثارها ابن حسين.. والتي تعد معلما من معالم خطابه النقدي.. ويثيرها دائما في مجالسه الأدبية، ومناقشاته للرسائل العلمية، وأحاديثه الإذاعية.. وهي تتمثل في رصد ملامح الـضعف الأسلوبي، والتكلف في الكتابة العلمية لبعض العلماء والكتاب، وينبه الناقد إلى ظاهرة أسلوبية توحي برحابة صدره، والبعد عن التشدد في تمسكه بقواعد الفصحى وذلك في ضوء القاعدة البلاغية (مراعاة مقتضى الحال) وقاعدة (لكل مقام مقال). فيقول: (وقد يعمد بعض العلماء، إلى ركوب العامية، في محاولة إيصال الغرض المقصود إلى ذهن المخاطب العامي) وهذه رؤية عصرية لدور اللغة في إقناع الجماهير ورفع مستواهم وعدم تنفيرهم من اللغة، والحرص على تقديم الخطاب الأدبي والديني والتربوي سهلا يسيرا في أسلوب مشوق مرغِّب.

9- قضية الضعف اللغوي.. وهي من القضايا التي أثارها (ابن حسين) في سياق رصده لفن الكتابة في نجد، وبحثه عن الأسباب التي أدت إلى هبوط مستوى كتاب نجد.. وعدم تطورهم الفني. ويرى الناقد أن بعض المؤسسات التي من شأنها أن تكون وسائل قوة وتجديد وتطوير غدت وأصبحت من أسباب ضعف الكتابة وهبوط مستوى الكتاب في نجد، وهي مصدر ذلك الداء: وهي تتمثل في المدرسة، الصحافة، المكتبات التجارية (حوانيت الكتب)، والإذاعة والتليفزيون..؛لأن هذه المؤسسات لم تقم بدورها المنشود والمنوط بها، وهناك عاملان آخران وهما: غلاء الكتاب العربي، وعدم اشتداد المعارك والخصومات الأدبية التي كانت تنشأ بين كبار الأدباء من أمثال الرافعي والعقاد وطه حسين.

وهذه الرؤية ارتآها الناقد منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما، وربما تغيرت الظروف الاجتماعية، والفكرية والثقافية، ولهذا التغير أثره في تنشيط الحركة الأدبية والثقافية مع التوسع في إنشاء الجامعات والمعاهد العلمية المتخصصة، وكثرة الصحف والمجلات الثقافية...، كل هذه الظواهر يمكـن أن تمثل مخرجا من الأزمة الفكرية العنيفة التي أشار إليها (ابن حسين) في سياق تحليله لظاهرة الضعف الفني واللغوي، والبحث عن العوامل التي تساعد على الخروج من دائرة التقليد والمحاكاة والضعف.

10- نقد النصوص والموازنة بينها، وتحليلها في ضوء المنهجين التاريخ والفني.. تحليلا ينبئ عن ذائقة أدبية نقدية متطورة تنبع من التراث، وتواكب المعاصرة، وتنزع إلى التجديد في حذر، وقد عُني ابن حسين بشعر الحـجي عناية خاصة.. وتناول بعض قصائده بالتحليل الموضوعي والفني، ولكن العناية بالمضمون كانت أوفى من العناية بالتشكيل الفني بكل جوانبه، ومع ذلك نراه يقوم في بداية هذا التحليل النصي تقويما فنيا مجملا للقصيدة ولكل نتاج الشاعر فيقول: والجميل أنك تقرؤها حتى آخرها فلا تحس بها كلمة قلقة، أو قافية مضطربة، فكل كلمة - قافية كانت أو غير قافية - قد استقرت في مكانها هادئة مطمئنة، شأنها في ذلك شأن جميع شعره، قصاره وطواله في ذلك سواء. ص 150 الأدب الحديث في نجد.

11- رصد معالم أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في فنون الأدب الحديث في نجد، وفي مناطق المملكة الأخرى، وتقويم إيجابيات هذا الأثر وسلبياته في ضوء الشواهد الدالة على ذلك. ويؤكد ابن حسين في خطابه الأدبي والنقدي أن أدب الجزيرة له طابع خاص ينبع من تأثير الدعوة الوهابية على الرغم من تأثره بالمذاهب الأدبية الجديدة.. ويصور ذلك قائلا: (إن الدعوة سيطرت سيطرة كاملة على موضوعات الأدب منذ نشوئها إلى بعيد منتصف هذا القرن تقريبا، حيث بدأ التجديد في الموضوعات الأدبية). والتأثر بالمدارس الجديدة - كما يقول المؤلف - كان في الموضوع والأسلوب دون الألفاظ وبعض الفكر الممقوتة، وذلك جانب من جوانب أثر الدعوة في أدبنا في المملكة العربية السعودية، وهذا الأثر الذي أحدثته الدعوة في الأدب - كما يقول المؤلف - أثار كوامـن المشاعر، ونبه غوافل الخواطر، وأنطق الشعراء بالشعر الشاعر، والبيان الساحر، وفتح لهم آفاقاً يسبح فيها الخيال، ويتسع المقال، وأبدى لهم من الروائع.. ما وصلوا به قديم الشعر بحديثه، وطريفه بتليده، إلى ما فتحوا به في الشعر من ميادين، ساووا فيها السابقين، وبزوا فيها الناهضين. (ص 237 الأدب الحديث في نجد).

ومن الشعراء الذين اندمجوا في الدعوة، وأشادوا بتعاليمها الشاعر (أحمد بن مشرف) وشعره في بعض التجارب كان نظما لتعاليم الدعوة، وهو أشبه بالمنظومات التعليمية، ومن هذه التجارب قصيدته (الشهب المرمية على المعطلة والجهمية) ومن الشعراء الذين شاركوا بشعرهم في مسيرة الدعوة (عبد العزيز بن طوق) و(علي بن حسن العـسيري) و(أحمد إبراهيـم الغزاوي) وهو شاعر حجازي وعبد الله عمر بلخير. ولم يكتف ابن حسين بإظهار أثر الدعوة في الشعر، ولكنه قدم عدة مقالات يتوج مضامينها بأنفاس الدعوة الإصلاحية التي تتجه إلى إصلاح الواقع الإسلامي في جميع أنحاء العالم.

ولا أدري لماذا أقحم المؤلف عدة قصائد بين المقالات؛ ولعله أراد أن يمزج الفنون الأدبية، ويوحد فيما بينها في سياق إظهار أثر الدعوة في الأدب الحديث. وأضـاف الناقد مظهراً جديداً من مظاهر تأثير الدعوة في الأدب وهو: إثراء المكتبة الأدبية بما دفعته أقلام كل من المـؤيدين لها والنافحين عنها، والمعاندين والمعارضين لهـا؛ واندلعـت حـرب كلامية صال فيها وجال كل من الفريقين - ما بين ناثر وناظم - استخدما ما أوتياه من فصاحة لسان وقوة بيان لتجلية ما لكل منهما من حجة وبرهان. وخير شاهد ختم به ابن حسين: قصيدة جيدة السبك، سامقة المعنى، فخمة اللفظ، مشرقة الديباجة وهي قصيدة (شموس من التحقيق) للشاعر محمد بن عثيمين ومطلعها:

شموس من التحقيق في طالع السعد

تجلت فأجلت ظلمة الهزل والجد

وبعد، فهذه قراءة أولى لمعالم الخطاب النقدي الذي قدمه محمد بن سعد بن حسين، وهي ليست قراءة شاملة لكل ما قدمه الرجل، ولكنها محاولـة لاستكشـاف الخطـوات الأولى للجهـد الذي قدمه هذا العالم الأديب، والشـاعـر الناقـد الـذي تعامـل مع المنتج الأدبي تعامـلاً مباشـراً ذوقيـا تأثـريا، ولم يعتمد على النقول الكثيرة، وقدم رصدا وجهدا طيبا في تجلية بواكير النهضة الأدبية في منطقة نجد مهاد الفصحى، ومنبع الإبداع العربي الأصيل.

الهوامش والإضاءات

(1) انظر: المناهج النقدية المتعددة في كتاب (مدخل إلى مناهج النقد الأدبي: لمجموعة من المؤلفين) ترجمة د. رضوان ظاظا

- عالم المعرفة بالكويت عدد 221. وانظر: مجلة فصول (عدد خاص عن: اتجاهات النقد العربي الحديث).

(2) يرجع في هذه القضية إلى (المـرايـا المحـدبة: د.عبد العزيز حمودة - الفصل الرابع). التفكيك والرقص على الأجناب.

(3) انظر: تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن). و انظر دراسات في أدب الدعوة الإسلامية د. محمود زيني- مكتبة الخانجي القاهرة.

(4) انظر: مجلة (المجلة) بالقاهرة عدد نوفمبر 1961 م، وكتاب (ثقافتنا بين الأصالة والمعاصرة - جلال العشري، وكتاب محمود حسن إسماعيل بين الأصالة والمعاصرة: لكاتب البحث ص 283- 287 دار المعارف بالقاهرة 1984م.

+ أستاذ الأدب والنقد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة