Culture Magazine Monday  23/07/2007 G Issue 208
فضاءات
الأثنين 9 ,رجب 1428   العدد  208
 

مساقات
لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ!
د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

 

تطرقنا في المساق الماضي إلى ما تبنته هيئة أبي ظبي للثقافة والتراث من مهرجان باسم (أمير الشعراء)، للشعر الفصيح - (التقليدي) حسبما تسمّيه - تأكيداً لدور الهيئة - كما قالت - في تعزيز الثقافة العربية والارتقاء بها إبداعاً إنسانيًّا وأصالة ممتدّة. وإذا كنتُ قد كتبتُ مقالاً لصحيفة (الاقتصادية)، في 14-1- 1428هـ، وأعيد في 21- 1- 1428هـ، حول الاحتفاء بالعاميّة، المبالغ فيه وغير المسبوق، في الجزيرة والخليج، وعلى أعلى المستويات، وأثار المقال ضجّة واسعة، تدلّ بذاتها على مقدار خطورة ما يحدث، وأنّ (العقلية العاميّة اللغوية) هي (عقلية عاميّة ثقافية) كذلك، بل إن العقلية العاميّة الثقافية هي الأكثر فوضويّة وتشظيًا وتعصّبًا، إلاّ أن هيئة أبي ظبي للثقافة والتراث تتجه اليوم من خلال مهرجان (أمير الشعراء) وجهة صحيحة، تُشكر عليها، وإن كانت تُصرّ على أن تفعل ذلك ونقيضه، من حيث استمرارها في المسابقة الأخرى؛ ما يعني غياب الوعي باستراتيجية ثقافيّة، أو رؤية مستبصرة بآفاق ما وراء الأمر كله، وكأن الأمر محض تجارة إعلامية، تسعى إلى إرضاء جميع الأطراف، واللَّعب بمختلف الخيارات، دونما رسالة أو هدفٍ معلوم.

تأتي مسابقة (أمير الشعراء) إذن بعد مسابقة النَّبَط، باسم (شاعر المليون)، التي ملأت الدنيا عاميّةً، فسهر الخلق جراها واختصموا؛ إذ شغلتهم حميّة جاهليّة بما كان ينبغي أن يُشغلوا عنه، لا به، وأحيتْ بينهم نعرةً ثقافيّة واجتماعيّة، كُنّا نسمع عنها قديمًا، بين مصدّق ومكذّب، حتى قُيّض لنا أن نراها ونقرأها ونعايشها حيّة؛ إذ كانت بمثابة (مسابقة داحس وغبراء) جديدة!

ولقد فتحتْ مسابقة (شاعر المليون) سماء النجومية لشعراء النَّبَط على مصراعيها، على الرغم من أن البقاء - لمن يبحث عن النجوميّة والخلود - سيظلّ للعربيّ لا للنبطيّ، تاريخًا وجغرافيا وحضارة، في مضمار لغته الفصحى فليتسابق المتسابقون، لا في أزقّة البريق السرابيّ، البائد أو العابر، من المحكيّات، التي (ستتأرشف) - في أحسن أحوالها - مستقبلاً، وذلك كحِقَب شتى ابتلعها تاريخ اللغة العربية، منذ زهاء ألفي عام من العاميّات، صارت ونجومها نسيًا منسيًّا.

فهل يرضى هؤلاء أن تظل نجوميّة شعرهم وشاعريّاتهم محض (زِعانِف) شِعْريّة - لُغويّة، (لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ) - حسب قول أبي الطيّب المتنبي:

بأي لفظٍ تقول الشعر زعنفةٌ

تخور عندكَ لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ؟!

ولئن صحّت الرؤيا، فإنه لشيء مُبَشّر أن يشيع مؤخّرًا القول بأوبة كثير من شعراء النَّبَط إلى الشعر بلسان عربي مبين، غير نبطيّ ولا ذي عِوَج! ويُذكر من جملتهم مثلاً: الأمير عبدالرحمن بن مساعد، والشيخ محمّد بن راشد بن مكتوم! وهو اتجاه يعزوه الشاعر فهد عافت إلى أن (العاميّة ضاقت على أفكار شاعر يجيد التقاط الفكرة المذهلة، ويجدد طرق طرحها دائمًا، فاتجه إلى مخزون ثقافي هائل لديه، كان يستفيد منه في قصيدته العامّيّة، بنِسَبٍ متفاوتة، ثم لجأ إليه باعتباره المنبع الأصل، وتظل الأهمية الشعريّة في البلاغة لا النحو، فمن يملك البلاغة قادر على استخدامها). (جريدة (الحياة)، (العدد 16045، السبت 20 صفر 1428هـ، 37). (ولي عودة لاحقة إلى مناقشة رأي عافت هذا).

كما أنني - من خلال متابعتي لبعض القنوات الفضائيّة المعنيّة بالشعر النَّبَطي، كقناة (فواصل) أو (الواحة)، وغيرهما من القنوات التي كُرّست للعاميّة - ألحظ بالفعل تيارًا شعريًّا يتخلّق في رحم العاميّة، وفي شعر الشباب بخاصة، يتمثّل في اتجاه إلى الاقتراب من الفصحى، من خلال مزج العاميّ بالفصيح، أو تفصيح العامي إلى حدّ ما. ربما كان ذلك عن غير وعيٍ من الشعراء بأهمية هذه الخُطوة، وإنما لاستطراف هذا اللون المزيج، أو لإثبات المقدرة الشعريّة والثقافية. غير أنها عمليّة في غاية الأهميّة، ولو استمرّ تصاعدها، فقد تؤدي إلى عودة اللُّحمة اللغوية بين مستويي الفصيح والعامي في النصّ الشعري. وشيئًا فشيئًا لعلها تزول تلك الغُربة الموروثة بين الفصحى والعاميّة؛ ذلكَ أنه ما فَصَلَ بينهما وجدانيًّا وفكريًّا إلا ترسّخ التصوّر القاصر بأنهما جزيرتان متباينتان، وكأنْ قد باتتا لغتين مختلفتين! وهذا غير صحيح، فالعاميّة بنت الفُصحى، ووريثة مادّةٍ مهمّة خصبة غابت عن الفُصحَى الحديثة، التي أسرفت بدورها في تعاليها، حتى جنتْ على نفسها. والتقريب بين العاميّة والفصحى، عبر تعميم الفصيح وتفصيح العامي، عمليّة تخضع لمهارة الشاعر وثقافته؛ لذلك لم يكن مستغربًا أن يقتحم شعراء في العاميّة القصيدة الفصيحة بزخم لافت منذ زمن، ليس أولهم الشاعر عبدالله الفيصل، رحمه الله، ولا آخرهم الشاعر عناد المطيري، على سبيل المثال.

إنها رسالة لغويّة وثقافيّة لا يستشعرها إلا الشاعر الذي يتخطّى بطموحه همومه الذاتية، وأنانية اللحظة، وسراب الصيت الزائل بزوال اللهجة، إلى أفق أَسْمَى يكون للشعر فيه رسالة، وله من قضايا أمّته المحوريّة ميدان، وأول تلك القضايا - ولاسيما لدى الشاعر - قضية اللغة. وعندئذٍ ستشهد الساحة نِقلة نوعيّة - من مجرد الاحتكاك البسيط بالفصحى، ومحاولة الارتفاع عن العاميّة المغرقة في عاميتها إلى الفُصحى العامة - نحو سويّة عربيّة تُعيد الأمور اللغويّة إلى نصابها القويم.

أهو حُلم؟

نعم، لكنّ فَسْرَهُ غير بعيد، فالساحة كفيلة بانفتاحها، وتواصل قنواتها الإعلامية، أن تفرض نتيجة تبعث التفاؤل. وتلك حتميّة طبيعيّة؛ إذ ليس من المعقول أن يظل جيلٌ متعلّم - نشأ في عصر الإعلام، وشبكات الاتصال الحديثة، والمثاقفة - ينسج على (ونّات) جدّه وجدّته، من جيل أميّ بسيط، ويعزف على ربابات عصر منغلق سالف، كانت لُغته جزءًا من طبيعة حياته وظروفه المعرفيّة المدقعة! غير أن الخوف كل الخوف على تحقّق ذلك الحلم يُطلّ من مثبّطات كثيرة، توشك أن تبدو تآمرًا مقصودًا على اللغة العربيّة، عبر الإعلام، والعولمة، بل حتى عبر التعليم، الذي على ضعف أدائه المزري في تعليم اللغة العربية، وتدهوره المطّرد، هو آخذ في سوابق تاريخيّة تزيد ضغثه على إبّالته - وفي الجزيرة العربية نفسها والخليج، عقر دار العروبة - إذ يُفسح المجال للعاميّة في المدارس والجامعات، إن لم يكن من خلال المناهج فمن خلال الأمسيات والاحتفاليات الطلابيّة وغير الطلاّبية، حتى أمسى من مفارقاتنا الثقافيّة أن تشاهد أمسية شعريّة عاميّة، وعند ظهور الشعراء لوحة عريضة باسم (كلية العلوم)، أو ربما (كلية اللغة العربية)! أمّا اللغة الإنجليزية، فحدث ولا حرج عن هذه الربيبة المدلّلة، التي تُفرش لها اليوم المهج وأهداب العيون، فلقد باتت لدينا لغةً تُعقد عليها الآمال العراض في الوجود والمكاسب في هذه الحياة الدنيا، بل أصبحتْ لدى بعضنا عقيدة تعلو ولا يُعلى عليها، يُبالَغ في اعتناق أهميّتها مبالغة يهون في سبيلها كل غالٍ ونفيس، ولو كانت الهُويّة نفسها والثقافة وآخر ما تبقى لنا باسم عروبة؛ ففي هذا العصر الذي تقاس الأمور فيه بالدولار سيهون كل اعتبار، فليتحول أبناؤنا إلى فنّيين وخدميين وكوادر تشغيل، بلا فكر ولا انتماء، فليس الهنود بخير منهم، وليذهب كل ما نعتزّ به إلى حيث ألقتْ، فمعايير السوق المهني والعمليّ هي الفيصل، ولا بد أن تُكيّف المناهج التعليمية على غرارها حذو القُذّة بالقُذّة، وما عدا هذا التوجّه هراء وتخلّف.. هكذا، وبهذا المنطق المعاق عن إبصار ما وراء سراب تلك الشعارات البرّاقة، تسير القافلة قُدُمًا، وكأن قد علّقت بالإنجليزيّة مصائر العباد والبلاد والأرزاق!

وفينا من لا يودّ أن يظهر برأي يُظهره متخلّفًا عن الرَّكْب، فتراه يتفاعل مع الأمر برُهاب أن يقع في معرّة الرجعيّة، فإذا هو يرمي بصوته في صُوْرِ الراضي عن حال اللغة العربية، أو مَنْ لا يرى بأسًا عليها، لا من العامية ولا من الإنجليزية، التي تحارب أممُ الأرض النباهة - كفرنسا - لصدّ اجتياحاتها. وشتّان بيننا وفرنسا!

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151»

عضو مجلس الشورى aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة