الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 23rd August,2004 العدد : 73

الأثنين 7 ,رجب 1425

وَقْفَةٌ مع يَتيْمة ابن زُريقْ...
(ابن زُريق) البغداديُّ: شاعرٌّ عباسيٌّ مجيد ولكنه من ذوي الإقلال والإمتاع في الميدان الشعريِّ؛ تعرفه خزانةُ الأدب وتتحدث عنه، وتتناقل أثرَه الشعريَّ أفواهُ الرواة وأقلامُ النقاد ولكنَّهم لا يظفرون منه إلا بقصيدته الفريدة اليتيمة..!!
قيل عنه بأنه صاحبُ الفقرِ المدِقع وبأنه صاحبُ الأدبِ الثَّريّ.. ولكنَّ ثروتَه الأدبيةَ لم تُغنِ عنه شيئاً من حاجةٍ أو بُغيةٍ تشتهيها نَفسُه أو تلذُّ بها حياتهُ وأيامُ عمره؛ فعاش يتقلَّبُ ويتوجَّعُ على فراشِ المسغبةِ والمتْربة.. وفي نفس الوقتِ على فراشِ الحبِّ الأثير لزوجته.. ذلك الحبُّ والوفاء اللذان دفعاه إلى الهجرة والحسرةِ والنزوح..!!
ومن أجل الحبِّ لزوجته نَزَحَ (ابنُ زريق) إلى رحاب الفردوسِ المفقود إلى (الامبراطورية) المزدهرة آنذاك دولة (الاندلس) فهام فيها وضَاعَ بين محاسِنها وخمائِلها وفتونِها.. وظلَّ يبحث هنالك ويهيم علَّ موارد العيش الرخيَّ التي أفسحت صدرها للمواردين أن توسعَ له من رفدها ورزقها وهنائِها بعد أن جرَّدته الأيامُ من لذةِ العيِشِ ونبذته مكاناً قصيّاً من الغربةِ والوحشةِ والاستقرار.. ولكنَّ سعيَه الحثيثَ والمريرَ لم يكفكفْ دموعَه ولم يأخذ بناصيته حيث يريدُ ويطمعُ ويطمح وإنما عَبَس الزّمنُ في وجهه وبَسَر، وظلَّ يصارع المحنَ والأيامَ ويكبو، ويعاود المسير على جنبات الأرض الزاهية التي أراد ان يبثَّها الحنينَ والشَّكوى، وأن يتلمسَ السعادةَ على ثراها لتلملمَ أطرافَه وتأسوَ ضناه وجراحَه.. ولكنها لا تلتفت إليه بل تشيحُ بوجهِها عن قِراه وبغيتِه.. وظلَّ يعاني في مهجره ذلك الصدودَ القاتلَ ويتجرع أحزان ذلك الحبيبِ النائي عنه في سبيل حبه حيث خلّفه في بغداد بكيّاً مولع القلب، شديد الجوى..
وضاقت الدنيا أمام مطامح (ابن زريق) ويئِسَ من دُنوِّها.. وتذكر زوجتهَ وحبيبتهَ على بُعْدٍ قصيٍّ منها وهي التي لم تغِبْ عن قلبِه وخواطره منذ ذلك الوداع الأليم لها، ومرَّ بذهِنه ووجدانِه صورتها وهي تَنتحبُ عليه وتناشدُه بأن يشفق عليها مما ستكابده من آلام رحيله عنها، وتتوسل إليه بأن يظلَّ بجانبها في وصالٍ دائمٍ وشملٍ مجموع.. ولكنه يودِّعها على حسرةٍ وأسى ذلك الوداع الأخير وهو لا يدري ..!!
ويعود قبل أن تتوقَف مسيرة أيامه ليخطَّ إلى الأبد بمشاعره وانفعالاتِه وخلجاتِ قلبه؛ أساهُ وحزنَه يضعهما بحروفٍ داميةٍ من جَوانحه بين يدي شريكة حياتِه وعمره، يستلهِمُها العفوَ والمغفرةَ على بُعدٍ منها وعنها ويسألها بلسان الحبِّ والإخلاص والوفاء الذي تعوَّده منها بأن ترفق بشعوره وحسِّه ووجدِه، وألا تعذله فإنه موجعُ القلب، عميقُ الجراح والضَّنى والآلام:
(لا تعذليه فإن العذلَ يولعُهُ
قد قلتِ حقّاً ولكن ليس يسمعُهُ
جاوزتِ في لومه حدّاً أضرَّبه
من حيث قدَّرت أن اللوم ينفعُهُ
فاستعملي الرفقَ في تأنيبه بدلاً
من عذله فهو مُضنى القلب موجعُهُ)
وكانت أُمنيةُ (ابن زُريق) في نأيه عن شريكتهِ وأليفةِ حياته أن تبتسمِ له الأيامُ في منآه الجديد وأن يصل منها وبها ما انقطع من رغائبه ومُناه، ليسوقَ للإنسان الذي ملأ عليه ينابيعَ وجده وهواه كلَّ خطراتِ أحلامهِ ورُؤاه وليعودَ له بمباهج الدنيا منقادةً رخيَّة .. لكنَّ (ابن زريق) رغم رحيله وطوافه بفضاء الله يذرعه ويحصيه، لم يُصبْ منه مَغنماً ولم يحقق مأمولاً، وإنما عاد إلى يأسِه وَجَواه، ينعى حظَّه في مهجرِه ومغتربه ويقول عن نفسِه الموجَعة:
(يكفيه من لوعة التشتيت أنّ له
من النَّوى كلَّ يوم ما يُروِّعُهٌ
ما آب من سفرٍ إلا وأزعجه
رأىٌ الى سفرٍ بالعزم يُزمعُهُ
كأنما هو في حِلٍ ومُرتحلٍ
مُوَكّل بقضاء الله يذرعهُ)
(وابنُ زريق) يتَّهم الزَّمان كغيره من البائسين لأنه قاده إلى الرحيل وأسلمه غياهبَ البُعد، ليُوردَه حياضَ الثراءِ والغنى غير أن أنفاسه اللاهثة واللاهبة توقفت دون الوصول إلى تلك الحياض المأمولة..
ومع خيبة أمله الكليلة؛ يعود إلى نفسه وعقله ليكبح نزعاتهما وجماحَهما، وليطفئ اللهب المستعر الذي يتوقد فيهما وذلك ليستيقن مع طبيعة الأيام وسُنةِ الدهر ؛ بأن المكابدة والمغالبة والمغالاة في الطلب ليست هي وسيلة الرزق المقدور.. وبأن الدَّعة والتَّواني لاتقطعان ما اتصل منه وجرى.. ولكنَّ الحرصَ يشعل فتيله في كل نفسٍ وربما كان في الحرص أجلُها المحتوم.. ولهذه الغاية العقلية تستجيبُ يتيمته بالقول الحكيم:
(وما مجاهدةُ الإنسان توصلهُ
رزقاً ولا دعةُ الإنسان تقطعُهُ
قد وزّع الله بين الخلق زرقهمو
لم يخلق الله من خلقٍ يضيّعُهُ
لكنهم كلفوا حرصاً فلستَ ترى
مسترزقاً وسوى الغايات تقنعُهُ
والحرصُ في الرِّزق والارزاق قد قسمت
بَغي؛ ألا إن بغي المرء يصرعُهُ)
وبعد هذه الرحلة العقلية والفكرية في سماء التجربة والحقيقة التطبيقية ؛ يعود (ابن زريق) إلى شريكة حياته ومن وفائه ألا يبعد عنها لأنها هواه وملهمُته وبسمةُ حياته يعود إليها بهدوءٍ نفسيِّ وفي تسليمٍ يائسٍ لصروف الدهرِ وجراحِه يستودعها الله بقلب بكي يحوّم حولها في موطنها البعيد عنه بغداد وهو يشهد مدامعها يوم الوداع ويبصر حنينها وتشبثها به ضحى ذلك اليوم الاليم فيحييها بالدمع لغة تفصحُ عن جوانحه وحوائجه الكمينة وتُسيل نديَّة باكيةً من الرحاب الأندلسية لتستقرّ على ضفاف (دجلة) تستنشق عبير شريكته الوفية المكلومة:
(أستودعُ الله في بغداد لي قمراً
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعُهُ
ودَّعته وبودي لو يودّعني
صفوُ الحياة وأنى لا أودعُهُ
وكم تشبّثت بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلاتٌ وأدمعُهُ
إني أوسّع عذري في جنايته
بالبين عنه وجُرحي لا يوسعُهُ)
ويختتم (ابن زريق) مطافه المرير بحقيقةٍ تجريبيةٍ لم يكن بدٌّ من الاعتراف بها لديه وهي أنه قد رُزق ملكاً فريداً ونعيماً مقيماً يتمثل في زوجته الوفية له ولكنه لم يحسنْ سياسته ولم يقم بشكره فتحول عنه كما تتحول المياهُ الجاريةُ إلى مصباتِها المعهودة ونُزع منه بلا رحمة ولا هوادةٍ ولا مبالاةٍ بمشاعره وجراحاتهِ:
(رُزقتُ ملكاً فلم أحسِن سياسته
وكلُّ من لا يسوسُ الملكَ يُخْلَعهُ
ومَنْ غدا لابساً ثوب النعيم بلا
شكرٍ عليهِ فإنَّ الله يَنزعُهُ

عبدالله البراهيم الجلهم
الرياض

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved