| المعارك الأدبية.. وصراع العمالقة
|
ثمة ما يشدني إلى تلك الأيام المشحونة التي عايشها الأدب، فأبدى صفحة حافلة بالكثير من الوقائع والأحداث والتغيرات، ومما زاد من أهميتها أنها امتحان لرجال لهم شأن فارع في الثقافة والأدب.. ما زالت أصداؤهم تدوي حتى اليوم.. إنها معارك الأدب.. لا تختلف في نتائجها وواقعها عن الحروب العسكرية، فلها تأثيرها الذي يستمر زمنا طويلا، ولكنه أثر يصدق على الفكر والرؤى ومنه تنتجع العقول..
ولنا أن ننظر أيضا إلى الميدان النقدي قديما، إذ احتمل في فتراته معارك طاحنة، أدارتها أيدٍ سياسية واجتهد في إيقادها النقاد والأدباء، كان للميداني والحاتمي والتنيسي والقاضي الجرجاني كان لهم بها خلق وفري.. ولم يلق الأدب العربي في تاريخه أيام ازدهار كتلك الأيام..
ولا يجوز أن نغفل المعارك الحديثة التي خاضها شخوصاً رموز الأدب العربي، ورسم خطتها مفكرون خلدت أسماؤهم، كان مطعم أوارها الأدب في قضاياه المتشعبة والفكر في خطره وحساسيته، فذاك يرغب في الحفاظ على القديم وجعله حمى حراما، وآخر أبى إلا الرقص على رفاته، فكانت أيام ضجة وخصومة.. يقول الأستاذ سيد قطب عنها: (ربما كنت أول مغتبط - من المغتبطين - بهذه المعارك جميعا، مهما كان فيها من خصومات ومهما كان فيها من ضجيج، ذلك أن ضجيج الحياة خير عندي من سلام الموت، وأن ضجة العاصفة أفضل من صمت الركود)(1)
يشير محمد جاد البنا إلى أن فترة ما بين 1919 و1952م هي أغنى الفترات الأدبية الحديثة وأزهاها والذكر أن الأدباء الذين انخرطوا في هذه المشاكسات قد بالغوا في المواجهة وجعلوا منها قضيتهم التي عزموا على كسبها، أو على الأقل غمط خصومهم والاجتهاد في تغييب أصواتهم.. وهذا ما حصل من أحمد شوقي الذي يذكره الدكتور عبدالحي دياب متظلما شاكيا أنه أحد الثلاثة الذين نالوا الحظوة في الصحافة، حتى إنه ليتحكم في الصحافة مانعا نشر أي مقال للعقاد ورفاق الديوان، ويستعمل في ذلك الترغيب والترهيب منطلقا من مكانته في القصر وسطوته التي حازها.. بل كان يحض على (شتم) خصومه ويعطي الصحيفة مالا مقابل ذلك.
والسبب في الحنق الشديد هو ما بدر من العقاد الذي ادعى أن شوقي شاعر تافه لا يستحق المكانة التي نالها(3).
وكان للدعم الذي تلقته جماعة أبولو من الحكومة أثر كبير في تأجج الخصومة عليها من قبل طه حسين والعقاد وغيرهم الذين عدوا هذه الجماعة من مخططات الحكومة لزعزعة مكانتهم الأدبية، وبخاصة العقاد فقد واجهته هذه الجماعة بالنقد الشديد الذي جاوز أعماله إلى شخصه وذاته.. وقد خاض هذه المعركة مع العقاد تلميذه سيد قطب الذي حاولت الجماعة استمالته وضمه إليها، ولكن هذه المعركة خرجت عن الحيز الأدبي ومست الشخوص بشكل صريح، وربما كان ذلك راجعا إلى أثر السياسية السلبي في الأدب(4).
بل نرى العجب حين يتفاقم الخلاف بين أهل المدرسة الواحدة بين إبراهيم المازني وعبدالرحمن شكري إذ انبرى الثاني يهاجم المازني هجوما كاسحا بعد أن أتم مقالات في المقارنة بينه وبين حافظ إبراهيم وكان المازني قد فضل شكري وجعل شعره في محل أرفع، ولكن شيئا بلغ شكري جعله يغضب من رفيقه المازني، فراح ينقب عن السرقات الشعرية في شعر المازني وأشاع أنه لم يكن إلا مزورا ومنتهبا من الأدب والدراسات الإنجليزية، وطال هجومه عليه واشتدت شتيمته له.. ولبث المازني زمنا طويلا لا يرد على هذا الهجوم المتواصل انصياعا لوصية العقاد الذي آثر ترك شكري حتى تسكن ثورته لئلا يفرح دعاة القديم بهذا الاختلاف، ولكن ما إن ارتحل العقاد عن القاهرة إلى أسوان حتى تحركت لدى المازني بواعث الغضب وشبت في نفسه نار الوتر، فكتب فصلا عن شكري يصفه فيه (بالجنون والخرس والادعاء والبكم والحقد وأنه منكود ومائق.. الخ)، في سلسلة من الشتائم.. فثار شكري من هذا وطار شراره فأقذع في الشتم حتى وصف المازني والعقاد ب(خنازير الإنسانية).. في جرأة وبشاعة عجيبتين..! كل هذا كان ميدانه الصحافة والكتابة..!
وبعد أن عاد العقاد جمعهما في داره وحاول إصلاح ما بينهما فبدأت الأمور تأخذ طريقها إلى السلام، حتى بلغا حد التوافق والصلح، وعادت المياه إلى مجاريها وقد خلفا وراءهما خصومة دامت لأعوام!(5).
تلك كانت نظرة عابرة على جملة من المعارك الأدبية، وقد تباينت في الأساليب حتى وصلت إلى حد الإسفاف والتجريح والعداوة، ولكنها في الوقت نفسه قد تبرأ بسرعة وتعود النفوس منها طاهرة راضية..
ولكنها تبقى المعارك الأدبية التي ميزت ذلك العصر وأعطته بريقا لامعا وأحفلته بالكثير من المفاجآت..!
(1) سيد قطب والنقد الأدبي ص20. للدكتور: محمد الأول أبوبكر.
(2) المعارك الأدبية بين زكي مبارك ومعاصريه ص30. لمحمد جاد البنا.
(3) مشاكسات أدبية ص25. للدكتور عبدالحي دياب.
(4) سيد قطب والنقد الأدبي ص21
(5) مشاكسات أدبية ص30
حازم بن فهد محمد السند - اللغة العربية - جامعة الملك سعود
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
| 
