الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 24th April,2006 العدد : 150

الأثنين 26 ,ربيع الاول 1427

استراحة داخل صومعة الفكر
الهوى والشباب - أحمد عبدالغفور عطار ( 190 صفحة من القطع المتوسط )

*سعد البواردي:
(الهوى والشباب) أنشودة شدا بها الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب فشنف اسماعنا لسمائها.. والراحل العطار أعطى لنا نفس الهوى والشباب شعراً. فإلى أي مستوى من الإمتاع والإشباع شنف أفكارنا جميعاً به..؟! هذا ما سندركه من خلال متابعتنا لحصاده الشعري.
(اشهدي مغرب عمري قبل فجره) عنوان المحطة الأولى لقطار الاستراحة:
ليس في العالم محروم من النعمى سوايا
وطريق البؤس لا تعرفه الا خطايا
والسنا أظلم حتى لا تراه مقلتايا
وافتقدت النور منذ غابت وضيعت عجابا
كثير يا راحلنا.. ففي العالم مئات ملايين المحرومين من نعيم.. ومثلهم من خطاه متعثرة متدثرة بأحذية البؤس.. حتى وإن جاء الحب مأسوراً والقلب مقهوراً..
كل شيء فيَّ أو في عالمي بادي الخراب
وتدجَّى النور في عيني، وأمسى كالضباب
يا حبيبي إين أنت الآن هل تدرين حالي؟
بي ما يفتك بالقلب، ويودي بالشباب
لوعة الحب.. وخشية الفراق.. والخوف من المجهول دفعه لأن يقول:
يا منى الروح اشهدي مغرب عمري قبل فجره
وانظري مصرع تاريخي في مبدأ أمره
وارقبي مأساة قلب عاشت النار بوكره
وتحدته بكبر، فتحداها بصبره!
جميع مقطعه الأخير.. أدوات الحب القوي لابد وأن تأتي صابرة، ومصابرة..
(ألأن لوني كالدجى) مقطوعة جميلة ذات مغزى إنساني يأبى عنصرية اللون وطبقيته..
ألأن لوني كالدجى
ولأن قلبي طيب.؟
ولأن لونك يا أخي ال
غربي أبيض يخلب؟
تزري بإنسانيتي
وتزيدني بصقا وركلا!
وتهد كوخي يا أخي
تؤودني سجنا وقتلا؟
ويبقى لنا الشبه في تآخي وتصافي الليل مع النهار:
أترى النهار يخاصم الل
يل البهم للونه؟!
لا، بل إفاض عليه من
وشي الحياة وحسنه
أخوان ما اختصما
وبينهما المودة والصفاء
إن يقترض في الصيف منه
فإن في البرد الوفاء
(ربيع الحرب) له نكهة شعرية عفوية جافة:
أين الربيع الذي طافت مواكبه
بالكون فرحى وأين المرقص والطرب؟
كأنما الأرض في عرس وفي فرح
فأشرقت والربى بالسحر تنتقب
واليوم من هذه الويلات قد رتعت
بنا المصائب، واستشرت بها النوب
وأصبحت مأتما تجتر شقوتها
وفي النفوس خضم الحزن يصطحب
يوم لنا.. وآخر علينا.. ودواليك دولاب الحياة يدور.. ونحن ندور معه.. ونديره كما تحلو غرائزنا وطباعنا البشرية المتقلبة. ويقول في سخرية عن السيد المطاع:
إنما السيد المطاع الذي سخر إخوانه ودق الطبولا
ثم أبدى مهارة وذكاء وغراما وأتقن التمثيلا!
بالعصر تنوء فيه المعاني فتسمي الجديب روضه ظليلا
الجديب.. أي المجدب الذي لا أوراق له.. ولا رائحة: ومن الجدب إلى الخصب يأخذنا شاعرنا العطار في مقطوعته الوجدانية (هي دنيا):
قالت الكاعد الجميلة: صفني؟
قلت: ماذا أقول في وصف غادة؟
كل عضو بها يُزَينه الحسن
وفي ثغرها رحيق السعادة..
هي دنيا.. وإنما ميزتها
روحها.. والغريزة الوقادة
توصيف مقتضب وبديع ومن غادته إلى الزهور في مرآة المفكرين والمنظرين..
إن في هذه الزهور لمعنى
جلَّ من أن تعيه نفس الغبي
لكن الفيلسوف يدرك منها
كل كنه بعقله العبقري
والأديب العظيم تلفيه فيها
غارقا.. في تأملات الشجي
وترى الشاعر المجيد يصوغ ال
شعر، وحبا من الشعور الفتي
لم يقل لنا شاعرنا عن الحب.. وعن ربيع الحياة.. وعن براءة الأطفال.. كلها ترمز إلى الزهور.. حتى تلك الزهور الذابلة إنها رمز عمر كان له زهر.. (ليلاك ما زالت على حبها).. محطة جديدة عنوانها يكشف محتواها:
ليلاك ما زالت على حبها
وزادة إخلاصها المطلق
ليست على الصب حراما وما
حرَّمها الله.. فلا تَفرقوا
فاكهة حلّت له وحده
ما لسواه العهد والموثق
حب لا يقبل الطعن ولا الاستئناف.. لأنه حب شرعي.. (الزورق المختال) يتيه على ضفاف بحيرة الحب مزهواً برحلة سفره الربيعية:
وفي يوم ركبنا زورقاً يختال في النهر
وقد نثرت كؤوس الشاي مثل الأنجم الزهر
ولحن القول منسجم كسمط الدر في النحر
فقلت: اليوم أخسرها وحسبي اليوم من عمري
ومن البحيرة الساحرة إلى النجم الساحر صعوداً:
إلى أين تمضي في عروجك صاعدا
إلى الكوكب القاصي تطير وتدأب
رويدك أن النهر قاصٍ دراكه
بعيد مدى، فاقنع بما هو أقرب
(دراكه) يعني إدراكه.. شاعرنا لا يريد للكوكب المزيد من الصعود خشية الابتعاد لأنه رمز ضياء.. وعنوان حب.. يريده على دنو منه ولكن الكوكب المضيء يدور في فلكه لا يعنيه من الأرض شيئاً لأنه في عداد كائنات السماء..
(لا تعجل بالجفاء) الجفوة سلاح بتار يقطع الصلة ويمزق أوصالها إرباً إرباً.. ولهذا لا يستعجله!
أيا صاح لا تعجل عليَّ بجفوة
وفكر ففي التفكير هدي البصائر
وكن فطناً لا تغترر بتواضعي
ولا تحسبنْ أن القطيعة ضائري
حبوتك ما ترجو وهل بعد مهجتي
طلاب لراجٍ أو أمان لحائر؟!
فكن جنة فيحاء يعبق طيبها
وكن لي ظلاً وارفاً في الهجائر!
دعوة إلى الحب.. نحتاجها في زمن الشتات والقطيعة والجفوة.. بعض مقاطع القصيدة طويلة جميلة..
(قد لا أريد سواك) رسالة زوجة لزوجها ترجمتها شعراً:
كلمح البرق.. أو أسرعْ
مضى تاريخنا المترع
كأني لم أعش معه
سوى الوقت الذي ودع
وهدَّ فراقه كوني
بكل جهاته الأربع!
وبعد مضي أيام..
سألت فؤادي الموجع
وكان جوابه الآهات
والأنات والأدمع
رسالة عتب من وفية لزوجها شقية بتجاهله لقلبها المعاتب.. السلام شعار حياة.. ومطلب أحياء ..هذه بعض خواطرنا المسالمة:
أيها العالم الذي فقد النور واعتكر
انتظر ساعة المنى ساعة السلم والظفر
بيتان تلخصان خواطر العطار.. البشرية كلها ترنو إلى فجر السلام الذي يبدد ديجور الظلام والظلم.. ولكن ديناصورات الحرب وحيتانها الكبار يلعبون لعبة النار والعار في حق الضعفاء الأبرياء..
(الحرب) التي يكرهها أفرغ لها مساحة كبيرة من جسد قصيدته:
أبيدت القرية في لحظة
ولم تصنها العزلة الوادعة
وبُدِّل البشر بها مأتما
وحطم الأمن لظى الفاجعة
وصوَّع الروض فلا وردة
راءٍ ولا طلعته رائعة
وجفت الأحلام في غرسها
وانطفأت روعتها اللامعة
تذكر ماضيها وأفراحه
فتنطوي آمالها الواسعة
توصيف موفق لقرية نائية وادعة طالها أذى أشقياء البشر.. مجرد نموذج لمدن وقرى.. وضِيَع تهادت على وقع صواريخ وقنابل أعداء الحرية والحب..
(ولست أريد الوصل) في بعض ملامح شعر شاعرنا تمرد على الحب.. لا لأنه لا يحب.. إنما لأن الحب الجميل في نظره ما زال بيت شعر يغني.. أو طيف حلم يُداعب.
ولست أريد الوصل فالوصل معقب
نوى والنوى لا شك للنفس مُعطب
ولكن اردم الوصل كي أذكر الهوى
وساعات وصلٍ تستشير وتعجب
فلي من خيالي عالم السحر، والهوى
أعيش به كالطير ألهو.. وأطرب
فيا قلب لا تأسف على خير ما مضى
فإنك كنز الذكريات المحبب
وفيك كنزتُ البشر والسهر والهوى
وأجمل أحلامي تدبُّ وتقشب
هكذا يتمنى العطار أن تكون حياته عطراً بذكرياتها، وأمنياتها.. واعتزازها بالنفس دون توسل أو تسول.. بعض الرجال لا يخافون الوحدة:
أما (أغنية البحر) الذي يخاطب بها ملاكه المستغرقة في سباتها العميق:
أيها النائم الصغير تنبَّه
والثم الفجرَ في ثغور الأقاع
وانظر الطير كيف يعلن حبه
من علا الروح ناشرا للجناح
قم إلى الروض واملأ القلب عطر
وابتسم للربيع سرا وجهرا
فالربيع الجواد يسقيك راحا
الأغنية البحرية سرعان ما تحولت فجيعة موجعة في حبيب:
جنيت على مر الزمان أمانيا
رقص بقلبي أنهرا ولياليا
(الأنهر) إشارة إلى النهار وليس النهر:
وكنت كورد انعش الطل غرسه
يضاحك فنان الرياض النواحيا
فما راعني غير الزمان يسوؤني
ويحطم آمالي ويعزي فؤاديا
رأيت خليلي حينما لفه الردى
وأبصرته يمضي إلى القبر ناجيا
وراح إلى المجهول يسرع خطوه
كأن ملاك الموت يبغي فنائيا
ألم يدر أني نصفه، وبقية
من الجسد الفاني فيا بؤس حاليا
رثائية صادقة وحارة عن شاعرنا لأحب الناس إليه وأقربهم إلى قلبه.. إلى تحول إلى نصف قلب، وحياته لنصف حياة:
(بل ربيع العمر في هذا المكان) عنوان.. أما المضمون سنقرؤه ونتعرف جميعاً إلى مكانه، وزمانه، وإنسانه إن أمكن:
أيها الفردوس قد كنت أنا
منبع الفرحة في غض السنين
كلما جئناك رحبت بنا
وتلقيت هوانا بالحنين..
وظننا أن أول فجر
لاح في دنيا المنى أول مرة
الشطر الأول ناقص أحسب أنه يحتاج إلى صياغة جديدة كأن يقول (وظننا أننا في فجر عمر).. بعض ملامح لما نبحث عنه:
كنز أحلامي وحبي ها هنا
وهنا السحر تفشى في الزمان
وهنا الماضي وأطياف المنى
بل ربيع العمر في هذا المكان
إنه الوطن حيث التاريخ.. والأهل.. والولاء.. ومن اغرودة الوطن الذي حدد لنا مكانها وزمانها وإنسانها أخذنا معه طواف قطافه قبلة مختالة:
على ثغرك الوضاء تختال قبلة
تناظرها عيني ويشتاقها فمي
ولكن عليها حارسان من المدى
يذودان عنها ثغر صبّ مُتيم
تناديك اقبل واقطف الوردة التي
سقيت رباها بالدمع وبالدم
مفردة الدمع يحسن إبدالها بالدموع كي تستقيم للشطر وزنه..
شاعرنا هل استجاب للدعوة المغرية؟
فأنبتها حمراء. ريّا جميلة
بها كنزكِ المذخور جمُّ التبسم
فيدني إليها الثغر لهفان صاديا
فيحميه عنها الحارسان بأسهم
فحسبك أن ترنو إلى وجهي الذي
يشع سناه بالجمال المُحرَّم
والا الفراق المر يحكم بيننا
فتغدو شقيا ثم تمسي بأعظم
فيرتد مذعورا ويهمس قائلا:
لكِ الله عودي بالوصال أكرمي
هكذا بَثَّ شكواه.. بماذا أجابت:
ولما رأتني كاسف البال حائرا
بدت سنها من ثغرها المتبسم
وقالت: تقدم يا جبان أخفتني
أخشى وعيدي؟ أم تهاب تجهمي؟
تريد.. وما تجديك مني إرادة
مكبلة تحميك عن درك أنعم
(دَرْك) تريد بها أن تقول (ادراك).. وفي النهاية يسدل الستار دون قرار حاسم..
لهيب الشوق.. حارق يخترق الحدود والسدود متى استيقظ:
أبهذا اللهيب تشتعل الدهر بقلبي وزادك الدهر وقدا
تصحيح بسيط يُقوِّم البيت والمعنى معاً.. أحسبه على النحو التالي (أبهذا الحبيب اشتَعَل الدهر بقلبي).. الموقد حوَّله إلى رماد تذروه الرياح.. وحياته إلى ما يشبه الهشيم الذي لا يقوى على ثبات
غير أني رأيتها كهشيم
يتشكى من قوة الوطء غبنا
راثيا حاله وقد ذكر الما
حتى الذي كان فيه بالروح غصنا
(لكل ربيع خريفه) يقول العطار مخاطباً الخريف:
نأيت ولم ترحم واعلنت لي القِلى
وبددت أحلامي وهن ألوف
وأطلقتني للهم أجرع كأسه
على مضض والهم فيك عنيف
وانكرت حبي واحتويت صداقتي
وخست بذاك العهد وهو شريف
(خست) اتصور أنه أراد بها أن يقول (خنت) ربما تكون خطأً مطبعياً..
جمالك هذا كالربيع وانما
لكل ربيع في الوجود خريف
نعم للعام الزمني فصول أربعة.. صيف حار وربيع دافئ.. وشتاء بارد وخريف أكثر برودة، لعله خريف الحب حين يتعرى وخريف العمر بعد أن يشيخ.. أخيراً مع شاعرنا الراحل أحمد عبدالغفور عطار في ديوانه (الهوى والشباب) ننهي رحتلنا معه مع مقطوعة في القلب دارك..
أفاتنتي انظري كبد المُعَنَّى
تذوب من الحرارة فوق صدركْ
وفي نهديكِ بعض دفئ داني
على بلواي باق طوع امركْ
أكان عُجباً منها أم تعجباً وهي تسمع منه بعض بلواه.. ما أن أفرغ بيتين من حلقه حتى فتحت فمها متحدثة:
فقالت وهي باسمة: أصدقٌ
مقالك ام تراه بعض شعرك؟
ألستَ بشاعر والشعر كذب
تخادعني به يا سوء مكرك!
فقلت: استغفري ولديك حبي
وروحي يشهدان بعسف هجرك
هنا في القلب دارك فاستقري
وشيدي عالماً حباً بسحرك
فعيشي لي بقربي وامنحيني
جناكِ وان سمحتِ فكل خيرك
فقالت: قد أجبنا واستجبنا
وهاك الثغر فاستمتع بثغرك
وحاذر أن تخون.. فقلت كلا
وشكرا لا يُوفي بعض أجرك
عرفت الراحل العطار ناثراً.. وعرفته الآن شاعراً جزل العبارة يمتلك ناصية شعره باقتدار.. وجرأة شديدة لم يتعود عليها الكثير من شعرائنا رحمه الله.


الرياض ص.ب: 231185
الرمز: 11321 فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved