الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 24th April,2006 العدد : 150

الأثنين 26 ,ربيع الاول 1427

إذا هبت الريح على أيقونة الرقة

ورحل الساخران .. ((3))
*فاضل الربيعي:
في نهار مشمس من أيار- مايو 1994 كنت أدخل مقهى فندق الشام في قلب دمشق، عندما صادفت عبد السلام العجيلي يقف وسط المقهى. كان هناك حشد كبير من الأصدقاء يقفون لتحيته ويلحون عليه بالجلوس. توقفت قبالته تقريباً وأنا أتأمل العينين الذكيتين الطافحتين بالبشر والحبور. في تلك اللحظة، وأنا أقترب من الحشد وألقي التحية على الجميع، عادت بي الذاكرة إلى أعوام سابقة بزغت فيها صورته من بين آلاف الصور. وكان مثيراً أنني استذكرت واحدة منها عندما قال لي أحد الروائيين الشباب (أثناء حديث صاخب عن الرواية السورية جرى بين عددٍ من الكتاب الحداثيين) أن اهتمامي بكتابات العجيلي ينبع من فهم خاطئ لدوره كروائي. (إنه كاتب إقطاعي). قال شاب شديد التهور. دوت الكلمة في أذني فقلت معترضاً (هذا تصوير مزعج ونمطي للرجل. ألا ترون أنه لا يستحق مثل هذا اللقب البشع؟) قال آخر (كتاباته بسيطة وحتى ساذجة) فعلق ثالث (مضامين روايته وقصصه لا تكاد تلامس أي شيء. إنه باختصار، كاتب من نوع الكاتب المصري محمد عبد الحليم عبد الله).
وراحت الأصوات تتعالى بينما وجدت نفسي أستمع مذهولاً، إلى ما يشبه محاكمة صورية في (جمهورية أدباء) ساخطين لا يتوانون عن إلقاء التهم جزافاً على الرعايا الأبرياء.
فقلت ساخراً (ولكن بعض القراء يعتبرونه أقرب إلى تولستوي) فرد آخر: - هيا انفخوا في صورته. ليس تولستوي ولا حتى المصري عبد الله وصمت الشبان الحداثيين - هيا انضم إلينا.
سمعت من يناديني من وسط الحشد في مقهى الشام، بينما كنت لا أزال أحدق في عيني العجيلي الباسمتين من بين الدموع المتناثرة مع قهقهاته.
تقدمت نحوه وأنا استحضر الصورة المدهشة التي رسمها غابرييل غارسيا ماركيز ذات يوم - لزميله وأستاذه كوتا ثار (لقد رأيت رجلاً طويلاً في حديقة مضاءة وسط حشد غريب من الشعراء والكتاب الثوريين الغاضبين.
كان يبدو لي بمعطفه الطويل كما لو كان أطول رجل في العالم).
تقدمت نحوه وصافحته بحرارة ظاناً مثل ماركيز أنه أطول رجل في العالم.
قال لي مبتهجاً: - سمعت من قال لي أنك هنا. دعني أرحب بك. كان لقاءً حميماً وسريعاً - هو ذا صديقنا العراقي. هيا انضم إلينا.
قال مخاطباً أحد الأصدقاء مرحباً بي بمحبة وشوق.
في ذلك النهار الدمشقي المشمس رأيت المشهد كاملاً بكل تناقضاته. لم يكن الرجل مثيراً للجدل، ولكن الحماسات الهوجاء وروح الصخب التي تميز نقاش البعض، والمبالغات عديمة القيمة التي تطفح بها بعض الصور المرسومة للأحداث والرجال، هي التي كانت تعمل بالضد مما نرغب، على رسم صور لا تملك أدنى قدر من الصدقية.
وبالنسبة لي؛ فقد ظل عبد السلام العجيلي واحداًً من أكثر الأدباء الكبار في سورية تميزاً وتفرداً، حين جمع في كتاباته بين قوة التوصيف والحكاية الشعبية ودهاء الناقد السياسي وخفة دم الناقد الأدبي وبشاشة وجه الطبيب. لقد كان بوسعه على الدوام أن يقرأ آلام المريض وهو يتأمل عينيه ويستمع منه إلى (قصصه الصغيرة) وهمومه وأوجاعه المنزلية اليومية، متوغلاً في أعماقه من دون الحاجة إلى جهاز طبي. كانت له نظرات كاشفة وقوة ملاحظة للأشياء، جسورة ومتبصرة تليق بنباهة رجل بدوي حاذق. كانت مهنته الأخرى - ككاتب - تحضر بقوة وهو يكتب الوصفة الطبية لأفراد مجتمع، يرى إليه وقد غاص في الألم، ولكن مدركاً ببصيرة الكاتب لا الطبيب، أن لهذا الألم صلة عضوية بنوع آخر من الأوجاع الحياتية.
في 4 كانون الثاني - يناير 2005 كنت أقف أمامه، مرة أخرى وبعد مضي سنوات، وهذه المرة في منزله مع حشد من الروائيين والكتّاب العرب، الذين جاءوا من كل مكان إلى محافظة الرقة لرؤية أيقونتها الأدبية عبد السلام العجيلي.
كنت أعلم أنه مريض مرضاً شديداً، ولكنني أبداً لم أتوقع أن أراه على الرغم من المرض- على هذا القدر من النباهة والقدرة على مقاومة الموت. كان يجلس فوق أريكة صغيرة مغطاة بأكسية من صنع يدوي (من ذلك النوع الذي يشتهر بصناعته بدو الجزيرة الفراتية الذين أحبهم وعاش بينهم ولم يفارقهم قط). لقد أقعده المرض، ولكنه لا يزال على الرغم من ذلك قادراً على رسم الابتسامة ذاتها. كأنني أراه الآن كما رأيته بالأمس وهو يغمض عينيه بشوشاً ومبتهجاً كطفل، فيما زحام رفاقه من حول الأريكة المغطاة بنسيج البدو يشتد حتى تضيق الصالة. لقد رأيت في ذلك النهار فرحه وقد تفجر بالبشاشة القديمة التي لاحت لي ذات يوم، فأيقنت أنه لن يموت إلا سعيداً وعزيزاً. وحين بدا لي محاطاً بالحشد ذاته (كما لو أنني أراه الآن في مقهى الشام قبل سنوات طويلة حين رأيته أول مرة وقد أحاطت به الجموع) خامرني شعور غامض بأنه اختار شكل موته على الأقل-: سعيداً بأصدقائه وعزيزاً وسط أسرته ومن أحبوه. إنه بينهم وهم من حوله كما كان دائماً.
كنا قد اجتمعنا في مهرجان رائع نظمته دار الثقافة في محافظة الرقة بعنوان (مهرجان عبدالسلام العجيلي للرواية العربية) حيث ألقيت بحثاً تحدثت فيه عن مكانته الأدبية. لم يعد هناك من يجادل حول مكانة العجيلي اليوم كما كان الحال قبل سنوات. تلاشى الصخب وحل التأمل الحصيف في إبداعه وذلك ما يستحقه بكل جدارة.
في ختام المهرجان كلفتني دار (الفرقد) السورية تسليم شقيقه، درعاً صممته الدار باسم العجيلي، تكريماً له وعرفاناً بمكانته الأدبية والاجتماعية.
وحين صافحت شقيقه وأنا أسلمه الدرع رأيت الابتسامة ذاتها، وكان عليّ أن ألقي التحية على العجيلي من بعيد. يا صاحب (أرض السياد) وداعاًً.
ووداعاً حين يبلغ الفرات أرض العراق ليتردد على الضفة الأخرى هناك، اسمك. ولسوف تلوح للسائرين على ضفاف الفرات، اليوم كما بالأمس وفي الغد، قامة فارعة مثل نوارة في برية معشبة. فبالله، إذا ما هبت الريح لا تتركوا الغبار يعلو أيقونة الرقة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved