الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 24th April,2006 العدد : 150

الأثنين 26 ,ربيع الاول 1427

الماغوط.. شاعر الانطباعية الأوحد في العربية

*علي العائد:
إيقاع حياة الماغوط لا يشبه مطلقاً إيقاع قصيدته، فقصيدته هي نظام الفوضى، على أنَّ حياته هي فوضى النظام، قصيدته -لغة- تستخدم فكرة واحدة، ومن هنا هي نظام، لكنها تدخل في الفوضى بظاهرها الحزين واليائس، وباطنها الباحث عن الفرح، الرافض لليأس، فهو الشاعر المتشائم.
وحياته فوضى تعتمد تراتبية يظلم فيها نفسه والآخرين المحيطين به،.. وهي نظام كونها حرية شخصية تحقق شروط مزاجه المتقلب.
نعم، قصيدة الماغوط عصية على التقليد بكل ذعرها، خوفها، وانطباعيتها، فهي قصيدة اللحظة في عينيه، قصيدة (الآن هنا) اللحظة الثابتة، غير الرؤيوية، غير المتبصرة في اللحظة القادمة، وغير العابرة للزمن، كفكرة، كل ما هنالك أن الزمن العربي لم يتغير خلال حياة الشاعر، ولذلك ظل ما كتبه في الخمسينيات طازجاً وصالحاً للقول في بداية الألفية الثالثة.
نعم، قصيدة الماغوط حية، وما تزال طازجة، لكنها لا تدَّعي المثاقفة، فالماغوط شاعر أنوي، غير أناني، يكتب بعينيه الزرقاوين ما يعكسه الوشم القيد، الذي يشوه رسغيه، ويُذكِّره، دون ركون إلى العادة، أن القيد قدر المواطن العربي، وقدرُ الشاعر العربي، في زمن انتصارات زائفة، ممتدة من فلسطين الفلسطينيين، إلى عراق العراقيين، إلى كل السجون العربية المتآلفة المتحابة، الكارهة لنزلائها، من المجرمين إلى ضيوف اللحظات الممتدة إلى سنوات وعشرات السنوات،.. الضيوف الذين حملوا حزناً مشاكساً، فتحرروا خلف القضبان من ذعرهم، وفهموا أن خوف السجّان من خوفهم هو الذي جعله يسجنهم.
بطريقته الخاصة، كتب الماغوط عن هؤلاء، ما قبل السجن، وما بعد، ما قبل الجوع، وفي أثنائه، وما بعد الجوع.
كتب الماغوط عن القطط السمان، وعن الأرصفة التي لا توحد بين الناس، وعن الخبز الذي أصبح قضية نضالية، وعن شراك الحب، وأقفاص العائلة، وأطفال الصدفة،.. كتب عن الانتهازية، والسياسة الهلامية، عن الأحزاب التي توقفت عن النبض عندما تجمدت عند حرفية النص المؤسس، وعن رفقاء أحبهم كأشخاص، وعن ذاكرة غير منظمة، وعن أرشيف موّار لم يستوعب سوى الشعر،.. الشعر الذي بشّر به الماغوط، دون غيره، فكان اكتشاف الماغوط لنفسه، بدائياً وهادئاً، كأسطورة تمزج الواقع بالخيال، وتعبر قاموس اللغة إلى عمق المجاز، وإلى تحريك مأنوس الماء الراكد.
أليس هذا هو الشعر؟ من هنا اكتشف الماغوط نفسه شاعراً، ومن هنا بدأ باستغلال مهنته الأساسية، مهنة الحزن، فكان (حزن في ضوء القمر)، وكان (الفرح ليس مهنتي)، وكانت (الأرجوحة)، ثم.. (سياف الزهور).
فهل أصاب الماغوط الملل من حيرته وخوفه، وتطوع عقله الواعي لينتقل من الشعر إلى ثوابت اللغة، فاحتفظ بالفكرة المشاكسة (الماغوطية)، وتخلى عن الدمعة الزرقاء الضاحكة، الفاضحة لعمق المسافة بين واجباتنا وأحلامنا؟ هل ذلك حقاً ما جعل الماغوط يهجر الطبيعة، ملهمة الانطباعية، ليعتكف في منزله معاقراً (غرفة بملايين الجدران) من اختياره، أم أنه اختار من بين بدائل لا تتيح للصقر اختيار فريسة حُرّة..؟ للماغوط، حياً، جماليات من عاش صدفة، وله، ميتاً، جماليات من اختار أن يموت وحيداً، وبعيداً عن الاهتمام الرسمي المفاجئ، الاهتمام الذي يغرف الأوسمة، ويوزعها على تاريخ من الجوع، والذعر، والحبس، والتهشيم، والتهميش، والنسيان!.
وللماغوط، الشاعر الذي يبقى شعره مدرسة، تلك الومضة التي تحيا لتسعد قدر ما تضيءُ.
صحيح أن منابع الشعر عند الماغوط جفَّت منذ ثلاثين سنة (ويالها..)، لكن ثلاث مجموعات شعرية كانت كافية كي يكون الماغوط وحيد زمنه الشعري العربي،.. ولولا تلك الثلاث ما استطاعت قصيدة النثر أن تثبت جدواها كتجديد في الشعر العربي، وبعثٍ لمكامن في اللغة العربية لم يستطع غير الماغوط أن يبعثها، ولما رفع بعض مقلديه وتابعيه عقيرتهم وجأروا بمقولة الموسيقى الداخلية للقصيدة، فقصيدة الماغوط هي وحدها التي أعطت، عملياً، مشروعية الوجود لقصيدة النثر.
هذا ما فعله الماغوط، دون تنظير، ودون مقدمات، فاقترف القصيدة، كطفل يلهو في جرف مفيض النهر تحت شمس حارقة، فعالج الغضار على عجل، وبنزقٍ،.. فكانت قصيدة الماغوط صنع يديه، ولا يختلف ما عاجلته نفس الماغوط عما اقترفته يداه،.. أَوَليس الصدق أن تفعل ما تقول، وتقول ما تفعل؟ هو ذا عمل الأطفال، وعمل الشعراء الشعراء.
اتهموه بأنه هدّام وسوداوي.
اتهموه بالفوضى.
اتهموه بالمزاج المتقلب، والنسيان.
نعم، هو كذلك، وليست تلكم تهماً مجحفة أو مدّعية.
قد تكون بعض تلك الصفات مؤذية في تعامله الشخصي مع أهله، أو أصدقائه، لكنها على مستوى تعامله مع فنه وقصائده ضرورة، فالهدم ضرورة للبناء الجديد، والسوداوية توق للصفاء، والفوضى نزوع للبياض، والمزاج المتقلب إرهاص للهدوء، والنسيان علامة ازدحام الأفكار وطيب السريرة.
كل ذلك من صفات الإبداع، فالإنسان الطبيعي، أو القريب من ذلك، هو إنسان عادي، ذو عقل علمي أو عملي، وهو بعيد بمسافات، قليلة أو كبيرة، عن الإبداع،.. فللفن جنونه الخاص، أو عقله الخاص، وحيث تراه، بعين الرائي، مخطئاً أو ضالاً، يكون في حقل الإبداع ينثر بذوره الخارقة التي تشق أديم التراب وتمدُّ أعناقها باحثة عن خيوط الشمس.
محمد الماغوط.. عليك سلام الأرض التي ستحتضنك.


*شاعر سوري

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved