الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 24th April,2006 العدد : 150

الأثنين 26 ,ربيع الاول 1427

مبدع من زمن الأمل!

*ميشيل كيلو:
مع أنهما لم يكونا من جنس أدبي أو فكري واحد، فقد كان كل واحد منهما، مع بعض الفارق بينهما، قامة عملاقة، شجرة يغطي ظلها الأرض وتصل فروعها إلى السماء.
بغياب محمد الماغوط وعبد السلام العجيلي، الرمزين الكبيرين لزمن آخر كان زمن أمل، لعبا بطريقتيهما المختلفتين، دورا مهما في بلورته وصياغة فكره ومشاعره، تنطوي حقبة كانا دليلا حيا على أنها قامت ذات يوم في أرضنا اليباب، التي أجدبت حتى أخذ يبدو أنها لم تعد قادرة على إنجاب من يماثلهما أو يدانيهما في الموهبة والإبداع.
ولأن من الصعب الكتابة في آن واحد عن عملاقين، فإنني سأقصر كلمات هذا النص على عبد السلام العجيلي، الرجل العجيب، والمبدع المتميز، الذي كتب في الشعر والرواية والقصة والمذكرات والخواطر والمقالات، فكان يرتقي بكل ما يجري على قلمه إلى مستوى يجعل منه إبداعا، بسيطا وبليغا في آن معا، يكتسب الواقع فيه دلالاته الرمزية التي تعيد تشكيله، ويسمو الحدث من خلاله إلى مستوى لغة تكتنه فتعالى بها، ويتحول التفصيل إلى مقولة ذات أبعاد كلية، لذلك يراودك الشعور أنك بين يدي السهل الممتنع، الذي وصف به ابن المقفع والجاحظ في عصرهما، ولا بد من اعتبار الدكتور واحدا من أهم رموزه في عصرنا، الذي حمل طيلة ثلثي القرن الماضي اسمه، بين أسماء قليلة أخرى، وانطبع بطابعه الشخصي، الذي بقي طابعا إبداعيا ومتنوعا، ذلك أنه عاش وعايش أحداثه منذ أربعينياته، عبر مشاركته متطوعا في حرب فلسطين، ثم دوره كنائب ووزير، وعبر قدرته الفذة على أن يجعل من نفسه، عن غير قصد، رجلا تقاس بمواقفه الأحداث والمواقف، بل والكلمات والأفكار.
ولعله ليس أمرا مألوفا في بلادنا أن تعرف به مدينة تاريخية فريدة كالرقة، فلا تذكر إلا وذكر معها، ولا تنفصل عنه في حديث أو حدث، لأن سيرتها بدونه تصير فقيرة جدا، وتغتني به وتتماهى معه فكأنه المدينة وكأنها الكاتب المبدع، في سابقة عرفها تاريخنا العربي مرات قليلة، قبل وقت طويل، لكن عصرنا الحالي لم يعرف ما يماثلها، أقله في سوريا، التي واكب الراحل الكبير نبضها بقلمه، وغمس ريشته في واقعها، لكي يعيد إبداعه بطريقة جعلت من تعبيره عنه واقعا آخر، أغنى منه بكثير، واقعا للإنسان وقيمه ومواهبه وحاجاته، مليء بالاحتمالات المفتوحة على آفاق لا حدود لها، جسدها حتى في المقالات الصغيرة التي كتبها في أمهات الصحف والمجلات، بذلك القدر من الذكاء، الذي يحول حتى الهامشي حامل قيم ورموز غنية وجامعة.
ترى، هل استطاع أحد من الذين قرؤوا كتاباته عن الفرات نسيان ذلك النص، الذي قال بناء سد على الفرات إلى عمل فني، صار فلاح الجزيرة، الفقير والمنسي، فيه تاريخا تتقاطع عنده ثقافات الماضي وتراثه ورغبات الحاضر وأشواقه، ترتبط حريته به وحده مثلما يرتبط به وحده تغيير عالمه وتجديده.
سأعترف الآن بأن روايته تلك أربكتني حين قرأتها قبل أن أستمع إليها في راديو لندن.
كان الدكتور رجعيا وليبراليا في قاموسي الشيوعي، وبالنظر إلى أن حوارات الرواية كانت حافلة بتفاصيل علاقة إنسانية وحارة بين فلاح سوري وخبير روسي يعمل في بناء السد اسمه فاسيل واسيلي في لغة الفلاح - فقد حيرتني وأربكتني الروح الإنسانية، التي فاضت من كل سطر من سطورها، ولم أعرف كيف أوفق بين حكمي المسبق على كاتبها (الرجعي) وبين مجرياتها المليئة بالشغف الإنساني والشخصي والرغبة في تغيير العالم.
فيما بعد، أدركت أن الرجل أكبر من أية تصنيفات، وأنه لا يوجد قالب يتسع له كمبدع، وأن عصرنا سيحمل علاماته باعتباره واحدا من أبرز المنتمين إلى القلة التي سيحمل علاماتها، مع أن هذا لم يكن هدفه أو قصده، هو الذي احتقر كل ما لا ينتمي إلى أصالة الإنسان ورهافة الروح وصدق الفكرة، وأبى أن يضع إبداعه في خدمة أحد أو شيء غير الحرية والكرامة، له ولجميع الناس، ورأى ذاته وزمنه بدلالة نزعة مبدعة ربطت نفسها بحق بالإنسان، مطلق إنسان، قاس بها الأشياء والأحداث والأفكار ولم يتخل عنها أو يتهاون في التعبير عنها، رغم أن من ناصروها تقلصوا إلى درجة التلاشي، خلال حقبة غير قصيرة بدأت في نهاية الخمسينيات، وواصل عمله في هديها: طبيبا يعالج أبدان مواطنيه في الرقة نهارا، ومبدعا ينفعل بأحداث وأفكار عصره، داخل وطنه وخارجه، في كل حين، يعرف ما لا يعرفه معظم الناس، ويتابع ما لا يتابعونه، لكنه يضع كل ما يعرفه ويتابعه في متناول أيديهم، عبر شتى صور وأشكال الجهد المعرفي والإبداعي، الذي جعل من مدينته محجة يقصدها الأحباب والأغراب، ليعودوا منها بزاد وافر تفيض منه ذكرى لقاء عملاق سخر من زمن لطالما حمله على محمل الجد، رأى نفسه في قلبه وعلى أطرافه وفي موازاته، وقدم شهادات خالدة عليه، ستبقى في وعينا وذاكرتنا، نحن مواطنيه الحزانى لموته، ولا بد أن ننقلها إلى ذاكرة ووعي الأجيال القادمة؛ لأن إبداعات الدكتور لم تكن لنا وحدنا أو لزماننا وحده، بل يجب أن تكون لكل إنسان وعصر.
بغياب الدكتور، يغيب من حياتنا رجل كان رمزا للأمل وللمختلف، عاش وعمل وأبدع بطريقة جعلت منه مجسدا لروح عصره، التي جعلها إبداعه باقية على مر الأيام!.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved