الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 24th July,2006 العدد : 163

الأثنين 28 ,جمادى الثانية 1427

(القارورة) ليوسف المحيميد
من الحكاية إلى المحكي 2-2
يؤثر هذا الوضع في ملفوظات السارد الغائب، ويخلخل موقعه، ويدفعه باتجاه طرح السؤال حول راهنية موقعه. يدعم هذه الخلخلة حضور لغات مرافقة مثل لغة المنشور (ص 82) الذي تم توزيعه في مظاهرة قيادة النساء للسيارات، ونلاحظ أن الحوارية قد تعمّقت في مستوى الحكي عن حدث قيادة النساء للسيارات، حيث تداخلت لغات المجتمع الرافض بلغات المدافعات عن فكرة الثورة على منع النساء من قيادة السيارات، بلغة الساردة منيرة التي كانت تقوم بوظيفة تهيئة مناخ حواري عندما تطرح أسئلة هي أسئلة المجتمع السعودي المحافظ، الذي لا يقبل أن يرى امرأة تقود سيارتها. ثم إجاباتها وإعطاؤها تبريرات وتفسيرات للغة المنشور.
(ثلاث عشرة سيارة تقودها ثلاث عشرة امرأة، ومع كل واحدة منهن راكبة أو اثنتان أو أكثر) (ص 85).
يتم خدش ملفوظات الغائب، بل بترها عبر جرأة ضمير المتكلم، ويتم ذلك من طريقة تسريد منيرة لحكايات الآخرين. مثل تسريد حكاية ميثاء (ص 108) التي خرجت عن سلطة وصايا ضمير الغائب. ومن شكل الحكي يتضح أن منيرة متعاطفة مع ميثاء، لأن هذه الأخيرة وإن قامت بجريمة قتل زوجها، فإن منيرة تجد لها العُذر في ذلك. ونفس الشيء حدث مع باقي الحكايات التي استمعت إليها منيرة في دار الفتيات حيث تعمل، ولعل طبيعة شخصية منيرة التي تملك قدرة تطويع الحكاية سرديا قد أثرت على وضعية السارد الغائب الذي يتعامل معها مرة بشكل رسمي، يكاد يتميز بالنقل الموضوعي للمعرفة يقول ضمير الغائب: (بينما الإخصائية الاجتماعية منيرة الساهي تحاول...) (ص 122) وعندما يجدها وقد توغلت في تبرير ما يحدث في مجتمعها من جرائم ترتكبها النساء ضد أزواجهن، فإنه يتدخل ليحاورها وينتقدها. لكن دون الدخول في اصطدام أو إقصاء لوجهة نظرها مثل: (ألم يكن العرب قديما يتراجعون عن سفر أو مهمة أو ما شابه، وهم يستدلون على ذلك بالعلامات ألم يكن أهل الصحراء يتلقفون العلامات كي تهديهم في حياتهم وطرقهم المتشعبة؟ كيف لم تنتبه منيرة الساهي إلى علامة كتلك، وهي تشارك في تحقيق مع فتاة مراهقة ومستغلة؟ لتتحول هي بدورها إلى امرأة تقع في حبائل ابن الدّحال، الذي يفوق هذا المتسرع خبرة ودهاء وتكتيكا) (ص 121).
والملاحظ أن ضمير الغائب فيما هو يحاور تبريرات وتحريات الإخصائية الاجتماعية منيرة الساهي، لا يوجه إليها خطابه بشكل مباشر، وإنما يتعامل معها ضميرا غائبا. ونفس الشيء يحدث مع منيرة ولهذا فإن الحوارية تحدث بين الملفوظات في المستوى السردي.
كما أن الغائب يقدم أحيانا معرفة لا تعلمها منيرة (مثال ص 167)، مما يزكي وضعية الساردة منيرة التي يتشكل موقعها سرديا داخل المجال النصي أي داخل التخييل.
3- التخييل الروائي والصور البديلة.
إذا كانت حكاية (القارورة) تعلن عن واقع يجعل من التفكير حول المرأة جامدا ولا تاريخيا، مادامت إمكانيات التعبير مقيدة التداول، وما يزال يتم ترديد نفس الوصايا التي تجاوزها إحساس المرأة، وثقافتها بل أيضا التحولات الداخلية والعامة، ويظهر ذلك من الشخصيات النصية مثل أخي (منيرة) محمد الذي اعتبر كتابة منيرة للزاوية الصحفية ورد في آنية سببا في جعلها تخرج عن منطق الأعراف، وتمارس أفعالا لا يسمح بها الوسط الاجتماعي، واعتبر ثورة النساء في قيادة السيارات خارجة عن القانون والشرع. إذا كانت الحكاية تدعم منطقها الأفقي لهذه المظاهر، ولغيرها فيما يخص ضرورة حرص المرأة على استهلاك الصور الجاهزة، فإن الخطاب - والذي نعني به طريقة سرد الحكاية - قد خرق منطق هذه الحكاية، وكسر الصوت الواحد، المدبر لشأن المعرفة العامة والخاصة، واتضح ذلك في وضعية السرد الروائي. تشخص هذا التحول عبر مستويات عديدة حوّلها السردي من ثابتة بموجب مقتضيات الذاكرة، والأعراف، والتقاليد، إلى صور مغايرة جعلت التخييل الروائي في (القارورة) يطرح إمكانيات التغيير في الطروحات والمفاهيم وكذا الصور ولعل أوضحها صورة المرأة التي تتحول من موضوع حسب الحكاية إلى ذات فاعلة حسب مقتضيات السردي الذي ينتصر للمواقع المسكوت عنها في الحكاية.
تتلقى (منيرة) عبر مستويات الحكاية دروسا في الامتثال إلى الصور الجاهزة حول المرأة باعتبارها أنثى عليها أن تتلقى المعرفة دون أن تسأل، حتى الحب دون أن تطلبه. هكذا، شربت الدرس الأول من الأم منذ الطفولة (كنتُ أنثى، مجرد أنثى مهضومة الجناح كما يراني الناس في بلادي، أنثى لا حول لي ولا قوة، كنتُ أتلقى فقط، كالأرض التي تتلقى المطر وضوء الشمس والفأس! فعلا كُنتُ مستلقية لا أملك أن أنتصب مثل ذكر! كنتُ أتلقى كل شيء بخنوع، حتى الحب لم أبحث عمن أحب، ولا يحق لي ذلك أصلا) (ص70)، ولكنها انحرفت عن الدرس، عندما أحبت، وتجرأت على التعبير عن مشاعر الحب لابن الدحال الذي جعلت منه زمنا لاستنشاق هواء الحب (لقد سال عسلي بغزلك، وقصائدك، وخفَّت حمامتاي إلى الهوى الحر، واضطرب قلبي مثل مراهقة في السادسة عشرة، وأكلت صوتي في فمك مثل علك المسكة الذي تلوكه باستخفاف) (ص. 63).
وعندما استهوتها القراءة بدل أدوات التجميل، وغامرت في الكتابة بدل قبول أول طارق يطلبها للزواج، وأعلنت خروجها للملأ عندما أعلنت اسمها في زاويتها الصحفية (ورد في آنية) (فكان ظهوري للخارج، وبزوغ اسمي لعنة على أهلي ورجال قبيلتي، وهاأنذا أحلم بأن أنجز بحثي ودراستي كي أتحرر من قيد الداخل) (ص 71).
بل عمقت انزياحها عن الدرس، عندما بدأت تكتب مذكراتها لكي تستقيم. (سأدفع النقص وارتقه بالكمال) (ص 72). ولكون منيرة، قارئة بامتياز، فإنها تملك القدرة على التفكير والتحليل والتأمل أيضا. ولهذا، كانت ترفض بداخلها الصورة الجاهزة حول المرأة. فقد حاول والدها أن يبعدها عن الخارج بأن ملأ غرفتها بالكتب، فإذا به جعلها أكثر انفتاحا على العالم الخارجي (أن أفكر وأبحث وأتساءل، فهذا يعني أنني بدأت أنبجس نحو الخارج) (ص 71). وهي بذلك، فقط عطلت مختلف التوجهات الآمرة التي كانت تسعى جاهدة لإدخالها في معنى الأنثى السائد.
كما أنها انتصرت سرديا على منطق القضاء بالسخرية من خطاب القاضي، الذي كان عليه أن ينشغل قانونيا بقضية زيف زواج ابن الدحال منها، فإذا به ينحرف عن جوهر القضية ويجعل من أظافر (منيرة) الطويلة سبب الخراب (كان القاضي قد تجاهل المأساة بأكملها، ووجد أن الجاهلية الأولى - كما قال لأخي - في أظافري الطويلة، كان الخراب في المدينة كلها في أظافري الطويلة أظافري الطويلة التي انتقدها القاضي بشدة هي سبب خراب المدينة) (ص 200).
كما أخرجت (منيرة) حكايات الفتيات من نطاق الوظيفة الاجتماعية بدار الفتيات، إلى مساحة التعبير المكشوف، وذلك عندما أخرجت حكاياتهن من الملفات المسكوت عنها، إلى الكتابة عنها.
لم تخضع (منيرة) لمنطق الصور الجاهزة، وإنما غردت خارج السرب المعتاد، لتحدد شكلا معينا من علاقتها بذاتها ثم بالعالم من حولها، عبر تبني منهجية المقاومة ليست فقط لهذه الصور، وإنما لمقاومة الأزمة التي تسبب فيها الحبيب الخائن. فعلى الرغم من ثقل الخيانة على (منيرة)، فإنها لم ترتد على خيارها، ولم تعلن تراجعا عن تبني الصور البديل، كما أنها لم تخضع لمنطق القبيلة في ضرورة الاستسلام وطلب السماح والمغفرة على سلوك الانزياح، خاضعة من جديد لأوامر الأعراف ووصايا القانون، خاضعة لما تشربته منذ الطفولة، بأن تظل حبيسة مقاس الأنثى كما يُراد لها. موضوعا مفعولا به، منظورا إليه، متكلما عنه، وإنما انتفضت من قلب رماد الخيانة شعلة قاومت بإخراج حكاياتها المتناثرة في القارورة العتيقة ذات النقوش الهندية الفضية أشكالا من الوعي التي ترغب أن يبقى الفرد في المجتمع أسير صور ثابتة. كما فضحت زيف الطروحات الاجتماعية (الأسرة، القبيلة) والقضائية حيث طرحت أسئلة حرجة على المنطق القانوني لمنظومة الزواج، وعلى إجراءات القضاء.
عبر هذا التحول في موضع المرأة سرديا، تكون القارورة قد ألهمت القراءة بإمكانية وعي ناضج، ينتفض عبر التخييل ليحاور وبمرونة واقع الوعي القائم، الذي مازال يحاصر المرأة ضمن الموضوع المفعول به. و(القارورة) بهذه الإستراتيجية السردية قد تربك بعض التوجهات النقدية التي تشتغل في إطار كتابة المرأة، معتبرة أن المرأة - الكاتبة مؤهلة أكثر لمقاومة الصمت عن خصوصية وضعها، حين تتمثل اللحظة النسائية وترقى بها إبداعيا. في القارورة نجد أن الروائي (المحيميد) قد جعل المرأة ساردة حكاية مجتمع بامتياز، امرأة تحكي ذاكرتها، وتاريخ صمتها، وتكتب حكاياتها وحكايات الأخريات وعبرهن تستفز جمود الصور المألوفة، وتدفع بالسؤال للاشتغال في ميدان المفاهيم (الحب، الزواج، المرأة، الرجل..) والقانون (القضاء، مؤسسة الزواج.. قيادة النساء للسيارات...).
بهذا فإن (القارورة) للروائي يوسف المحيميد تشخص حالة صراع رمزي بين السلطة الآمرة التي تقنن باسم الشرع والأعراف والذاكرة والقانون الحياة العامة والخاصة لأفراد المجتمع، وبين الوعي المنفلت الذي يقترح عبر صوت المرأة شكلا مختلفا للحياة، من خلال الإعلاء من شأن الإرادة الذاتية، والارتقاء بالخيار الذاتي إلى لحظة تفجير معنى مختلف للوجود كما أن (القارورة) تنتج بهذا التوجه الفني - الثقافي دورا وظيفيا للرواية في حياة الأفراد والشعوب.


د. زهور كرام *
* ناقدة وروائية من المغرب

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved