الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 24th October,2005 العدد : 128

الأثنين 21 ,رمضان 1426

كيف تُخرس إعلامياً؟
ماجد الحجيلان

الإعلاميون يعرضون عقولهم وأجسادهم على الناس، وهم أكثر الناس استفزازاً للسياسيين والأيدلوجيين، إذ يرون فيهم مصدراً غير ناضب للإزعاج والتوتر، ويتعرض الصحافيون والإعلاميون حول العالم لمضايقات كثيرة، تبدأ من حجب المعلومة وتنتهي بالتصفية، ولكل مجتمع ودولة ومؤسسة طريقة خاصة في تأديب الصحافي، وهذه سنَّة كونية طبيعية فلا ينتظر من الجميع أن يتقبلوا الحقيقة كما هي عاريةً، فهناك من يفضِّلها محتشمة قدر المستطاع، هذا فضلاً عن أن هناك قطاعاً عريضاً من العاملين في الإعلام والصحافة يتوسعون في فهم حرياتهم حدَّ الوهم والطوباوية.
وما حدث للسيدة مي شدياق التلفزيونية اللبنانية أخيراً، وإن جاء في سياق ظروف سياسية لبنانية (وسورية) معقدة، إلا أنه مثال رصين ومتماسك على حساسية مهنة الصحافة والإعلام، ذلك أنه - أي الإعلامي - بين نارين، أن يخون ضميره ومهنته بتأدية رديئة أو مزيفة، أو أن يعرّض نفسه وكرامته وقوْته دوماً لمهب الريح وذمم المأفونين ممن يتسلطون على الأجهزة والإعلام، وقد اختارت مي وقبلها سمير قصير، وقبلهما كثير في بلدان عربية ومهاجر، الخيار الذي لا يؤثر السلامة.
لن يشفي مي الآن نصائح السياسيين اللبنانيين للقاضي ميليس بضم قضيتها لملفاته، ولا أن يدعو لها الشيخ بطرس حرب بالسلامة، ولا أن يعتقد غسان شربل أن في قيامة لبنان وشفائه عزاءً لمي، لن يعوّضها عن يدها وساقها ألف قيامة وتحقيق ومقال وتأبين، ولا يجب أن تقاس الخسائر والمكاسب الشخصية بتلك الوطنية لتصغيرها وتحقيرها ففي ذلك ظلم للمغدورة وللوطن المغدور معاً.
والإعلامي الذي سلاحه كلمة أو صورة، لا ينجو ممن يبارزه بأسلحته الثقيلة أو بدبابته أو بعشرين إصبعاً من الديناميت لمحوه من الوجود، لكن هناك أيضاً من يجتهد لمحوه من الذاكرة وتحقير نضاله ومهنيته أيضاً، وهم الإعلاميون والكتَّاب في الاتجاه الآخر كما فعل غسان الإمام بسماجة لم يكن أحد يظن أنه يتوافر على نصفها، فبينما كتب سيل من المقالات لتأبين سمير قصير والمطالبة بحماية الصحافيين، وقبل أن تجف دموع جيزيل خوري على زوجها، تطوّع غسان الإمام للتنقيب في سيرته عمّا يشوّه صورته ويكون مبرراً (سياسياً) لتصفيته، فدمغه بشبهة العمالة والعرفاتية والمخابراتية... قد يكون غسان مخطئاً أو لا يكون فليس هذا موضع نقاش نزاهة صحافي من عدمها، ولكن أن تورد تلك الصفات في معرض مرافعة غسان لتسفيه أحلام كل من حزن لاغتيال قصير بهذا الشكل الجبان، فذلك أمر يثير الاشمئزاز ويكرر الجريمة بتبريرها وتشريعها وسن قوانين لمثلها، ثم لماذا يأتي غسان الإمام متأخراً ليستحلب كل هذا الكنز من المعلومات الاستخبارية؟ أين كانت هذه التهم حين كان قصير ملء السمع والبصر يصفي حساباته مع الأجهزة على صفحات النهار؟
ويبدو أن الإمام لم يجد من الصحافة اللبنانية إلا التجاهل والازدراء فمضى على هذه السنَّة من نبش قبر قصير إلى الرقص على جسد مي شدياق الممزق الذي وصفه في مقالة خاصة بضآلة القسط من الجمال وأن المذيعة الشقراء زبونة أطباء تجميل، ومضى يستعرض مواقف المحطة اللبنانية والمذيعة المستفزة ذات الميول السياسية التي لا تخفيها، وقد وجد فيها مبرراً وجيهاً لمحاولة الاغتيال ساخراً من دموع الباكين متطوعاً بتقديم منديله للخدود الملتهبة قهراً وقلة حيلة.
كان يمكن لغسان الإمام وأي إعلامي أو سياسي آخر أن يناقش مواقف المذيعة ومحطتها (لا جسدها طبعاً) وأن يدحضها كيف شاء في حينه، وليس ضعف ورداءة الإعلام الذي ربما يمثل رأيه بذنب يمكن تحميله لوسيلة إعلامية منافسة أو مذيعة لا تملك سوى المايكرفون في عروة بلوزتها، وليس لديها سيارات مفخخة ولا أزلام تكلِّفهم بمهام لانهائية الرأفة والتسامح.
قد تخطئ مي أو تصيب في آرائها لكنها لم تتجاوز أبداً نقاشاً في برنامجها الصباحي وأسئلة في نصفها الكثير من البساطة والسطحية، وليس وصف غسان لها بالانتماء المسيحي أو الحبيقي أو القواتي مبرراً كافياً لحشو مقعد سيارتها بما يتكفل بصمتها إلى الأبد، والغريب أن غساناً (لا يشاهد برنامجها، وهو من الفصيلة الصحافية النادرة التي لا تملك تلفزيوناً) حسب تعبيره، وهي موضة يصرعك بها أساطين الفكر بأنهم لا يتابعون التلفزيون لكنهم يتطوّعون لتقييمه بشكل مثير للشفقة.
ويختم مقالته بالاعتراف بأن مي وسمير قتلتهما قضية سياسية واحدة في اتهام صريح يتفق مع وجهة نظر المغدورين، ويتحسر غسان على ميليس ويتوعّده بأن يبقى اغتيال الحريري لغزاً، ويطلب من لبنان أن يصمت وأن ينام على وسادة في ليله الطويل.. كل هذا الكم من الاستفزاز دعا ديانا مقلد الإعلامية اللبنانية للاحتجاج على مقالته لا الرد عليه، حيث وصفتها بالغمز السخيف الذي لا يستحق الإدانة، بل المحو من الذاكرة.
لا وسيلة لإسكات الصحافي إلا بشرائه فإن لم يستجب فبتهديده فإن لم يفعل فبتأديبه فإن لم يرعوِ فلا بد من قطف رأسه. ومن المحمودات أن هناك أماكن يندر فيها أن يتعرض الصحافي والإعلامي للاعتداء البدني وهذه فضيلة من فضائل يُخَصُّ بها الصحافي، غير أنه يتعرض للأصناف الباقية من الاعتداءات التي قد يكون البدن أهونها، فلا أيسر من قطع رزقه واتهامه في دينه وولائه وعقله، والاعتداء على عيشه ونفسه وسلبه حريته الجسدية والفكرية. يستطيع أي جاهل أي محدود أي صغير أي متعصب أي محتكر، أن ينغّص حياة صحافي بسبب تحقيق أو كاتب بسبب مقالة أو مذيع بسبب برنامج...، بهاتف واحد يجريه على الصحيفة أو الإذاعة أو المحطة أو المؤسسة الإعلامية، برسالة هاتفية قصيرة يتهم فيها الصحافي باستفزازه بالاعتداء على ما يظنه مقدساً، يصمه بتوجه سياسي أو فكري (ضال)، ثم يذهب لشأنه بينما يدخل الصحافي في دوّامة قد لا تنتهي أبداً من الظنون والشكايات والأوراق الرسمية، ومن يعرف كيف تبدأ الوشايات ورقة تافهة أو فكرة مريضة أو خاطرة ضحلة تتحول بعد فترة إلى لجان ومذكرات وشروح وآراء واتهامات كبرى. بدأت بفهم سقيم أو تأويل متعسف بدلاً من محاصرته وردّه أو مناقشته ودحضه يحوله اهتزاز الثقة بالنفس والرعب ممن يتوسل بالمسلمات إلى أغلال تقيد الصحافة والثقافة والإعلام وحرية الفكر والإنتاج.
وبينما تسجن الأمريكية جوديث ميللر لرفضها الإفصاح يعاقب صحافي في مكان آخر من هذا العالم بسبب فصاحته. وفي اليمن قبل أيام أعلن (مركز التأهيل وحماية الحريات الصحافية) ارتفاع نسبة الاعتداءات الجسدية بحق الصحافيين بنسبة تجاوزت 9% عن عام 2004م وسجل عدد الاعتداءات وصنّفها، هذا عن الجارة اليمن لا عن أي بلد آخر عربي أو غربي، فكم مركزاً كم (هيئة) راقبت حقوق الصحافيين والإعلاميين وأصدرت بياناً أو إحصائية أو تقريراً سنوياً حول الحريات الصحافية وحقوق الإعلاميين، حتى يشعر الممارس بقيمة مهنته وجدوى عمله وجدية مجتمعه وشفافيته.
عشرات من الزملاء رأوا ما رآه عبد الحليم قنديل، أو هان بالمقارنة معهم السؤال المرّ عن رضا هلال، كتَّاب وشعراء ومبدعون نُبذوا من المجتمع والوظيفة بسبب قراءة بليدة لقصيدة أو مقالة أو رأي، ولم يُجْدِ بعضهم أن كان له صوت جهير كصوت (الجزيرة) وله حزن أعمق من تراجيديا تيسير علوني!


hujailan@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved