الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 24th October,2005 العدد : 128

الأثنين 21 ,رمضان 1426

مع ألبير كامو وعالم العبث والتمرد «1-2»
أ.د.عبد الله الشعلان *

لخَّص الروائي والفيلسوف الفرنسي البارز البير كامو الذي مُنح جائزة نوبل للآداب سنة 1957م وهو لم يتجاوز الرابعة والأربعين من عمره، لخَّص مجمل إبداعاته في رواياته وأبرزها: (الطاعون، الغريب، الوجه والقفا، أعراس، أسطورة سيزيف، الإنسان المتمرِّد) على أن على الإنسان أن يجمع بين االفوضى والرتابة وبين العقل والجنون وبين التوتر والاستقرار ويكون سلاحه في ذلك هو التمرد.
والبير كامو ولد في مدينة موندوفي من أعمال محافظة قسطنطينة بالجزائر عام 1913م، وبعد أن توفي والده في الحرب العالمية الأولى انتقل مع والدته إلى الجزائر العاصمة ليقطنا في أحد أحيائها الشعبية المتواضعة، وحيث أبدى نبوغاً وتفوقاً في دراسته فقد تمكن من إكمال دراسته المتوسطة والثانوية، وفي هذه المرحلة أصبح شغوفاً بالرياضة وبخاصة كرة القدم، ولكن ولعه ذاك بتلك الرياضة لم يدم طويلاً، حيث أصيب بداء السل وهو في السابعة عشرة من عمره وفي نفس العام (1930م) الذي كان الفرنسيون يحتفلون فيه بالذكرى المئوية لاحتلالهم الجزائر والذي استمر مائة واثنين وثلاثين عاماً (1830 - 1962)، الأمر الذي جعله يتخلَّى عن مزاولة رياضته المحببة وبالتالي يتوجه نحو الاهتمام بالأدب والكتابة، ولقد اصطبغت توجهاته في الكتابة بمقته الشديد لأساليب القوة والعنف والسيطرة وإدانته للاستعمار الفرنسي للجزائر ويتبدى ذلك في قوله: (إن أكبر معركة يجب أن يخوضها الإنسان هي معركته مع نفسه، معركة ينتصر فيها حب العدالة على شهوة الحقد). إن مولده وترعرعه في بلد المليون شهيد جعله أكثر ميلاً له وتعلقاً به وتفاعلاً معه فطفق يدعو إلى تمرد الجزائريين في وجه الاستعمار الفرنسي فيعلن موقفه الواضح بقوله: (إن نفوس الفرنسيين مليئة بالحقد وهو حقد أسود أرفض أن أشارك فيه، لقد كلفتنا هذه القضية كثيراً وما زالت تكلفنا، فليس لشعب أن يستمد حريته من استعباد شعب آخر).
ولقد بدأ اهتمام كامو بالأدب والكتابة ذلك الاهتمام الذي زرعه فيه أستاذ مادة الفلسفة لوسيان جيرمان الذي أذهلته مواهبه ونبوغه فقدمه لنيل منحة الصف الثانوي إبان دراسته في مدرسة جان جرانيه في الجزائر، ولقد بدأ هذا الاهتمام ينمو ويتزايد بعد أن أنهى دراسته الجامعية فقام بنشر أول كتاب له: (الوجه والقفا) وهو عبارة عن كتابات قصصية قصيرة ذات طابع وجداني، ثم أصدر كتابه الثاني: (أعراس) وله أيضاً نفس الطابع القصصي الوجداني، ثم بدأ اسمه يلمع على المستوى الأدبي بعد صدور روايته الأولى (الغريب) سنة 1942م، ثم توالت مؤلفاته بعد ذلك تباعاً فنشر رواية (أسطورة سيزيف) و(الخطأ) و(كاليجولا) و(الطاعون) و(حالة حصار) و(العادلون) و(الإنسان المتمرد).. إلخ.
أخذ اسم البير كامو يلمع في سماء الصحافة والإبداع الفكري وصار الكثيرون يعرفون هذا الاسم وبخاصة في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وللبعض ممن لم يكن لهم اهتمام خاص بالإنجازات الأدبية كان اسمه يعني ذلك الشاب المناضل النشط في حركة المقاومة الوطنية السرية الفرنسية ضد الاحتلال النازي الذي اجتاح العاصمة باريس وأناخ بكلكله عليها قرابة أربع سنوات، ومع أن كامو لم يتعد أواسط عقده الرابع إلا أن ما أنجزه في حقلي الصحافة والأدب يعد شيئاً ذا بال، فقد كتب روايات وقصصاً ومسرحيات تتسم بالتميز والأصالة وتجسد تجاوباً وتجاذباً مع الحياة المعاصرة، ولكون البير كامو ولد ونشأ وترعرع في بلد مثل الجزائر تنتمي إلى القارة الإفريقية فإنه يحمل شعوراً قوياً وإحساساً دافقاً نحو بلاد شمال أفريقيا يليها بعد ذلك بلاد اليونان، حيث إنها البلاد التي وجد فيها فضائل الأصل الذي يرجع إلى إقليم البحر المتوسط، ولقد برز ذلك الشعور واضحاً في مقال كتبه عن اليونان عام 1948م وازن فيه بين الحضارة الرعوية التي تميزت بها اليونان وبين الاضطراب المدني الذي تتسم به أوروبا الحديثة، كما نوه بموقف الاعتدال والتشكك الذي اتسم به الفكر الإغريقي القديم - وفقاً لمفهومه - وذلك في مقابل ما يسميه بالنزوع نحو المطلق في الفكر الحديث. وتفصح مقالات كامو عن سمتين بارزتين: نزعة عبثية فطرية وأخرى تأكيد دائم على معايشة المرء لبيئته معايشة مادية، ويناقش كامو في هذه المرحلة بصفة أساسية كلا السمتين من منظور الإحباط الفكري من جهة واللذة الحسية من جهة أخرى، ولا يزال دؤوباً على ذكر علاقة التضاد بين (رهبتة للموت) وبين (ولعه بالحياة) ملتمساً التوفيق بين التجربتين طريقاً وسطاً بين المواقف المتطرفة في كل من التفكير والسلوك. وقد كان اليونانيون على وعي تام بهذه الثنائية الحياتية المتباينة، لذا عملوا على إيجاد طرائق من التفكير تعمل على التقابل المأساوي بين الضدين، وهكذا نرى كامو يلجأ لليونانيين يلتمس عندهم التأكيد على حقيقة المشكلة ويتطلع إلى أفضل حل ممكن لها، وفي رأي كامو أيضاً أن الفلسفة اليونانية كثيراً ما كانت تعرف نفسها بالإشارة إلى الحدود المتعارضة وبالتالي تتيح للوعي الواضح بالأطراف المتناقضة مثالاً من الاعتدال من شأنه أن ينطوي على كلا الطرفين، بل يستطيع أن يقلّل من الصراع القائم بينهما، وكان بمقدور كامو أن يدخل عنصر التلوين المتجدد على المقالات والمسرحيات الأولى التي كتبها، وذلك في بحثه عن موقف معتدل بين الرغبة في الحياة والفزع من الموت وبين انتشاء الحس وصرامة العقل وبين النزعة الفنائية ونزعة التشكك، ولقد تمخض عن الخلط بين الانتشاء والإحباط في آخر الأمر أن أتيح لكامو الحصول على أساس للتمرد ولو أنه أفضى به في بادئ الأمر إلى موقف وقتي من الإذعان والانعزال، ولقد أعطى كثير من قراء كامو قدراً كبيراً من الأهمية لما اتسمت به نظرته التشاؤمية من حدة وعنف، ومن أبرز سمات هذه النزعة أنها تبلورت في جوهرها على خلفية من الإشراق الذي يتسم به إقليم البحر المتوسط، لقد أولى كامو الاستجابة الشخصية للسعادة أهمية كبرى فجعلها محوراً لما تناوله من موضوعات، حيث قال في لقاء تم معه: (عندما أحاول اكتشاف أهم ما يقبع في نفسي ويتأصل في ذاتي فلا أجد إلا اشتياقاً للسعادة، كما أجد في صميم مؤلفاتي إشراقاً لا ينطفئ).
ينتمي البير كامو إلى التيار المتوسطي ففي كتاباته المختلفة حاول أن يثبت أن ثمة تياراً متوسطياً على المستوى الحياتي وعلى المستوى الفكري، ولم يكن هذا التيار الوحيد الذي عرفته الجزائر الفرنسية، فإلى جانبه كان هناك تياران اثنان: التيار اللاتيني والتيار الجزائراني، وكانت سمات الأدب الفرنسي في الجزائر تبدو في مطلع هذا القرن من خلال التيار اللاتيني، وكان هذا التيار يستند إلى فكرة (استعمارية) بحتة ألا وهي ربط الجزائر بفرنسا من خلال التاريخ اللاتيني المشترك وإثبات الهوية اللاتينية والتاريخ الجزائري معاً، وقد حاول البير كامو من جهته أن يبلور مفهوماً متوسطياً خاصاً به في مقالاته وأدبه وفكره الفلسفي ويصر على تكريس أهمية الفكر المتوسطي والنظرة المتوسطية إلى الحياة، لذا أصبحنا نرى أن ما نجده لدى الكتّاب المتوسطيين المختلفين نجده لدى البير كامو، حيث أضحى مثل سواه يتحدث عن البحر ويجد في المتوسط انتماء حضارياً لا انتماء جغرافياً فحسب، وعندما يتحدث عن المتوسط إنما يتحدث عن نمط حياة مختلف عن نمط الحياة الأوروبية، فبالنسبة إليه يكتسب المتوسط أهمية خاصة من خلال موقعه الجغرافي ولكنه يتناقض كلية مع الشمال الأوروبي. إن أية قراءة لأدب البير كامو والتعرّف على سماته وفكره الفلسفي يوحي بوجود ثنائية لديه ألا وهي (ثنائية الاضداد)، إنه يتكلم عن الشمال والجنوب، عن الخير والشر، عن الجمال والقبح، عن الفقر والغنى، عن الشمس والظل، عن المنفى والملكوت، وهذه الثنائية تولد قضية في أدبه، ويريد بها أن يدافع عن الحرية في وجه الظلم وعن العدالة في وجه الجور وعن التسامح في وجه الطغيان.
ولئن كان كامو فلسفي النزعة فمن الواضح أنه لم يكن معنياً بمصطلحات الفلسفة الفنية ومفرداتها اللغوية، إذ لم يشعر أن لديه حاجة إلى هذه التحفظات الفكرية أو التشعبات المنطقية، كان فكره يصدر مباشرة من خلال صور قوية يربط فيما بينها بموقف شخصي يبثه بلغة الإنسان العادي ومعقوله العام، وهذا هو الذي ميَّزه عن الفلاسفة المنهجيين كجان بول سارتر وأندريه مالرو وجورج هيجل وغيرهم بحيث كان الجدل معهم ضرباً من العبث. إن روايته (الوجه والقفا) تحدد معالم كون خفي، فانتقاء الصور والمشاهد عام وشخصي، والامتداد الذي أعطاه كامو لهذا العالم النفسي يعتمد بالضرورة على قدرته الخيالية على تجديد هذه الصور والمشاهد، فهذه الصور متوترة ومقولبة ولا مجال فيها للاستطراد أو الاسترخاء، وبذا تفرض نفسها بقوة على خيال القارئ. والتأملات التي يحوكها كامو حولها تؤكّد توترها وتماثلها في الأساس وتكاد تحولها إلى أمثلة محددة دون أن تكون فكرة مجردة، وهذه المعالجة التحكمية الصارمة لموضوعات هي في الأصل عاطفية وصورية من خصائص كامو وميزاته. كان بالإمكان أن يؤدي افتتان كامو الشاب باندماج العبث والتمرد معاً في حياة الإنسان وسلوكه إلى نظرة ساخرة نحو الإنساينة، ورغماً عن عزمه على أن يكون (شاهداً)، فإنه في كتابه: (الوجه والقفا) سجل أيضاً إغراء خاصاً به، إغراء تغلب عليه سمة المقالات نفسها ولكنه إغراء جعل كتابتها ضرورة له، حيث يتمثَّل الحزن الدفين في رفض أية محاولة للفهم، وبالتالي رفض أية صلة قد تجمع بينه وبين عالم البشر، ففي بعض فقرات هذا الكتاب موجات عارمة من الحب ولكن فيه أيضاً انفصالاً ذهنياً يندر أن يوجد في شاب مثله لعل مرجعه الفقر والمرض اللذين عانى منهما في مستهل حياته، لقد ألفى كامو نفسه تسوّل له الاستسلام والإلقاء بنفسه في نشوة من التمتع بجمال الحياة، وهذه الغواية يمكن أن تتبدى بيِّنة في مقالاته الأربعة من كتاب (أعراس)، إذ تكشف عن طاقة كامو ككاتب وعن المشكلات التي صادفها وتصدى لها وعانى منها، لقد محا من عالمه قطاعات واسعة من التجربة الإنسانية، كما محا قطاعاً آخر هو قطاع التحليل النفسي، فلم يكن لتعقيد الدوافع الإنسانية وظلال المشاعر الدقيقة إلا أضيق حيز في عالمه، الأمر الذي جرَّده من أولياته الأساسية.


* جامعة الملك سعود

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved