الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 24th October,2005 العدد : 128

الأثنين 21 ,رمضان 1426

الثقافة العربية المعاصرة
د. أحمد برقاوي*

تُرى ما الذي يجعل من الهوية والاختلاف في الثقافة العربية المعاصرة مشكلة للبحث والدرس؟
أطرحُ قولاً كهذا في الوقت الذي تتصف فيه كل ثقافات العالم بمثل هذه الظاهرة. ولا تبرز فيها جميعها هذه المشكلة. إني لأعتقد أن هذه المشكلة ما كانت لتبرز على هذا النحو الظاهر لولا الإحساس المتنامي للعرب بأن وحدتهم القومية - التي تبدو كمشروع معوَّق - لا تكتمل في صيغتها السياسية - إلا بإنجاز وحدة ثقافية تأتي على تنوع هو في الظن عامل سلب لها.
فتوزع العرب إلى دول قطرية، وما ينتج عنه من اختلاف سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، ووجود أقليات إثنية يبرز وعيها الذاتي في لحظات ترهل الكفاح السياسي العربي، وانشطار بعض المجتمعات العربية إلى ملل دينية تأخذ صيغة البنى المعادة ذات تعبيرات إيديولوجية، والعلاقة مع الغرب المتقدم التي تواجه بتحصن بالهوية الثقافية بدواعٍ أن هناك غزواً ثقافياً ينال من الثقافة القومية. والتناقض بين ثقافة تقليدية وثقافة حديثة. كل ذلك يقف وراء تحول الثقافة إلى مشكلة انتجت جملة من المفاهيم المتقابلة: الثقافة القطرية والثقافة القومية، الثقافة الأصلية والثقافة المعاصرة، الثقافة القديمة والثقافة الجديدة، الإسلام والغرب، التراث والتجديد، الاستشراق والاستغراب.. إلخ.
أما نحن فسندخل مدخلاً آخر في بحث هذه المشكلة.
مدخلنا يقوم على نقطة انطلاق أولى مفادها: أن وجود الثقافة سابق على هويتها - أو ماهيتها. ولما كان وجود الثقافة أمراً تاريخياً، فهوية الثقافة هي الأخرى تاريخية.
إذا الهوية سيرورة لا تكف عن التعين، والنظر إلى الهوية الثقافية باقتلاعها من تاريخيتها فعل متناقض كلية مع منطق الثقافة ذاتها.
ولا شك أن الثقافة في لحظة ما هي هوية بوصفها بنية، ولكن ان هي إلا لحظة... حتى تلك المجتمعات الراكدة تاريخياً لا تستطيع الإفلات من عملية تفتيت بنيتها الثقافية. والأمر أكثر سطوعاً من حيث التغير في المجتمعات الحيوية، التي لا تنفك تعيش تناقضاً متعدد الأوجه يعين على نحو مستمر حالها الثقافي.
إن ذلك لا ينفي إطلاقاً استمرار صلاح مفهوم الثقافة القومية معرفياً، للتعبير عن خصائص ثقافة أمة محددة في زمن محدد من تطورها.
وذلك: ان الثقافة القومية هي جملة من السمات النفسية - الروحية والقيمية واللغوية، والأدبية يحضنها شعور مشترك بالانتماء يخلق الوعي بالتمايز يتكون تاريخياً.
تعريف كهذا لا يشير إطلاقاً إلى هوية مطلقة نشأت لمرة واحدة وإلى الأبد.
ولكن الثابت في هذه السمات أمران: اللغة والشعور المشترك بالانتماء كعنصرين لا ينفصلان ويعطيان للهوية ديمومتها، على الرغم من اغتنائها الدائم. فاللغة بدون شعور مشترك بالانتماء ليست عنصراً أساسياً في الهوية والشعور بالانتماء يضعف أو يزول دون اللغة مع أنه عنصر أقوى من عنصر اللغة، لأنه مرتبط بإرث طويل من الذكريات والإحساس بالأصل تعززه بعض العادات والتقاليد.
استناداً إلى ما سبق: كيف ننظر إلى وجود الثقافة العربية من حيث هويتها واختلافها.
الثقافة العربية الراهنة - كأي ثقافة حيوية - ذات جانبين متداخلين نسبياً: جانب موضوعي يتكون من مجموعة القيم والعادات والتقاليد والمعتقدات الدينية، تحدد على نحو عفوي أنماط السلوك، وتنتقل من جيل إلى آخر بشكل عفوي - انها ثقافة غير موعى بها وتشكل طبيعة ثانية للإنسان.
وجانب ذاتي - أي صادر عن ذات واعية مبدعة يتلقاه المجتمع عبر وسائل الاتصال المتعددة كالأدب والفن والإيديولوجيا والعلم.. إلخ.. ويحدث تأثيراً في الوعي - وهذا ما نطلق عليه الثقافة الموعى بها.
تتعرض الثقافة العربية في جانبها الموضوعي منذ عصر النهضة وحتى الآن لتغير عميق بدأ بطيئاً وصار متسارعاً وهو تغير لا علاقة للإرادة الواعية فيه مباشرة وذلك بفعل عاملين اثنين:
1- التطور الهائل في أسلوب الإنتاج وما ينشأ عنه من طبقات وفئات اجتماعية وخصوصاً بدخول التقنية الحديثة في الإنتاج، طبقات فئات تعينت مصالحها كقوى حديثة، أسهمت وتسهم في تفتيت البنى الاجتماعية التقليدية كما في تفتيت عالم القيم والنظرة إلى العالم، وعلاقات البشر ببعضهم بعض، وهذا بدوره ألقى بظله على الثقافة الذاتية المبدعة في مجالات الأدب والفلسفة والايديولوجيا أي عالم الفكر بشكلٍ عام.
2- الاختراق المستمر للثقافة الأوروبية التي تحولت بفعل عالمية الرأسمالية - سواء أخذت الرأسمالية صيغة الإمبريالية أو صيغة العولمة - إلى ثقافة سائدة قادرة على الانتقال العفوي إلى الأطراف.
وهذا الاختراق ما كان ليتم إلا لأن العلاقات الرأسمالية ذاتها قد شرعت بالانتصار في أغلب أقطار الوطن العربي.
لكن هذه العملية تمت وتتم على أنحاء مختلفة في كل قطر من أقطار الوطن العربي وفي تعين هذه العملية وفق شروط كل قطر يبرز الاختلاف بما فيه الاختلاف الثقافي.
فبلد - كتونس مثلاً - خضعت بشكلٍ مبكر للاستعمار الفرنسي، ونشأت فيها علاقات رأسمالية بفضل توظيف الرأسمال الاحتكاري في مرحلة مبكرة من القرن العشرين، وهذا ما ساعد على نشوء طبقة برجوازية تونسية متجانسة مع الرأسمالية الفرنسية.
وشهدت تونس كفاحاً وطنياً قادته النخبة من الفئات الوسطى وأنجزته عام 1956م. ثم عملت هذه النخبة على تأسيس دولة حديثة ذات علاقات رأسمالية وتحديث على غرار أوروبي.
عملية كهذه شرعت في تحطيم مؤسسات المجتمع التقليدي ولا سيما الثقافية - القيمية فيها. وهذا ما ولد أشكالاً من الوعي الإيديولوجي الجديد نمت في إطاره مؤسسات حديثة الحزب، الثقافة، الجامعة، المدرسة. والآن يعيش 50% من سكان تونس في المدينة ولم يتجاوز عدد البدو الرحل حتى عام 83م - 300 ألف شخص.
وظلت الروابط الثقافية والاقتصادية بين تونس وفرنسا قوية، فهناك آلاف التونسيين الذين يعملون في فرنسا ومازالوا مرتبطين بالوطن الأم، واللغة الفرنسية لغة منتشرة تصدر بها صحف يقرؤها السكان الأصوليون. وهذا ما يعزز من اختراق الثقافة الفرنسية للثقافة العربية التونسية. فيما بلدان الخليج العربي والسعودية لم ينشأ فيها تراكم رأس المال إلا في مرحلة متأخرة جداً، وذلك بفعل فائض الثروة الذي وفرته عائدات النفط، فتحولت طبقة تملك رؤوس أموال ضخمة، خلقت بدورها فئة كبيرة من الوكلاء للشركات الاحتكارية العالمية ويزداد دخلها بفضل العمليات التجارية التي تقوم بين السوق المحلية والإنتاج الرأسمالي الغربي. ولكن كل ذلك لم يفعل فعله العميق في بنية المجتمع الثقافية، إذ يشكل سكان المدن في السعودية مثلاً 15% فقط من عدد السكان.
ومازالت البنية النفسية للسكان تحتفظ بعناصر من ثقافة المجتمع القبلي، كاحتقار العمل اليدوي وصلات قربى الدم - العشائرية هي الصلات الأقوى.
إن كل ذلك يتم في إطار عملية اختراق ثقافي أوروبي بطيء، بفعل الدراسة في الخارج واستخدام وسائل التقنية الحديثة وتعدد وسائل الاتصال. إن هذا الاختلاف على مستوى تطور كل منطقة يحدد على نحو ما الاختلاف في مستوى الثقافة.
فبينما نرى في مصر وبلاد الشام وتونس والمغرب الحضور الأقوى للثقافة الحيوية واختراق الثقافة الأوروبية يتم بوتائر سريعة، نجد أن بلدان الخليج والسعودية واليمن وعمان وموريتانيا مازالت الثقافة التقليدية المحلية هي السائدة.
وهذا لا ينفي أن الثقافة التقليدية والثقافة الحديثة كعالمين مختلفين تجدان حضوراً لهما في كلا النمطين.
وهذا ما يدعونا إلى القول: إن عملية رأسمالية المجتمعات العربية تسمح لنا بالحديث عن ثقافة مجتمع رأسمالي لا عن ثقافة رأسمالية سائدة.
وهذا يعني أننا في ثقافة المجتمع الرأسمالي العربي نجد ثقافات ما قبل رأسمالية تفعل فعلها إلى جانب الثقافة الرأسمالية مع تفاوت في هذه الظاهرة بين هذا القطر أو ذاك.
أي لم تصل المجتمعات العربية حتى الآن إلى انتصار الثقافة الرأسمالية غير أن الميل هو نحو انتصار الثقافة الرأسمالية.
فمن شأن المجتمع الرأسمالي أن يزعزع الاندراج القبيلي - الديني في الجماعة وينمي فردية متحررة من العلاقات التقليدية والخضوع الإلزامي للقيم القديمة. عملية كهذه تتم بصورة سريعة في مصر وبلاد الشام، فيما هي أبطأ في بلدان الخليج. وهذا هو الذي يدعونا إلى القول: إن المجتمع الرأسمالي لم ينتج حتى الآن الصورة الثقافية المطابقة له، ولكنه في طريقه إلى ذلك.
وإن طرح مسألة الهوية والاختلاف في الثقافة العربية المعاصرة في إطار تحليل كهذا، يجنبنا النظرة السكونية للمسألة.
فانطلاقاً من أطروحتنا أن العلاقات الرأسمالية هي التي تحدد مصير المنطقة، فإن الاختلاف يقل وعامل الهوية يزداد، بوصفها هوية مصير.
ولكن المسألة في تحديد الهوية لا تعود إلى رأسمالية المجتمعات العربية فحسب، وإنما إلى رأسمالية بلاد تحوز على ثقافة مشتركة وشعور مشترك بالانتماء يتنامى أكثر فأكثر في الشروط الجديدة.
وإذا كان صحيحاً أن الرأسمالية في شروط العولمة الجديدة توحد العالم على نحو أكثر، وخصوصاً في مجالات الاقتصاد على نحو كبير وفي مجال الثقافة على نحو أقل، لكنها - أي العولمة - لم تلغ التمايز بين الأمم والشعور بالانتماء. بل قل إن العرب في ظل العولمة يحصلون على شروط أفضل لوحدتهم الثقافية.
وقد يعترض البعض قائلاً إنها لمفارقة حقاً. فالعولمة تنتج الآن ثقافة ما فوق قومية. ولماذا هي في حال العرب أحد عوامل إنتاج ثقافة قومية؟
الحق أن العرب يتوافرون بالأصل على مشترك ثقافي، وعوامل نبذ عديدة لهذا المشترك، أهمها حالة التجزئة السياسية وما يترتب عليها من أشكال تجزئة اقتصادية وثقافية ومنع التواصل.
والعولمة التي وفرت شروط التواصل العالمي أسهمت بدورها بكسر حالة الانفصال السائدة وخصوصاً على مستوى الانفصال الثقافي.
فالتلفاز عربي اليوم، والكتاب عربي، والانتقال أفضل بما لا يقاس، والهاتف دخل أداة يومية للاتصال، ناهيك عن عشرات الصحف والمجلات التي يتم تبادلها، وعشرات المؤتمرات المشتركة، التي فضلاً عن توفير سبل الالتقاء والحوار، توفر أيضاً شعوراً مشتركاً بالمشكلات.
وكلما ازداد التواصل بأشكاله المتعددة اكتسبت الثقافة العربية شخصية وخصوصاً عبر الثقافة الواعية التي لا تنفك الآن تجعل من مبدعيها رموزاً ما فوق قطرية.
غير أننا نواجه في علاقة الثقافة الموضوعية والثقافة كفعلٍ واعٍ ظاهرة طريفة، ألا وهي: تحول عناصر من الثقافة غير الموعى بها إلى ثقافة موعى بها وخصوصاً على صعيد القيم والدين. كيف تتم هذه العملية؟
قلنا إن الثقافة غير الموعى بها تتعرض لأسباب موضوعية داخلية وخارجية لعملية تغير حقيقية.
فالتقنية تخلق لا محالة ثقافة تنحو نحو تغيير العلاقة بين الإنسان والطبيعة وتتطلب حداً أدنى من التفكير العلمي الذي يتنامى في إطار علاقة الإنسان بالآلة ودرجة تعقدها الحاصل الآن، وإنجازات العلم قد أودت بأساطير ورؤى قديمة، فإجابات العلم الاختباري على أسئلة قديمة في علم الحياة أو الفيزياء أو الفلك... إلخ، تحرر التفكير من الأوهام السابقة، ونكران صحتها أمر يدعو إلى السخرية. وازدهار المدينة وتوسعها، وانتصار الفردية في العمل وتغير مرجعية الولاء يأتي على قيم لم تعد صالحة كمحددة للسلوك الفردي فتشيع قيم مجتمع رأسمالي يقوم على المنفعة والفردية وتلبية الحاجات كما تشيع فيه قيم الاحتجاج الإنساني.
والتعرف على منجزات الثقافة الغربية وخصوصاً المبدعة منها، العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، وأشكال الإبداع الفني والأدبي يغني تجربة الوعي بالعالم.
ولما كان المجتمع - أي مجتمع - ينطوي دائماً على قوى محافظة وعلى فئات ذات مصالح لا تتحقق إلا باستمرار القديم، فإن التغير الموضوعي يضعها وجهاً لوجه أمام مواجهة مباشرة أو غير مباشرة للجديد.
وليس أمام قوى كهذه إلا أن تنقل جزءاً من الثقافة من حقلها الموضوعي - وهي في عالمنا الثقافة الدينية - إلى حقل الثقافة الذاتية - الموعى بها، وتعيد صياغتها في قالب إيديولوجي خالص أساسه فكرة الحفاظ على الهوية التي تتعرض لمؤامرة الابتلاع من ثقافة وافدة - وهي في حالنا الثقافة الغربية - وممثلوها في الثقافة العربية كما يظن. وهكذا تنتقل حركة التغير من حالة موضوعية إلى حقل الصراع الإيديولوجي. أي تنتقل آلية التناقض بين ثقافة قديمة وثقافة جديدة من حقل العفوية إلى حقل تناقض فكري - إيديولوجي - سياسي. بين أصحاب الهوية المغلقة ودعاة الهوية المفتوحة.
هذا ما عبرت عنه السبعينيات بمفاهيم الأصالة والمعاصرة ونزعة التوفيق بينهما.
وليست القضية هنا بثقافية بحتة، إنما الثقافة هي التعبير الظاهر واللباس المبرقع الذي تلبسه التناقضات الواقعية.
من هذه الزاوية يجب ألا ننظر إلى التناقض الثقافي الحاصل الآن بين دعاة الهوية المغلقة وأصحاب الهوية المفتوحة على أنه مظهر سلبي، أو أنه نكوص فقط، بل هو تعبير عن حيوية المجتمع ذاته. وإن أخذ أشكالاً من العنف لدى بعض الجماعات المتطرفة.
وإذا جاز لي أن أتحدث عن مستقبل الثقافة العربية انطلاقاً من رؤية الهوية والاختلاف فإني أعتقدُ أنها تسير في طريق تكوين هوية منفتحة دائماً على الاختلاف.
وليست النزعة الديموقراطية المنتشرة الآن إلا مظهراً من مظاهر انتصار الثقافة الجديدة التي تتجاوز ثنائيات العقل الميكانيكي المتطرف.


* رئيس قسم الفلسفة بجامعة دمشق

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved