الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 24th October,2005 العدد : 128

الأثنين 21 ,رمضان 1426

الأصالة
2- الاستلاب وذات مطلقة لا تفعل
د.صالح زيَّاد

إن تتبع بعض المقولات والنصوص التي تضمنت مفردة (الأصالة)، يكشف عن إرادة الدلالة بها على الثبات الذي ينجم عن ذاتية مطلقة وليست نسبية، سواء استخدمت الأصالة هنا بالمعنى المضاد للتقليد، وهو الابتكار والذاتية، أو بمعنى يرادف التقليد ويتماس معه، وهو العراقة. ويبدو من الملاحظ هنا، بشكل لافت، التطابق بين دائرة الفرد ودائرة الجماعة في تحديد معنى الأصالة، أعني أن ما يقال عن أصالة فرد بعينه، هو ما يقال عن أصالة المجتمع بمستوياته المختلفة في درجة اتساعها.
ويمكن أن نميز دوران مفردة (الأصالة) في مدونة الثقافة العربية الحديثة، من خلال الاتجاه التعبيري والإبداعي في النقد الأدبي؛ حيث التأكيد على الفردية والذاتية والصدق الفني والابتكار... إلخ، ومن خلال السياقين القومي والإسلامي اللذين استلهما المعنى التعبيري والإبداعي للأصالة في مدار الاتجاه الاجتماعي لكل منهما.
إن الأصالة، أدبياً، هي مجلى الصدق الفني، عند محمد غنيمي هلال، (فالصدق الفني هو أصالة الكاتب في تعبيره، ورجوعه فيه إلى ذات نفسه، لا إلى العبارات التقليدية المحفوظة) ولهذا بدت الذاتية بوصفها شرطاً للأصالة، عند محمد زكي العشماوي، مؤدى لوسم الأصالة بأنها: (سمة من سمات الإبداع والابتكار).
وإذا كانت الذاتية خصوصية فردية تميز كل أديب على حدة؛ فإن الأصالة في رأي محمد مندور (شيء لا يرد إلى غيره وهي مجموعة من الخصائص التي تتميز بها روح عن روح).
أما لدى محمد مصطفى هدارة، فإن الأصالة تغدو صفةً للقدرة الإبداعية على تحويل المادة المنتقاة أو المقروءة إلى نتاج شخصي للشاعر، ولذا يفسر ما نجده من أصالة في شعر الشعراء الكبار بقوله: (وليس هناك سر في هذه الأصالة اللهم إلا أن هؤلاء الشعراء الكبار، لهم طريقة في أخذ ما يقرؤون، وتمثيله حتى يصير جزءاً منهم، مرتبطاً بآرائهم وعواطفهم).
ومن هذا الأساس الذاتي دخلت الأصالة إلى معاجم المصطلحات الأدبية، لتتصف بالضدية للتقليد والمحاكاة، فجبور عبد النور يذكر في معجمه الأدبي أن (الأصالة) أدبياً هي (فرادة أو ابتكار، أسلوباً ومضموناً، أو تنكب عن المناهج المطروقة، والآراء الشائعة، والعبارة الرائجة، والصور المألوفة).
وترد الأصالة في (معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب) لمجدي وهبه وزميله، بمعنى مقابل لمعنى محاكاة الكتاب؛ إذ يقول: (إن الأدب الأصيل في النقد الأدبي هو ذلك الذي يحاكي الطبيعة أو الحياة في أثر أدبي... أما من يحاكي غيره من الكتّاب فليس بأصيل ثم يذكر أن مفهوم الابتكار اختلط بمفهوم الأصالة، ويخلص إلى أن الأصالة أصبحت تشمل معنيين: ملاحظة الطبيعة كما هي مع تسجيل ما فيها، وابتكار خوارق من محض خيال الأديب.
أما (معجم مصطلحات الدراسات الإنسانية والفنون الجميلة) فيضيف إلى التميز بالجودة والابتكار في معنى الأصالة، أن الأصالة إنما (تنطبق عادة على الثقافات التي لم تتخللها عناصر أجنبية).
وبوسعنا أن نجد رابطاً سياقياً وتداولياً بين المعنى الفردي للأصالة الذي يستثمر معنى الخصوصية فيها باتجاه القدرة والإنجاز والكينونة في إطار الإبداع من حيث هو نتاج فردي، والمعنى الاجتماعي للأصالة الذي يحيلها إلى معنى الخصوصية والامتياز للهوية الاجتماعية والثقافية.
وذلك الرابط هو الفكر المثالي في وجهته التي أنتجت الرومانسية والتعبيرية وتداعياتها النظرية المتشابهة، وبخاصة أن الماضي القومي وأمجاده وأغانيه ظل منهلاً للرومانسيين في نوع من التأكيد المتصل على الأصالة القومية أو المحلية في مقابل إنسانية وعالمية الكلاسيكية.
برزت الأصالة، هكذا، بمعنى اجتماعي وثقافي، يرى فيها قيمة خصوص وامتياز يتلفها التشابه وتمحوها المحاكاة، بالقدر الذي يطابق ويوازي معناها الفردي، أي معنى العبقرية المتفردة بالابتكار، والقادرة على إحداث خصوصية غير مكرورة أو مقلدة.
ومن ثم كان استحضار معاني التقليد والمحاكاة والتشابه والتأثر... وما إلى ذلك من نواقض الامتياز والخصوصية هو باب المعالجة والاكتناه لمفهوم الأصالة في هذا الصدد.
فالأصالة، عند دراسة التأثر والتأثير بين الآداب المختلفة لغة وثقافة، تأتي بوصفها أساساً لترشيد الاختيار والإفادة؛ إذ تقف - في رأي محمد غنيمي هلال - بمثابة حارس أمين (كي لا ينحرف هذا الاختيار عن غايته، خوفاً من أن تنمحي الحدود القومية أو خصائص العبقرية اللغوية للأدب المتأثر، وهي التي يراد إكمالها وإغناؤها بهذا الاختيار).
وهذا الحارس الثقافي الأمين الذي استحال إليه معنى الأصالة لدى هلال هو ذاته الوظيفة التي يفسر بها توفيق الحكيم معنى الأصالة وماهيتها، في قوله: (وإن ما يسمونه العراقة في شعب ليس إلا فضائله المتوارثة من أعماق الحقب، وإن الأصالة في الأشياء والأحياء هي ذلك الاحتفاظ المتصل بالمزايا الموروثة، كابراً عن كابر، وحلقة بعد حلقة. هكذا يقال في شعب أو رجل أو جواد، وهكذا يقال في فن أو علم أو أدب).
وهي - أيضاً- الوظيفة المجتمعية التي تكتشف نازك الملائكة فعلها المضاد للتجديد، لأن (هذا التحفظ ما هو إلا صوت التماسك والأصالة في شخصية الأمة التي ترفض أن تنهار بإزاء كل فكرة جديدة تعرض). وتغدو الأصالة، من هذه الزاوية الوظيفية أي زاوية المحافظة والحراسة ومضادة الجديد، بمعنى مختلف عن الاستقلالية والابتكار المطلوبين للأصالة في شقها الدلالي الآخر كما سبق أن عرضنا. إنها موقف جبري على الثبات والاتباع، يستجيب لجبروت اجتماعي وثقافي له صفة الكل المجاوز للأجزاء في تحيزاتها المكانية والزمانية المحدودة!!.
لكن هذا الموقف المضاد للجديد والمتغير والمختلف، لم يبق تلقائياً أو لاواعياً في التمثيل لاستجابات ذوقية وانفعالية عابرة ومباشرة، وإنما برز -حديثاً- إلى الوعي في شكل تنظيم نظري فكري له طابع مثالي خالص.
يقول عمر عودة الخطيب: (الأصالة في البناء الثقافي أن يكون واضح السمة، معروف النسب، موصولاً بعقيدتنا الحقة، ومبادئنا السامية، وشخصيتنا المتميزة، وقيمنا الخالدة).
هذا الوعي بالأصالة محفوف بالغربة ومعبر عن قلق من واقع بدا مرشحاً لمزيد من الاختراق والاستلاب والخنوع، ولمزيد من مشاعر الإحباط والفزع التي تلهب وقوداً لا ينفد من أوهام الاضطهاد والتآمر، بحيث بدا العصر الحديث، بمعارفه وتقنياته وقوانينه وحضارته المتقدمة، عدواً للذات العربية والإسلامية، ولهذا رأى أنور الجندي أن (فقدان الأصالة أخطر التحديات التي يواجهها الفكر الإسلامي في مواجهة دعوات عديدة هي المعاصرة والتقدم والتفتح والحداثة). وقد أخذ مفهوم الأصالة، على هذا النحو، جانب القدم والامتداد الخلفي نحو الجذور، والتمسك بالماضي، والمحافظة على الموروث، وأتت مقابلاً للمعاصرة والتجديد والحداثة، وكثيراً ما نجد مقالات أو كتباً يكون عنوانها أو جزء منه، هكذا: (الأصالة والتجديد...) (الأصالة والمعاصرة) أو (الأصالة والحداثة)... من أمثلة ذلك: كتاب أحمد هيكل: (الشعر العربي المعاصر بين الأصالة والتجديد) (1980م) وكتاب جلال العشري: ثقافتنا بين الأصالة والمعاصرة (1981م). كتاب عبد الحميد جيدة: (الأصالة والحداثة في الفكر العربي النقدي الحديث) (1985م)... إلخ.
وفي ذلك تعبير عن زاوية نظرية لا ترى المعاصرة والجديد والحداثة إلا مقابلاً للذات ومن ثم مقابلاً للأصالة، بما يحجز هذه الأصالة عن الحضور والفعل والإنجاز ويرهنها لنوستالجيا تريد أن تقسر غيرها على شعورها. من المؤكد أن الحس بالاستلاب حسٌّ مؤلم إنسانياً.
إنه علامة على تهافت الوجود، وذوبان الذات واهترائها. لكن علينا أن نعي أن الأصالة، في هذا الصدد، هي حس الذات المتماسكة والواعية بوجودها، إنه حس عملي تجريبي، وليس أفكاراً مجردة. وبوسع المرء أن يطلق عنان مخاوفه وأمانيه وخيالاته كيفما شاء، لكن عليه أن يحتاط، دوماً، في مواجهة حقيقة الأفكار المجردة، بالسؤال: كيف؟!.
كيف تحقق الأمة أصالتها؟.كيف يحقق المرء أصالته؟.
ليس المطلوب أن نجد في مواجهة هذا السؤال المُشْكِل إجابة؛ لأن الإجابة الحقيقية لن تكون غير مزيد من توليد الأسئلة الشائكة حول الذات والآخر، تنتهي بنا إلى المطامنة من إطلاقية ذاتنا، كي نكون بشراً نمارس أدوار التجربة وأخطاءها، دون أن يأسرنا غير الرغبة في التشارك مع العالم هم العمل والبناء المادي والمعرفي.


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved