الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 24th October,2005 العدد : 128

الأثنين 21 ,رمضان 1426

استراحة داخل صومعة الفكر
نقوش يحيى السماوي
سعد البواردي*

يحيى السماوي (له من اسمه نصيب)، (يحيى) من الحياة، و(سماوي) من زرقة السماء الصافية تارة.. ومن تلبد السماء بالغيوم والعواصف تارة أخرى.. شاعر اغتراب منحته غربة الاقتراب من وطنه هاجساً شعرياً وشعورياً كان منه خطابه، وعتابه، وعذابه..
لا أدري لماذا اختار جذع النخلة دون عذوقها المتدلية بثمرها الجني.. إن نقوش الثمر الذي أعطاه في ديوانه أقرب إلى ثمر النخلة من جذوعها..
العراق هو النخلة.. والجذوع هي السلالم الربانية الموصلة إلى الثمر.. إنه يبحث عن الرطب الجني الذي اغتالته آلة الغدر وأسلحته إلى المصير الأسود:
هذه الأرض التي نعشق لا تنبت ورد ياسمين للغزاة الطامعين
والفرات الفحل لا ينجب زيتوناً وتيناً في ظلال المارقين
فاخرجوا من وطني المذبوح شعباً، وبساتين، وأنهاراً، وطيناً..
(تين) و(بساتين) منصوبة تنتهيان بحرفي الألف (تينا) والنون(بساتينا) إنه في مقطوعته ينشد السلام لمن لا يؤمن بالسلام وإنما بالاستسلام ولكن.. ارادة الوطن تقهر ارادة الغزاة. هكذا علمنا الزمن مهما طالت المعاناة والمأساة..
نحن مهزومون من قبل ابتداء الحرب..
نخل يشحذ التمر.. حقول تشحذ القمح
وطين سال منه الدمع من بوابة القصر
أشياء بلا أشياء.. كانت المقدمة للحصاد المر لوطن ذبيح، وشعب جريح.. واقحوان يقطر نابه سُمّاً..
امنحونا فرصة الدفن لموتانا..
وان نُخرج من تحت الركام جثثاً ما بلغت عمر العظام
فاخرجوا.. من قبل ان ينتفض النخل العراقي
ويستل سيوف الانتقام..
النخل العراقي بأهله انتفض على نيرون، والتتار القدامى.. ولسوف يخرج نيرونة وتتاره الجدد.. الحرية لا مساومة عليها..
في مقطوعته (عصفا بهم) اجتزئ منها هذه الأبيات:
خسئ الغزاة فما العراق بعاقر
عَقُمَ الزمان، وما يزال ولودا
مر الغزاة به فخضبهم دما
وأذل رايات لهم، وحشودا
ولأن العراق عربي لا عبري كان الهدف والمقصد للطامعين الغزاة:
والله ما وطأ الغزاة ترابنا
لو اننا نتهجد التلمودا..
حملة التلمود.. وحملة الصليب المتصهين وجدوا من بعض أهلك يا شاعرنا حصان طروادة شرعوا له الأبواب كي يلج الى الدار تحت غطاء العمالة المقنعة.. إنهم باسم أسيادهم يحكمون.. هذا هو أصل الداء.. داء مزمن يفتقر إلى دواء ناجع يقتلع جذور العلة..
في مقطوعته (لا تسأليه الصبر) يقول:
لا تسأليه الصبر لو جزعا
مما رأى بغداد أو سمعا
فرد ولكن بين أضلعه
وطن وشعب يخفقان معا
صار يبلل باللظى شفة
ويعيد عن مُستعذَب نبعا
إنها الحالة.. حين يأتي المشهد الباكي أقوى من الدموع.. وأمر من التأوهات.. وأقسى من الوحشة.. الوطن.. والاغتراب، والعذاب..
حين يكون الموطن من لحم ودم، وحين تأتي الحبيبة من ماء، وضوء وتراب يأتي البدد على بدد..
فتشت في قلبي فلم أجد
إلاك قنديلا يضيء غدي
وفحصت ذاكرتي، أفاتنة
أخرى ينادم طيفها خلدي
ونخلت حنجرتي لعل بها
بعض العدى من هند أو دعد
فوجدتها تشدو ليلثمها
ما فيك من طيب ومن غيد
خيال وجداني مغرق في تأملاته وفي توصيفه وتوظيفه لمفردات الحب اللاهث وراء رغبة مجهولة النهاية..
ولقد ظمئت وكنت في غُدُر
فشربت نيراني ولم أرد
قنعت بصابك غير آسفة
شفتي فيا صاب الحبيب زد
هذا المتيم أعيته الحيلة.. فسياط الهموم تلهب قلبه.. ومدية النكد مغروسة في جوانحه.. إنه يبحث عن موت جفاه أملاً بعطف يلقاه وهو موسد في اللحد.. كثير هذا الوجد يا عزيزي.. الحب لا يستحق كل هذا حتى ولو كنت قيساً تلهث بين خيام محبوبتك أو مجنونتك..
إلا أن يكون الحب وطناً.. وإلا أن تكون أنت ذلك الواقف أمام عتبات التاريخ ترقب الفرات.. وبابل، والرصافة، والسماوة.. تناغيها.. وتناجيها كما لو أنها فاتنات وجود دونها فتنة الحسناوات.. في حالة كهذه ألمس لك العذر.
هل تسألين الآن كيف أنا
أنا في الهوى بدد على بدد..
هوى الأوطان يا شاعرنا أقوى من أن تلوي عنقه كل عواصف الزمن.. وأعاصير الحياة.. إنه الذي يبقى في الذاكرة لمن يحمل ذاكرة..
شاعرنا يصارع ذاته بين وثاق حب ويشد إلى معصمه كما لو كان قدر الا يملك الفكاك منه.. وبين قنوط خيم فوق أفقه أسلمه إلى الاستسلام:
يا آسري احكم علي وثاقي
سأضيع، لو بادرت في اطلاقي
خلُقتْ لبحرك يا جميل سفينتي
فاعصف بها، لا خوف من اغراقي
وخلقتَ قنديلا يرش بضوئه
ليلا عصي الفجر في أعماقي
لا تخش من ريح علي وموجة
فالخوف كل الخوف من أشواقي
ربما هو الأدرى بمكنونات حبه التي حطمت مجاديف زورقه.. وأسلمت قاربه إلى مهب الريح وغضبة الأمواج.. ولو كنت مكانه لكسرت الوثاق وحطمت القيد دون ضياع.. الحب القوي هو الذي ينتصر.. تسول الحب كتسول المال عنوان هزيمة وضعف..
جلالة (الدولار) مقطوعة هازئة وهازلة رغم أن الدولار عملة محورية تحكم، وتتحكم.. عملة لها عمالة.. وعملاء.. وعمل على اتساع كوكبنا.. الاقتصاد هو السيد.. والدولار هو الحاكم شئنا أو أبينا:
(جلالة الدولار).. في ساعة الحساب يبقى وحده الصانع للقرار..
يجمع من يشاء، يقسم من يشاء، يطرح من يشاء
أو يضرب ما يوصي به الأحبار..
قواعد الحساب الأربعة يملكها الأقوياء وحدهم.. الدولار السيد.. والدينار التابع.. هكذا الحسبة والمحصلة..
قرابة العشرين عاما كان السماوي طريداً عن وطنه.. عاد إليه.. تغنى به.. جفلت أقدامه من جديد ورحل رحلة اغتراب متواصل:
القيت بين أحبتي مرساتي
فالآن تبدأ يا حياة حياتي
الآن ابتدئ الصبا ولو انني
جاوزت خمسينا من السنوات
الآن اختتم البكاء بضحكة
تمتد من قلبي إلى خفقاتي
الآن ينتقم الحبور من الأسى
ومن اصطباري ظامئا كاساتي
فرحة لم تدم طويلا.. تكسرت الكاسات.. وانهزم الحبور.. وجفت الضحكة.. وماتت الخفقات.. الطير المهاجر العائد أعاد اغترابه من جديد بعد أن أحس أن السجن القديم ما زال قائما ولكن بسجانين جدد.. والنخل الذي عشقه اسودت عسبانه من دخان النار.. والوجوه التي كان يعشقها تحولت إلى هزال.. ورعب.. ومساجين، ومساكين.. لا شيء يدفعه إلى البقاء.. إلا الأمل في عودة الوطن إلى أهله.
لم تنسه عودته إلى أرض الاغتراب البعيدة.. لم تنسه ذلك الشوق المتوهج المتأجج في صدره.. أطلقه رسالة إلى مسافر:
يا عابر الآفاق.. مُرّ على العراق
وباسم قلبي قبِّل الغالة والمكوار..
والعبق الطالع من بنادق الثوار
في الكوت، في ميسان، في الكوفة، في الانبار
وقل لهم: لا شيء غير النار..
هكذا عاد ثائراً وقد لمس بنفسه كم تحول وطنه الغالي إلى معتقل كبير تداس فيه الكرامة.. وتصادر فيه الحرية.. وتسيل فيه الدماء..
(نقوش على جذع شجرة) عنوان ديوانه.. مقاطع موحية بأفكار مختلفة اجتزئ منها البعض:
ما قيمة التحرير إن كان الذي هب لنجدتنا
حررنا.. واعتقل الوطن؟!
لم يَهب لنجدتكم يا عزيزي لسواد عيونكم.. هب لاحتوائكم.. واحتلالكم.. وفرض مشيئته عليكم تحت مظلة شعار حرية زائف ظاهره فيه الرحمة وباطنه العذاب.. من استعمار داخلي مقيت، إلى استعمار خارجي أكبر مقتاً..
ما شرف اليد تبعد عن أعناقنا القيد
وعن عيوننا الوثن.. حين يكون الوطن الثمن..
لا شرف.. وإنما قرف.. وافلاس منذ البداية.. وحتى النهاية.. يتابع شاعرنا السماوي تطوافه مع نشرات اخبار متلاحقة ولكنها صاعقة:
آخر ما تناقلته نشرة الأخبار
أن العدو دك بالمدافع الكوفة
واستدار للأنبار.. وحضرة الامام ما زال على فتواه
(ان نطفئ نار حقدهم بكوثر الحوار)
آه من حضرة الإمام.. ومن فتواه.. ومن المخدوعين بكل فتوى تمائي عدو الدور وتعطي له غطاء الشرعية في القتل والتدمير..
كل الجراد البشري الآن في بغداد
فيا جياع الرافدين اتحدوا
ونظفوا الحقل من الجراد..
كي ما يجوع في الغد الأبناء.. والأحفاد..
أحرار العراق يتعاملون مع اسراب الجراد البشرية الجائعة كل يوم. سرب وراء سرب.. المهم أن لا تكل سواعدهم في رشة بما يستحق.
ما اضيق الوطن حين يكون واحة
يمرح فيها الفاتح المحتل..
أو سقيفة يبايع الأجلاف تحت ظلها طاغية وثن..
يا يحيى.. تذكر معي تلك المقولة: (اللهم اكفني شر أصدقائي.. أما أعدائي فأنا كفيل بهم) العملاء.. أو الطابور الذين يتحرك عن بعد بجهاز الكنترول لفتح الأبواب، واستقبال رجال المخابرات الأجنبية لاشاعة الفوضى، التدمير، وسرقة التاريخ.. إنهم الأخطر على الوطن.. إنهم الأعداء الأعداء قاتلهم الله أنا يؤفكون..
السرقات دكت القبور.. واستباحت الرفاة
أضاقت الأرض فلم تجد لها مساربا؟!
أم أنها تخاف أن ينتفض الأموات؟!
تضامنا مع الجماهير التي ارخصت الحياة
ذودا عن الأرض التي دنسها الغزاة؟
في ظل الاستعمار لا كرامة لحي.. وبالتالي لا كرامة لميت.. الأحياء هم الذين يكرمون كرامتهم بوقوفهم وصمودهم في وجه الغزاة..
طفل بلا ساقين.. وطفلة مشطورة نصفين
وطاعن دون يد وامرأة مقطوعة النهدين
وكوة في قبة الحسين..
جميعها حصاد طلقتين من دبابة مرت بكربلاء
تحية ليوم عاشوراء..
هذا عن كربلاء.. ماذا عن الفلوجة واخواتها.. عن المثلث السني.. عن بغداد، والبصرة، والقائم.. الغازي لا يقيم وزنا لطائفة ولا لمذهب.. بل للذهب الأسود.. والمكان الاستراتيجي لمشروعه الكبير.. أمركة المنطقة وعبرنتها.. وقتل الانتماء الديني والعربي..
كنا في زمن مضى نقول.. (لا صوت إلا صوت المعركة).. واليوم تغير الخطاب.. أصبح (لا صوت إلا صوت الأمركة)..
يا زمن الخوذة والدفن الجماعي
وقانون وحوش الغاب، متى؟
متى يخترعون طلقة تميز الطفل عن الجندي؟
أو قذيفة تميز الحانة والمبغى من المحراب؟
وشنطة التلميذ من حقيبة الإرهاب؟
متى.. متى يغادر الأغراب بستاننا؟
فيستعيد النخل كبرياءه، ويستعيد طهرَه التراب؟
خصومنا يا صديقي يملكون القدرة على صنع سلاح يحددون أهدافه بدقة.. ولكنهم لا يريدون.. القتل الجماعي، والحصار الجماعي، والترويع الجماعي هو سلاحهم في فلسطين.. وفي العراق.. لا يعنيهم عدد الموتى ولا المصابين ولا الظامئين والجائعين.. كل هذا محسوب في أجندتهم..
يلتفت شاعرنا إلى بني جلدته.. إلى أهله وقومه في تساؤل مر:
ما بال قومي كرشت خيولهم.. أأدمنوا السبات؟!
مرت عقود، وسياط الذل في ظهورهم..
يقودهم طاغية حينا.. وحينا دمية الغزاة
الا الذين اسرجوا القنديل في ديجورنا..
وغادروا الحياة..
أكاد أقول له نيابة عن ضمير هؤلاء:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي..
ومع هذا فالرحم العربي لن يعقم.. وما المناضلون المقاومون المدافعون عن أوطانهم إلا بذرة الأمل في حقل الحياة المنتظرة..
اتجاوز بعض مقطوعاته الجميلة.. وقد أذنت الرحلة على نهايتها واكتفي بهذه الأبيات من مقطوعته (خذي بأمري):
التذ بالجرح ليأتيني
صوتك بالطيب فيشفيني
فطمتِ عينيّ فلا تفطمي
سمعي، فهمس منكِ يكفيني
فيا عقافا رتلت بوحه
مئذنة الروح اجيبيني
ما للمسافات التي بيننا
تدنيك من قلبي وتقصيني؟
مساحات الحب لا تخضع للجغرافيا.. للطول ولا العرض.. إنها مسافة يختصرها نبض قلبين عاشقين يحددها ذلك النبض اقتراباً.. أو بعداً..
وبعد يا شاعر الاغتراب.. أشعر ان غربتك منحتك صدقاً.. واقتراباً لوطنك أكثر مما لو كنت داخله.. المغترب كالطائر المهاجر يغرد داخل السرب وخارجه.. ولقد غردتَ.. وامتعت.


* الرياض : ص.ب 231185
الرمز : 11321 - فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved