الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 24th October,2005 العدد : 128

الأثنين 21 ,رمضان 1426

قصة قصيرة
شهيد البحر!!
عبد الله بن أحمد آل ملحم
نبذ شباكه جانباً وخلّفَ مركبه البخاري الجديد وراءه.. ووقف بإزاء الشاطئ الصاخب الضحوك عابس الوجه مقطب الجبين.. وأقبل على البحر مع أشعة الشمس الرائحة لمغيبها يتحين قفول أصحابه الصيادين..
لم تكن أمواج البحر لتوحي له بشيء وهي تصطدم بساقيه العاريتين إلا بما توحيه عقارب الساعة في دورانها.. تلك التي يعد كل دقيقة من دقائقها موجة بحرية.. بحسابه (هو) لا بحساب الزمن.. وبزمنه (هو) لا بزمن الناس من حوله.. بيد أنه يُسمي تلك الدقيقة أو الموجة.. خفقة، وغيره من الصيادين كغيرهم من الناس يسمونها دقيقة.
وبعد مضي خمسين خفقة من وقوفه الطويل الممل.. أقبل أول الصيادين في مركب قديم متهالك.. وفيما هو يتهيأ للوقوف ويُلقي مرساته.. برز إليه خميس وخاطبه بغير تحية أو تمهيد فقال:
- بعني صيد يومك هذا يا غالب.. وسأنقدك ضعف ثمنه مرتين!!
- له أيها الصياد الكسول؟!
- لأنني أريده حياً قبل أن يقضي في مجلبة الصيادين.
- على كل حال. البحر هائج اليوم، ولم تعلق بشباكي غير سبع سمكات صغيرات سأطعم صبيتي ثلاثاً منها، وسأمسك سائرها في هذا الإناء ليلهو بها صغيري عاصم.. حتى نطعمها في نهار اليوم التالي.
وهنا قاطعه خميس في قلق ظاهر:
- ولكن..
- ولكن ماذا..؟!
- قلت لك سأضاعف ثمنها مرتين فاشتر ما شئت من الطعام ودع لي ما شئت!!
- حسناً.. حسناً ما دمت ستنقدني ثمنها مضاعفاً فأسبيعك إياها لأعوض خسارة هذا اليوم النكد!!
وقبل أن تنبس شفتا غالب بالموافقة.. كان خميس قد وثب إلى مركب صاحبه.. فاحتمل الأسماك السبع بإنائها المعدني المتصدع، ثم لوح بها عالياً.. وألقى بها في البحر الهائج وهو يقهقه صائحاً:
لن تكون أكرم مني يا بحر.. فها أنا ذا أحبوك كما حبوتني.
ثم مضى يضحك سادراً لا يلوي علي شيء..؟!
لما حكى غالب خبر صديقه خميس وهو يقص ذكرياته لبنيه وحفدته.. سأله حفيده علاء مستدركاً:
- ألأجل هذا يزعم حفدة خميس أن جدهم: (مُطعِمُ البحر)؟!
- أجل أجل.. يا بني!!
وهنا سأل عاصم أباه وقد أخذ العجب منه كل مآخذ:
- ولكنني أتذكر جيداً - يا أبتِ - أنك قد قدمت بصيد وفير في ذلك اليوم!!
- صدقت يا بني.. ولكن خميس أو (مُطعِمُ البحر) كما تسمونه أنتم لم يرَ إلا الإناء الصغير الذي أشرت إليه.. وقد حدست أنه يريده ليلقي به في البحر كما يفعل كل يوم.. لذا لم أشأ أن يأخذ إلا تلك السمكات السبع التي اتخذتها طعماً لصيدي ليلقي بها في البحر غير مأسوف عليها.
- وهل نقدك ثمنها مضاعفاً كما زعم؟
- كلا يا بني.. فخميس يقول ولا يفعل، ويعد ولا يفي، فعاتبته بهذا القول لأرده عن بعض حماقاته.
وفي دهشة بالغة تساءل علاء حائراً:
- ولكن لماذا يلقبه الناس: (مطعم البحر) و(شهيد البحر) وغيرها من تلك الألقاب الفخام التي يزهو بها أبناؤه وحفدته. فهل مات شهيداً يا جدي؟!
- ما لا يعلمه أحد يا أبنائي.. هو أن خميس بعد أن لوح بالإناء وقذف بأسماكه إلى الماء.. زلت قدمه فتردى على وجهه.. فلما أدركه الغرق أخذ يصرخ مستغيثاً: أنجدوني.. أنجدوني.. فانطلقت نحوه مسرعاً فما بلغته إلا وقد أسلم الروح وفارق الحياة.
وبعد ذلك بزمن سمعنا أبناءه يزعمون أن أباهم: (شهيد البحر)، و(مطعم البحر)، وغيرها من تلك الألقاب التي يتباهون بها!!
رحم الله خميس كان يطعم البحر السمك.. ولكن البحر لا يأكل إلا البشر فأكله فيمن أكل!!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved