الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 25th April,2005 العدد : 103

الأثنين 16 ,ربيع الاول 1426

كيف نجعل الفصحى ملَكة وسليقة؟ 1ـ 2
د.عوض بن حمد القوزي *
حُلم نتطلَّع إلى تحقيقه، وهو أن نجعل السليقة اللغوية ندية في مجتمعنا، نسمع اللغة الصحيحة الفصيحة دون تكلف، ونهجر اللفظ الهجين والغريب دون تصنع، وهو مطلب جدُّ عسير، إلا أنه ليس مستحيلاً، فالتجارب أثبتت أنه من الممكن أن نعلِّم اللغة العربية لأولادنا منذ الصغر، وأن يرتاضوا على استعمالها في البيت والمدرسة والشارع، إلا أن النتائج التي تحققت حتى الآن هي أقل من التطلعات، فبالرغم من أن التطبيق يقع من عربي في بيئة عربية، إلا أنه يصطدم بغير قليل من الاستغراب أحياناً، وبالتندر أحياناً أخرى، وقد يصل الحال إلى السخرية في أحايين كثيرة، الأمر الذي يعكس على مستخدم الفصحى أسوأ الأثر، ويصيب طموحه وشموخه واعتزازه بلغته بالإحباط.
والسبب وراء هذا كله هو أننا لم نقدّر لغتنا حق قدرها، ولم نتعرَّف على تأثير ذلك في ثقافتنا وهويتنا، يُضاف إلى ذلك أن الهدف اللغوي المتمثِّل في لغة الخطابة والكتابة الفصيحة التي نحاول زراعتها في التربة الذهنية الخالصة من الشوائب والعوائق اللغوية، يواجه مدّاً غير قليل من الزخم اللهجي، المطعم بألفاظ أعجمية تارة، أو ثنائية لغوية سقيمة تارة أخرى، مما يُخل بالتوازن الذّهني للمتعلم فيوقع في روعه حيرة أقل أضرارها تردده في اختيار الألفاظ وتذبذبه في نطقها، وقد يقع في أخطاء لفظية تفوق أخطاءه في اتباع اللهجة السائدة في مجتمعه، فيخرج بصدمة قد تدوم معه سنوات لا يستقر له قرار في اللغة التي أحببنا أن يتعلمها واقعاً حياً، لا صناعة فيها ولا تكلُّف، ودون تنطُّع أو تشدُّق.
وإذا كنا نحن العرب نستغرب سماع الفصحى من طفل السادسة من العمر، فما ذلك إلا لأنه قد وقر في روعنا أنه لا يجيد اللغة الفصحى إلا من درس كتب النحو، ونخل المعاجم وكتب اللغة، ومارس تطبيقها في القراءة والكتابة والخطابة، أما أن يأتي ذلك المظهر اللغوي السليم من طفل يفترض في ألفاظه العفوية والبساطة والبُعد عن الإعراب وفصيح المقال، فأمر غير مألوف، ومن هنا جاءت الغرابة والمفاجأة.
هناك عدد غير قليل من التجارب المبكرة في جعل الملَكة اللغوية سليقة عند الصغار، وحاول بعض المربين في مصر والشام صنع برامج للتطبيق، اتخذت من الصغار حقلاً لها، وفي منطقة الخليج قامت برامج مماثلة لكن تطبيقها محدود؛ لهجوم العاميات عليها من جميع الجهات.. وهناك تجربة ميدانية تطبق الآن في بعض مدارس منطقة عسير بالمملكة العربية السعودية، انطلقت بالفصحى في مجالات الحياة كلها، فالطلاب والمعلمون لا يتكلمون إلا بالفحصى والدروس تُلقى بالفصحى، والجو كله يعبق بالفصحى، ولا يسمح بسماع شيء من العامي مطلقاً.. وبالرغم من أن هذا التحدي لا يزال في بداية التطبيق إلا أن الذين زاروا مواقعه أثنوا على النتائج التي وصلت إليها تلك المدارس.
وقبل ذلك هناك تجربة مثمرة جرت أحداثها في المغرب العربي بدعوة من الملك الحسن الثاني رحمه الله في بعض مشاريعه، فقد أراد أن يستثمر مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية (مرحلة الروضة)، وأن يستثمر قدرة الطفل في تلك الفترة على الحفظ، وأن يكون فيما يزرع في أعماقه في هذه المرحلة قوة الشعور الديني مقرونة بالتمكن من روح العربية، وإطلاق اللسان بها والتطبع بصيغها وأبنيتها، وقد تولَّد من هذا المشروع سلامة اللهجة للأطفال الذين حفظوا قدْراً من القرآن الكريم، وإتقان مخارج الحروف على خير الوجوه، والبعد كثيراً عن الأخطاء النحوية التي يقع فيها أقرانهم ممن لم يمارسوا هذه التجربة، وبذلك تحسنت العودة إلى مسالك البيان العربي في أول فرصة أُتيحت لها، عودة فيها كل عناصر الغلبة والتفوق.. (تحسين وسائل خدمة اللغة العربية في الوطن العربي، شكري فيصل، ضمن أبحاث كتاب (اللغة العربية والوعي القومي) بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالاشتراك مع المجمع العلمي العراقي، الطبعة الأولى 1984م بيروت ص 398).
وقبيل أيام من كتابة هذا البحث نقل إليّ ابني وهو في الصف الثالث الابتدائي الآن، أنه سمع أحد زملائه يتكلم باللغة العربية الفصحى، وأنه لا يخاطب زملاءه أو أساتذته إلا بها، وأن الطلاب يتعجبون منه ومن فصاحته، وكلهم يشير إليه بأنه فصيح لا ينطق إلا بالفصحى، فسألته: هل تفهمون كلامه؟ فأجاب ابني: كيف لا نفهمه وهو يتكلم كلاماً واضحاً فصيحاً؟! قلت في نفسي وهذه بادرة خير أن أرى ابني وهو في هذه السنّ المبكرة يميِّز بين العامي والفصيح، ولسان حاله يقول: (ولِمَ لمْ تعلمني اللغة الفصحى وأنت أستاذ فيها وقادر على تدريبي عليها استعمالاً؟! وخشيت أن أكون قد أثقلت عليه ولو إيحاء بحمل شيء من شجوني وأنا أرى العربية الفصحى تقطَّع أوصالاً وإرباً إرباً، ثم سألت ابني: أتحب أن تتكلم مثل زميلك هذا بالعربية الفصحى؟ قال: لكن كيف يمكن استعمالها عندما أكون في زيارة لأبناء عمومتي وخؤولتي، وهم جميعاً لا يتكلمون الفصحى؟ قلت: الأمر بسيط ما دمت تفهم ما يقولون، فإنهم سوف يفهمون كلامك من غير عناء، وربما قلَّدوك فيما بعد فتعلَّموا الفصحى بسببك، لأنه كان على الأطفال العرب كلهم أن يتكلموا العربية الفصحى، ومن تلك اللحظة اتفقنا ألاَّ نتحدث في المنزل إلا الفصحى، وأن على كل منا الالتزام بها قدر الإمكان مع زملائه بل في كل مكان.. قُوبلت تجربتنا بشيء من الاستغراب في البيت، ولم تخل في بعض الأوقات من المواقف الطريفة، ولكنا نتجاوزها بسلام، مصممين على الاستمرار حتى يكتب الله لنا شرف الفصاحة والبيان، مستعينين بحفظ القرآن الكريم، وصار كل منا ينبِّه الآخر عندما تزل لسانه قليلاً إلى العامية، حتى كدنا أن نفرض عقوبة مالية على من يخطىء فيستعمل العامية، ولكنها خطوة ستؤخذ في الحسبان، وسننفذها عندما نشعر أن الجوَّ العائلي كله أصبح عبقاً باستعمال اللغة العربية الفصحى، وأن استعمالها أوشك أن يكون سليقة لا نُدفع إليه كُرهاً.
نظرت إلى ما حققه ابني من تقدم في بعض الأساليب، وفرحت بما تحقق له، ولكني متخوف من أن يكون ذلك على حساب جوانب أخرى من بناء الشخصية السوية، لقد شعرت وكأنما يجاملني ابني باستخدام الفصحى، حتى إذا غاب عن ناظري نزع إلى لهجته، ومارس لغة الشارع والحي من غير تكلُّف، وعندئذ تذكرت قول الجاحظ: (أمَّا النحو لا تشغل قلب الصبي منه إلا بمقدار ما يؤديه إلى السلامة من فاحش النحو، وما زاد على ذلك فهو مشغلة له).
صحيح أن ابني لم يشرع بعد في تعلُّم النحو صناعة، لكنه بدأه تطبيقاً، ولكي يسعدني بفصاحته طلب في تعلُّم بعض دروس النحو، وتلبية لرغبته ألقيت عليه دروس أقسام الكلمة، والمذكر والمؤنث، وأقسام الفعل بحسب زمانه، وبفطرته النقية أبى إلا أن يُسمي الفعل المضارع (فعل الحاضر)، فقبلت ذلك منه، وأصبح باستطاعته تحليل نص قرآني إلى عناصره من أسماء وأفعال وحروف، وأن يضع كل اسم في قائمته وكل فعل في زمنه، وبالرغم مما يعتري لسانه من اللحن، إلا أن مستوى الجُمل التي بدأ يركِّبها يدعو إلى التفاؤل بنجاح المهمة.
إن السعي وراء اكتساب الملَكة، وسلامة الطبع، والقدرة على محاكاة أساليب العرب في منازعها وأساليبها يحتاج إلى دربة ومران مستمرين، كما يحتاج إلى قدر كبير من المحفوظ من جيد التراث العربي المنظوم والمنثور(فعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع، نظماً ونثراً، ومن حصل على هذه الملَكات فقد حصل على لغة مضر.. (ابن خلدون، المقدمة ص 453)، وهذا ما سنتوجه إليه في طريق اكتساب الملَكة العربية، فسنحاول الاطلاع على جيد المنظوم والمنثور من كلام العرب، كما سنحاول استظهار بعض نصوصه، لتكون زاداً للذاكرة وأدوات للسان، ولكنا بدأنا بالقرآن الكريم، باعتباره أعلى هذه النصوص وأنفعها.
ولو أمعنا النظر في كتب النحو العربي القديمة، وجدناها تأخذ في الاعتبار الاتكاء على الموروث من شعر ونثر وحكمة ومثل، بالإضافة إلى القرآن الكريم الذي ينظر إليه كأكمل نموذج يُحاكى لاستقامة اللسان العربي، وبممارسة هذه الأساليب تحصل الدربة للألسنة على قول الفصيح، وبالتالي تقوى الملَكة، ومن ثم تجري الفصاحة على اللسان دون عناء ولا تكلُّف، حتى ولو لم يتعلم المرء صناعة العربية من نحو وصرف وبيان وغير ذلك من علوم العربية، فإن جمع المتكلم العلم بقوانين الصناعة العربية إلى جانب الدُّربة على حفظ الجيد من آثار العرب الراقية، فإن في ذلك الكمال، إذ جمع بين صناعة العربية وملَكة اللغة، وهذا لعمري قليل مثاله إن لم يكن نادراً، لكن دراسة صناعة العربية وحدها لا تكفي ولا تفي بمؤهلات الفصاحة، ما لم تسندها الملَكة اللغوية التي تنطلق على اللسان دون تكلف.
يقرر ابن خلدون أن (صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملَكة، ومقاييسها خاصة، فهو علم بكيفية لأنفس كيفية، فليست نفس الملَكة، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً، ولا يحكمها عملاً.. وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملَكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل، ولذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة المهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين، إذا سُئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته، أو شكوى ظلامة، أو قصداً من قصوده أخطأ فيها عن الصواب، وأكثر من اللحن، ولم يُجد تأليف الكلام) (ابن خلدون، المقدمة، ص 533).
ثم إنه ينبغي تغذية تلك الملَكة ورفع كفاءتها (بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله (المتكلم) المنوالُ الذي نسجوا عليه تراكيبهم، فينسج هو عليه، ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملَكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم (المصدر السابق، ص 454).
ثم إن كثرة المحفوظ دون استخدامه لا تكفي، وليس لاستخدام النماذج الرفيعة من آداب هذه اللغة فترة زمنية تنتهي بنهايتها، أو مدة افتراضية تصبح بعدها عديمة الفائدة، فاللغة تحتاج إلى ما يُسمى بالتربية المستديمة، التي يجب أن يُنظر إليها بالمنظار المتسع، الممتد من بداية حياة الطفل حتى بلوغه الجامعة، ثم إن تعلم الفصاحة عن طريق الإكثار من حفظ الفصيح المنثور والمنظوم رصيد للمتعلم يقيم لسانه ويصلح عبارته، ويقوي بيانه.
فالنحو في الكلام، كالملح في الطعام كما يقولون ولو نظرنا إلى هذا القول الذي نتداوله في حياتنا العامة كالمثل السائر أدركنا قيمة استخدام (النحو) صناعة، فإذا كان يشبه الملح، فالإكثار من الملح يضر بالطعام، كما أن الطعام لا يلذ للآكل دون احتوائه على نسبة طيبة من الملح، وكما أن الناس يتفاوتون في استخدامهم للملح، كذلك فإنهم يتفاوتون في تقبل النحو والصبر على قوانينه واستخداماته، فإنه ليس بغائب عنا تضايق العامة من النحاة، وتندرهم بهم وبهذا العلم، لا سيما قسم التصريف منه، فمن ذلك ما روي عن أبي مسلم، مؤدب عبد الملك بن مروان أنه سمع التصريف الذي أحدثه النحويون فلم يفهمه، فقال:
قد كان أخذهم في النحو يعجبني
حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
لما سمعت كلاماً لست أحسنه
كأنه زجل الغربان والبوم
تركت نحوهم والله يعصمني
من التقحم في تلك الجراثيم
ومثل ذلك شكوى رفيع بن سلمة العبدي إلى أستاذه المازني من باب الإضمار إذ يقول:
تفكرت في النحو حتى مللت
وأتعبت نفسي له والبدن
وأتعبت بكراً وأشياعه
بطول المسائل في كل فن
خلا أن باباً عليه العفاء
للفاء ياليته لم يكن
وللواو باب إلى جنبه
من المقت أحسبه قد لعن
إذا قلت هاتوا لماذا يقال
لست بآتيك أو تَأْتِينْ
أجيبوا لما قيل هذا كذا
على النصب؟ قالوا بإضمار (أنْ)
وما إن رأيت لها موضعاً
فأعرف ما قيل إلا بظن
فقد خفت يا بكر من طول ما
أفكر في أمر (أن) أن أجنّ
(تاريخ العلماء النحويين 67 68).
وغير ذلك كثر، ناهيك عن استثقال حضورهم المجالس ونفور العلماء والشعراء من مجالسهم، لتتبعهم هفوات المحدثين والمنشدين وترتيب أحكام على تلك الهفوات اللفظية التي يقع فيها المجبول على الفطرة اللغوية، والتي ربما يقع فيها صناديدهم ورؤوسهم إذا نزعوا إلى السليقة، فالفراء وهو من كان يلحن بين يدي الرشيد، فحدَّثه الرشيد يوماً في ذلك فقال: طباع أهل البدو اللحن، وطباع العرب الإعراب، وإذا تحفظت لم ألحن، وإذا تكلمت رسلاً رجعت إلى الطباع، فاستحسن الرشيد قوله (تاريخ العلماء النحويين 188، وانظر طبقات النحويين واللغويين 131).
ومثله معاصره الأخفش الأوسط، الذي لحن يوماً فقيل له في ذلك، فقال:
لعمرك ما اللحن من شيمتي
ولا أنا من خطأ ألحن
ولكنني قد عرفت الأنام
أخاطب كلاً بما يحسن
(تاريخ العلماء النحويين 90).
إن وقوع اللحن مستغرب من مثل الفراء والأخفش، إذا نظرنا إلى مكانتهما العلمية، وسيطرتهما على زمام العربية صناعة وبراعة، ولكنه غير مستغرب أن يخالفوا القواعد الصناعية ليحاكوا العامة في الشؤون العامة، حتى إذا رجعوا إلى العلم وما يتطلبه الموقف من إعراب أعربوا ودققوا، ولهذا فقد تقرر عند هؤلاء وأضرابهم أن (النحو يحسن في الخطابة والشعر وإعراب سورة أو كتاب، فإذا تجاوز النحو هذا فهو شيء عن السامع ناب، وقبيح بين الحواضر أن ينطق فيهم بألسن الأعراب) (الاشتقاق، لابن السراج).


* أستاذ اللغة العربية جامعة الملك سعود

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved