الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 25th April,2005 العدد : 103

الأثنين 16 ,ربيع الاول 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم 16
هل نعيش أسطورة بروكوست؟
د. عبد الله الفَيْفي
1
إن خطاب (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية)، (الرياض: دار رواح، 1421هـ = 2000م)، (1: 86) ليقر بصدق بأن الثقافة العالمية، أو الأميركية تحديدا، انتشرت (بحكم تعشق العالم لها، وانصياعه لسلطانها، وتعلقه بها، وحرصه على تمثلها والاقتداء بها). ولكنه لا يمر على السؤال: كيف حدث ذلك؟ وأن العالم لم يتعشق تلك الثقافة، أو ينصع لسلطانها، أو يتعلق بها، ويحرص على تمثلها والاقتداء بها، إلا بتأثير الحاجة، والضرورة، أولا، ثم الدعاية، والإعلام، وقوة الحضارة والثقافة، من بعد؟! فأين البديل العربي أو الإسلامي الذي صنع قيماً بديلة، نظيرة أو نقيضة، إنْ سُلّم بأن كل ما أفرزته الثقافة الغربية شر مستطير كله، لا يصلح لنا، هكذا ضربة لازب، ويجب أن نحذر منه وأن نحمي أطفالنا عنه، كما تؤكد على هذا مقدمة الموسوعة؟!
هذا المأزق الحضاري سيظل يفرز بيننا قيمه، ويفرضها على الناس فرضا، حتى يغيروا ما بأنفسهم وبأمتهم، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. ذلك أن القيم تصنعها ضرورات الحياة أكثر مما تصنعها المثل النظرية. والقيم العربية والإسلامية إنما تولدت ثم تنامت بمعترك الحياة ومسارات التفاعل الاجتماعي، قبل أن تسجل لنا في تلك الكتب التي ذهبت (موسوعة القيم) تستسقي منها القصائد والقصص حول تاريخ القيم العربية والإسلامية. والرسول الأكرم، قبل أن يأتي الناس بتفاصيل التشريع، وقبل أن يسعى إلى تغيير القيم العربية البائدة، صنع المجتمع المديني أولا؛ فمنذ أول لحظة آخى بين المهاجرين والأنصار، ثم بدأ التخطيط، والتنظيم، والتعمير، والتصنيع. حتى إذا تهيأت الظروف والنفوس، جاء التوجيه القيمي ليصب في نفوس إليه متعطشة، وعقول نحوه متفتحة، في تناغم مع الواقع الجديد، فأثر وغير، بل وشكل ثورة قيمية وثقافية عظمى في التاريخ البشري. أما أن نزعم لأنفسنا أننا سنعيش هكذا عالة على الغرب والشرق، في كل صغيرة وكبيرة، ونبقى في الوقت ذاته نستمد قيمنا نظريا من المجتمع العربي قبل الإسلام، أو حتى من المجتمع العربي العباسي ووفق ما دوّن في المستوى الأدبي من الثقافة القديمة فتلك (بروكوستية)(1) المستحيل بعينه.
إن القضية إذن قضية أمة بأكملها تراجعت عن الحياة إلى ما يشبه الموات، لا ذنب للأطفال ولا للشباب فيها، ولا إثم على الغرب في أن أدلج على حين نام العرب والمسلمون. ولقد كان يكفي للإجابة عن مغالطات الخطاب العروبي مواجهة السؤال المحوريّ المهمّ الذي طرحته (موسوعة القيم)(2) تحت عنوان (نشأة القيم ومصادرها) وهو: (كيف تنشأ القيم الاجتماعية؟)، ومن ثم ربط الإطار النظري في الإجابات عن هذا السؤال بمساءلات نقدية حول واقع الحال القيمية بين الثبات والتحول في الثقافة العربية.
إن الحساسية العربية الفائقة التي يتصف بها الإنسان العربي نحو التغير هو الذي يدفعه عادة إلى نكران التغير القيمي، أو تجاهله، حسبما تشير (موسوعة القيم)(3) إلى ذلك بحق. إلا أن الموسوعة تعود لترى في ذلك قيمة عربية إيجابية للشخصية العربية، حين تستمر تقاوم الجديد بشعور من الرفض، بل لا تطيق ألم الاعتراف بوجوده، لا لنبوها عنه فحسب، ولكن أيضا كما تعبر الموسوعة للطبيعة الانطوائية للشخصية العربية، والانغلاقية للمجتمع العربي، عن أجواء المصارحة والمكاشفة، معللة ذاك في العصر الحديث ب(أن ما يصيب ثقافتنا وأخلاقنا هو تغير خارجي عنها)(4).
ولكن أتلك قيمة إيجابية، بإطلاق؟ أو ليست هي معضلة العرب مع التغير والتطور دائما، منذ رفض من رفض منهم الإسلام لأنه جاء بما يخالف ما وجدوا عليه آباءهم؟ ثم أليس ذلك هو المعوق الحضاري الذي جعل الحضارة الإسلامية في كثير من جوانبها تنهض على أكتاف غير العرب من المسلمين، أكثر مما نهضت على أكتاف العرب؟ إنها لجبلة عربية ضد كل جديد، سواء أكان خارجيا أم داخليا. ولا عيب إن نحن اعترفنا بها، ونقدناها، غيرة على الأمة، بل العيب كل العيب، والتخلف كل التخلف، في إنكارها أو تغطيتها، بله ادعاء ضدها، ثم البكاء على الذات، وظلم الآخر، والتباكي على (ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى)!
2
على أن للقارئ أن يلتمس بعض التعليل لتذبذب الخطاب النظري الذي صدّرت به (موسوعة القيم) مجلداتها بين الثبات والتحول، والماضي والحاضر، والعربي والإسلامي، والعربي والآخر في علاقته الواضحة بتعدد الأقلام التي كتبت تلك المقدمة. ومن المتوقع أن سيحدث مثل ذلك التبذبذب في كامل الموسوعة، نتيجة تعدد الأقلام التي اشتغلت فيها. فلئن كان مقبولا اشتراك فريق من الكتاب في إعداد موسوعة علمية ما، فإن موسوعة تدور على موضوع ك(القيم والأخلاق) لتتأبى عن ذلك. من حيث إن اختلافا يسيرا أو خطيرا من كاتب إلى آخر حري بأن يفسد اتساق العمل برمته. لا على المستوى الفلسفي الذي يصدر عنه كل كاتب فحسب، ولكن أيضا على ما يثبت الكاتب أو يتجاهل. هذا فضلا عن نظرته إلى كل قيمة على حدة، وطرائق تأويله إياها. وتزداد خطورة ذلك على علمية طرح مثل هذا وعلى موضوعيته، لعدم نهوضه أساسا على منهج علمي نقدي صارم، يُعمِل أدواته في درس الجذور القيمية، عقلية، أو اجتماعية، أو دينية.
إن ذلك التبذبذب في النظرة إلى القيم الذي تمثل في خطاب الموسوعة هو ما يؤدي في النهاية إلى تصدع القيم. فلقد كان من المفترض ما دامت بواعث القيم سامية في النفس البشرية، كما نقلت الموسوعة أن تكون مشتركة بين الناس. غير أن حواجز المجتمعات، ومن ثم حواجز الثقافات، وتنائي المفاهيم، قد أفرزت التمايز بين أهل كل مجتمع وثقافة وأهل كل مجتمع وثقافة آخرين. بل لقد أفرز العزل الاجتماعي التمايز داخل المجتمع الواحد نفسه، كأن تكون هناك قيم مرتبطة بالذكور دون الإناث أو العكس؟ وهل القيمة مرتبطة بجنس دون آخر؟ الأصل ألا يكون ذلك كذلك. لكن الواقع يدل على هذا التمايز بين مجتمع الرجال ومجتمع الإناث.
فقيمة كالشجاعة مثلا ترتبط في المجتمع العربي بالرجل خاصة؛ حتى إن (موسوعة القيم) لتدل على ذلك بقولها (1: 57): (الشجاعة التي تعبر عن قيمة يجلها أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم، تطفو على سطح الذاكرة عند كل موقف (رجولي)، يقتضي (شهامة ورجولة)). وكأن الشجاعة قيمة لا تكون إلا في الرجال، مع أنها تكون في النساء كذلك؛ من حيث هي خصلة نفسية، وذلك ما أثبتته المرأة اللبنانية، على سبيل المثال، خلال الحرب الأهلية هناك(5)، كما أثبتته المرأة عبر شواهد التاريخ. إلا أن العرف الاجتماعي يصر كثيرا على جعل نموذجية القيم مقسمة بين الرجال والنساء، وفق معايير لا موضوعية، ولا إنسانية. وهذا أحد أسباب تصدع القيم في المجتمع. وهو ما سيتطرق لبحثه مساقنا المقبل، بحول الله.
إحالات:
1 نسبة إلى (أسطورة بروكوست)، التي تزعم أن بروكوست كان يمدد ضحيته على سرير؛ فإذا كانت الضحية أطول من السرير، قطع ما زاد من جسدها عن السرير لتكون على مقاسه، وإن كانت أقصر، مطها لتكون بطوله، وإن كانت بطوله تماما، نجت من القطع أو المط!
2 1: 87
3 1: 99
4 م.ن
5 انظر: كلاّب، إلهام، (1994م)، (نسق القيم في لبنان)، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية)، ع183، ص101


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved