الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 25th April,2005 العدد : 103

الأثنين 16 ,ربيع الاول 1426

استخدم كإثبات هوية
الحرف بين دوامة المعنى وجمال الشكل (12)
محمد المنيف

الحروفية هي تشكيل الحرف العربي وتجريده من العبارة والجملة المقروءة إلى حال أخرى حاول فيها بعض الفنانين من أصحاب التجارب أن يجعلوا منه ظاهرة إبداعية انتشرت في فترة زمنية من فترات عمر الفنون التشكيلية في مختلف أقطار الوطن العربي وأصبح لها رواد ومعلمون أبقت لها أثراً بارزاً وجد فيه الأجيال الجديدة بوابة تختلف عما تعودوا عليه من أعمال أو تجارب في الرسم أو التصوير الزيتي والجرافيك، التي استلهم فيها ملامح الحياة، ورأى الكثير من أولئك الرواد أو مؤسسو هذا النهج التشكيلي الذي يجمع بين التقنية الحديثة وبين عنصر حي له بيئته الخاصة التي يتنفس من خلالها ويتحدث عبرها إلى العالم بلغة سماوية مقدسة امتلاكهم القدرة على توظيف الحرف العربي شكلاً أو كلمة للتعبير بشكل معاصر، عبر تطويعه ودمجه بما يحيط به من رموز وإشارات، ومزجه بها حتى أصبح إيحاء مكنهم من تجاوز الزمن والتاريخ بأنماط خيالية للعبور إلى مرحلة التكامل بشكل سريع يواكب متطلبات الفنون المعاصرة في تناسق نسجي حروفي جاعلين من هذا التزاوج إتماماً لمعنى أو طرحاً لمغزى، فالحرف عندهم يوضع في مكانه منسجماً مع بناء اللوحة كما تتطلبه حسابات العمل الفني، فأنجزوا أعمالاً تجمع في ثناياها إيحاءات تنوعت فيها سبل الإبداع شعراً ومسرحاً أو مشاهد درامية
مقتربين من خلالها إلى شكل الجملة والعبارة أو ملمحين عن بعد بأحرف متراقصة لها إيحاء التباعد مع أنها تظهر منسجمة ومتلاحمة.
قبل التطرق للحديث أو لكشف أبعاد اندفاع الكثير من الفنانين العرب لاستلهام الحرف كعنصر جمالي يمكن تحويله إلى كائن
مستقل عن الجملة أو المعنى المتعارف عليه وأخذه من محيط القاعدة الثابتة والمتبعة لكل نمط من أنماطه كالديواني والنسخ والرقعة والثلث إلى آخر المنظومة عند الكتابة به لغرض التدوين، وسعى هؤلاء الفنانون إلى الأخذ بنهج جديد نحو تجريده وتخليصه من تبعية العبارة وتحريره ليصبح له كينونته الجمالية المستقلة في عالم الفن التشكيلي في اللوحة أو المنحوتة، يخالجنا الكثير من التساؤلات ومن أهمها، هل هذا التوجه جاء لتحقيق هدف يمثله إثبات الهوية بمكتسب وإرث لا يمكن الاختلاف على امتلاكنا له من دون العالمين، وهل يتوقع الفنانون من منتهجي هذا التوجه أن فيه ما يميز أعمالهم من بين الأعمال الأخرى أم أن الأمر يأتي تقليداً للغرب، كما كنا وما زلنا نبحث عن كل بارقة من غيمة عابرة، وإذا كان الغرب قد سبقنا بالتجربة، وهل نجحنا فيها أم أنها سحابة صيف بللت الأرض ثم اختفت ملامحها..
وقبل الإجابة على تلك التساؤلات علينا التعرف على بعض ملامح التجربة الغربية لنترك للقارئ البحث من خلالها عن القواسم المشتركة في تلك المحاولات فهناك الكثير من الفنانين الغربيين ممن كان لهم تواجد مباشر في أقطار عربية، وجدوا في الحرف العربي علامات ورموزاً جذابة قاموا بتوظيفها في العمل الفني، كما أن في الحرف الآسيوي أيضاًً ما دفع بفناني الغرب إلى استلهامه ومعالجته ليصبح شكلاً جمالياً كما هي في أعمال الفنان الأمريكي مارك تويني بعد تعرفه على تلك الحروف خلال زيارته للصين واليابان نفذ بعدها مجموعته الأولى عام 1935م بعنوان الكتابة البيضاء.
ومن أولئك الفنانين الذين أقاموا في البلاد العربية نجد الفنان هنري ميثيو الذي بدأ تجربته الحروفية عام 1937م بعد رحلة زار فيها المغرب العربي، هذه التجارب وما تبعها من تجارب عربية تعيدنا للتساؤل هل هي تبعية وتقليد للغرب وهل هم بالفعل السابقون في هذا التوجه؟.. أما السؤال الأكبر.. هل الفنان العربي بفعله هذا وتجريده للحرف من العبارة وكسره للقواعد المتعارف عليها جاء بجديد أم أن ما يتم القيام به من تجريد يعد مسخاً لا تجديداً للحرف؟.. ثم أليس في استلهامهم للحرف كعنصر منفصل عن الجملة ما يعني أن الحرف هو الأصل في التجريد وأنه كان بمثابة المنطلق للتجريد العالمي برمته وهنا يمكن لنا ولمن عليهم تحقيق الهدف من الحروفيين أن يوثقوا هذا الحق لا أن يصادر منا ثم يعاد تصديره لنا من جديد
وبمسميات جديدة.
جورج ماثيو وانطلاقة الحروفية الفرنسية
ومن الأسماء والتجارب الغربية في مجال العبارة أو الكلمة أو استخدام المقاطع، منها تجربة الفنان براك والفنان بيكاسو بعضاً من تلك الملامح واستعانتهم بالأرقام والحروف كعناصر فنية وفي أعمال الكولاج التي استخدما فيها قصاصات صفحات الجرائد، تبع ذلك العديد من الفنانين
مستلهمين العلامة والحرف اللاتيني، منه الفنان الفرنسي جورج ماثيو من مواليد 1921م
الذي أثار ضجة كبيرة حينما قام عام 1956م برسم لوحة حروفية بطول 12متراً وعرض 4 أمتار خلال عشرين دقيقة حملت عنوان: (تكريم شعراء العالم أجمع) فوق خشبة مسرح
سارة برنارة الفرنسي أمام جمهور غفير من المثقفين والأدباء والفنانين سبقها أيضاً إعجاب منقطع النظير بهذا الفنان من وزير الثقافة الفرنسي الراحل أندريه مالرو الذي وصف الفنان بقوله (إنه خطاطنا) وبذلك أصبح هذا الفنان رائد الطراز النسخي في فرنسا وأصبحت له نظرية تحمل اسم (جمال الإبداع بالسرعة والجرأة والمغامرة) عبر أداء مرن ومتتابع على اللوحة محدثاً علامات ورموز).
قدسية الحرف العربي
لقد حظي الحرف العربي بحصانة إلهية عظيمة تتمثل في القرآن الكريم إذ لا يمكن أن يندثر هذا الحرف أو يتبدل أو تتغير قيمته وقوة تعبيره وقدسية استخدامه، حيث أصبح رمزاً وعلامة ثابتة في جبين الحضارة الإسلامية موجداً لها موقعاً عظيماً من بين بقية الثقافات، حينما نجد
ثقافة الصورة في الحضارة الأوروبية وثقافة العلامة في الحضارة الهندية والصينية, وثقافة الخيال في الحضارة الإفريقية بأساطيرها.
لهذا وجد الفنان العربي في الخط وفنونه مصدر إلهام ومستمسكاً تراثياً يستشهد به بين الإبداعات العالمية ضامناً بديمومة الكتاب استمراراً لنبضه وامتداداً لتراثه وثقافته منذ أن تعلم لغته العربية فأخذ في البحث والتجريب وإيجاد أنماط متعددة له بمهارة تحولت إلى أن أصبح حرفة وصنعة لها معلموها وأساتذتها على مدى حقبات تاريخنا العربي، امتلك فيها الخطاطون
طرقه وأساليبه وتقاليده، استخدموا في التعامل معه مختلف الخامات المتاحة في كل عصر ابتداء من الحجارة مروراً بالجلد والورق, أي على كل مادة قابلة لأن تحتضن تآليفه.
ولم يتوقف الخطاطون عند الكتابة وفنونها فقط بقدر ما أوجدوا للنصوص دلالات أصبحت أنماطاً لتزيين الرقاع وزخرفتها, جامعين فيها بين الخط كهدف للمعنى وبين الشكل الزخرفي متحررين من خلالها من مسار الحرف المخطوط (الخط)، مع ما يشتمل عليه من إيقاع وحجم معاً إلى تحقيق رغبة جمالية متكاملة البناء، كما قال عنها فرانسوا شانغ: إن سطوة فن الخط الرائعة تبرز على مستويين، فهو يقوم بتحويل اللغة إلى مرحلة من الخيال الشعري كما يقوم في الوقت نفسه بإعادة تشكيل وصياغة الفضاء المجرد إلى أشكال زخرفية.
نماذج من
مبدعي الحروفية العرب
وإذا توقفنا عند هذا الإيجاز لنعود إلى حال الحرف العربي وتوظيفه في الفنون التشكيلية المعاصرة فإن هناك الكثير من التجارب التي خاضها فنانون من مختلف أقطار الوطن العربي باعتبار الحرف أمراً متاحاً لكل ناطق بالعربية، فهناك أسماء كثيرة من الفنانين الكبار من رواد هذا النهج ممن وظفوا الحرف في أعمالهم خصوصاً في العراق الشقيق منهم الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد الذي استلهم الحرف كقيمة فنية في مضمون العمل المعاصر, دون أن يضع في الاعتبار المهارة كهدف أو أن تعكس فكرة فلسفية معينة، ولم يتوقف المد الحروفي
بقدر ما أصبح له أساتذته ورواده على مستوى الوطن العربي عامة ولنا أن نستعرض بعض الأسماء على سبيل المثال:
الفنان الفلسطيني كمال بلاطة الذي استوحى في أعمالهم نماذج الكوفي بهندسته وثباته, والفنان اللبناني الأصل العالمي الحضور وجيه نحلة الذي ساهم بشكل كبير في إيجاد نمط متميز ومتفرد للحرف العربي الذي تعامل معه كصورة ورمز وسرعان ما أحاله إلى مقطوعة موسيقية رقصت على أنغامها الألوان والخطوط على مساحة قطعة القماش البيضاء ومن تونس الفنان نجا مهداوي الذي يجمع بين السيطرة على الحيز وبين الحركة في الحرف على إيقاع زخرفي، وفي مصر وجد الحرف طريقه إلى اللوحات وبرز في هذا الاتجاه رواد منهم الفنان يوسف سيد، كما نجدها أيضاً في أعمال الفنان صلاح طاهر، وفي الخليج نجد الفنان يوسف أحمد من قطر الشقيقة والذي يعد من الأسماء العربية في مساحة التشكيل الحروفي والذي أطلق مؤخراً لأعماله التحرك الحر تجاه التجديد، ،من إيحاء الحروفية المباشر.. إلى فضاء التجريد، مستكشفاً بها مواقع وزوايا قد لا تخطر على بال الآخرين.
وفي الكويت كان للحروفية أيضاً فضاء واسع من التجربة برزت في العديد من أعمال الفنانين هناك وكان في تجربة الفنان عبد الرسول سلمان مساحة شاسعة للحرف العربي بتكوينات سيريالية.. هؤلاء وغيرهم من الفنانين العرب وصلوا بالحرف في اللوحة إلى مراحل نقلته من مشهده البصري المتعارف عليه ضمن عبارة أو جملة إلى فضاءات متعددة بدءًا من تصنيفه
وتشكيله كما نراه أحياناً يظهر هندسياً وتارة زخرفياً تقليدياً وأخرى مركباً وفي أحايين كثيرة يظهر رمزاً دون معنى مباشر.


monif@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved