الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 25th July,2005 العدد : 116

الأثنين 19 ,جمادى الثانية 1426

استراحة داخل صومعة الفكر
قصائد.. إلى لبنان عبد الرحمن صالح العشماوي
سعد البواردي

الشاعر العشماوي ثر العطاء، وغزيره، خياله الشعري بألوان الطيف الملون..
له من عقيدته نصيب.. وله من وجداني مكان.. وله من خياله المجنح بصمة.. سبق أن تناولت له جانباً من إصداراته الشعرية، وها أنذا أتناول بعضاً مما أمكنني الحصول عليه.. بداية هذه المرة من لبنان الجرح، والفرح.. دمعة الأمل ودمعة الألم.
حبه لهذا البلد الجميل وفر لخياله أرضاً خصبة يتعايش معها ويعيش فيها.. ينتزع من واقعها صوراً وردية وأخرى رمادية.. لأدع الشاعر يتكلم.. إنه فارس الرحلة..
مع وقفته الأولى تتداعى لديه الكلمات مخضبة بلون الدم.. مشحونة بفيض العتب: لعلها المقدمة النثرية لديوانه:
الموقف يفيض بالمآسي
ولبنان حبلى بأحداث كثيرة
ووكالات الأنباء العالمية تنقل إلى الناس أحداثاً متضاربة، إلا أنها كانت تتفق باجتماعها تحت مظلة الصبغة الأجنبية.. ويطرح سؤاله الأول قائلاً: أين دور الإعلام العربي والإسلامي بل والعالمي مما يجري؟ يعقبه بتساؤل آخر أكثر عناداً وإصراراً: أين دور العالم الإسلامي بالذات.. ويختفي سؤاله وقد برز سؤال ثالث أكبر وأعظم:
لماذا يا ترى لم تصل أمتنا إلى المستوى المطلوب من الإنكار والبكاء في زحمة تلك الأحداث..؟! ويردف قائلاً:
هل أن ذلك العجز الأدبي والشعري مرده فطاعة تلك الأحداث الدامية؟!
من خلال مقدمته وطرحه للأسئلة والمساءلة نهرع إلى شعره كي نتلمس مدى سخونة الجرح الذي يحس به تجاه وطن عربي شقيق كان بالنسبة لمحيطه أشبه بالرئة التي يتنفس منها حرية رأي، وجمال طبيعة.. ومطبخ فكر..
ريع منها وقد بدا وجهها الغصن
وغنى الهيام في شفتيها
هزه الموقف العنيف أيخشى
اليوم من حسنها ومن مقلتيها
وهو من ذوّب الليالي بلحن
يتغنى بالورد في وجنتيها
إنه يتغنى بالقد وهو يتمايل.. بلون الخصاب أيضاً في كفيها.. ولون خصاب شاعرنا تنقصه نونه كي يستقيم للشطر وزنه ومضمونه..
ما له اليوم يسكن الخوف عينيه
ويلقي الإصرار في عينيها
إنه اليوم حائر بين خوف
من هواها وبين شوق إليها
هو في حيرة، وكم من نفوس
حيرتها الخطوب فيما لديها
زمن ضاعت الموازين فيه
فغدا الدرهم الرديء جنيهاً!
هكذا وبهذا التوصيف الدرامي الساخر إلا أن لها وجهاً للمأساة التي عصفت ببلد جميل ساحر تستحم أقدامه من البحر، وتسمو هامته البيضاء من الثلج نحو السماء حاملة معها أشجار أرزها الخضراء التي لا تتعرى ولا تذبل.
ملاحظة بسيطة ألفت إليها نظر شاعرنا هي أنه أهمل علامات استفهام كثيرة في أبياته.. أخالها مهمة..
لن نبرح معه الأرض.. ولا مساحة الجرح فنحن في لبنان العاطفة والعاصفة معاً.. حيث جمال الطبيعة والانطباع.. وحيث جلال ما يجري على الأرض من اقتتال بين أبناء أسرة كبيرة واحدة ذهب ضحيتها المكان والإنسان، والأمان..
في مهب الريح، يأخذنا البساط المضمخ بالدم نتطلع جيئة ورواحاً ومن بعد على النار التي تلتهم الأخضر واليابس كي لا يطالنا شرارها..
لبنان جرحك في الأحشاء يلتهب
ولم يزل يتساقى دمعك العرب
بماذا كان المجيء؟
جاؤوا إليك..
قرارات مزمجرة
أوراقها في مهب الرياح تضطرب
جاؤوا إليك نداءات سيسمعها
الأعداء، ينضح منها المجد والحسب..
شطرك الأخير يفتقر إلى علامات تعجب (!!) تؤكد المعنى العكسي للفظه كي لا يختلطه الفهم.. ويطرح أسئلة التذكير:
أتذكرين دما زف العدو إلى
عينيك من أرق الاله شجبوا؟
أتذكرين وما نالتك قنبلة
إلا وثارت لها الأشعار والخطب
أين تكمن الإجابة..؟ إنها في هذا البيت:
القوم بعدك حاروا في شؤونهموا
لم يصعدوا جبلاً.. لكنهم تعبوا
يبكون فيك زماناً كله طرب
لو انهم علموا بالخطب ما طربوا
تلك كانت رابطتهم بلبنان.. ارتياد.. واعتياد على قضاء فترات مسترخية تنعم بالجمال وتغني له.. لا يعنيها أن تنتصر له في وجه اجتياح إسرائيلي مدمر لوطن عربي ينتمي إلى جامعة دول عربية.. سقطت عاصمته بأيدي الغزاة..
العشماوي الشاعر يضع إصبعه على الجرح مشخصاً داء المرض:
تا الله ما نزلت بالعرب نازلة
إلا وتفريطهم في دينهم سبب
أعزهم ربهم بالدين لو طلبوا
في غيره العز ما فازوا وما غلبوا
من مهب ريحه إلى الضياع حين تتكسر مجاديف الأشرعة وسطه موج هائج لا يرحم:
لمن تُسطِّر ما أمليه يا قلبي
ومن سيسمع ما أنشدت من نغم؟!
أأمتي سوف تصغي وهي غارقة
في لهوها؟ أم ستصفي هيئة الأمم؟!
أم سوف تسمع آهاتي وتنقذني
من حرها دول موبوءة النظم؟!
لا شيء من هذا البتة بالنسبة لكل مواجعنا وفواجعنا..
(ما حك شفرك مثل ظفرك
فتول أنت جميع أمرك)
إننا عالم لا يقرأ.. وإن قرأ لا يفهم.. وإن فهم لا يستوعب، وإن استوعب لا يعمل، وتلك إشكالية الموقف..
شاعرنا يريد أن يغني.. ولكن يغني لمن؟
لمن أغني؟ ومن حولي يعيش على
عزف الرصاص، ويخشى رقة النغم
يخاطب معشوقته الجريحة كمن يسترجع وصلها ووصالها:
يا بلبلا لم تزل تشدو وتطربنا
كأننا من صداك العذب في حلم
عيناك نبعان من حب ومن أمل
ولم يزل قلبي الولهان جدَّ ظمي
(نبع الصفا) و(نبع الباروك) ما زالا يتحركان في خاطرته.. يصبان وهما متعبان على وقع أحذية الغزاة اليهود.. القصيدة طويلة وجميلة ذات مقاطع موحية بصورها القزحية الزاهية الألوان.. استرجاع الماضي المجيد صورة للعتب واللوم:
وكيف نبكي وفي عينيك أغنية
وكيف تستنهض الدنيا ولم تقم؟
نبشت ذاكرة التاريخ فانكشفت
عن وجه (عمرو) وعن اقدام (معتصم)
فهل أعدت إلى الأيام بهجتها؟
وهل محوت الأسى من قلب منهزم؟
استرعى انتباهي شطره القائل:
فهل أعدت إلى الأيام بهجتها؟
هل كان يريد (أعيدت إلى الأيام)؟ وهذا ما أحسبه.. إن أعدت إلى الأيام يكتنفها الضعف في المعنى وصحتها (أعدت للأيام بهجتها).
لقد حملنا شاعرنا المتألق بعباراته الحلوة، وصياغته التي تفيض رقة حملنا بقدر ما حمل ذاكرته ما كان يحسه من ألم، ووجع، وقلق..
لقد بكى لبنان يومها.. وبكى القدس قبلها:
وقبله كم بكينا القدس من ألم
فهل منعناه من حزن ومن ألم؟
هذا كان خطابه الشعري بالأمس.. نضيف إلى خطاباته ما استجد من كوارث جديدة لحقت بأمتنا ونحن لا نقيم حراكا: العراق البوابة الشرقية لأمتنا اقتحمتها جيوش المغول أو التتار لا يهم.. القطاع وغزة تحت الحصار والإذلال.. الجولان تغفو وتصحو على مشاهد المحتلين وهم يذرعونها ويزرعونها بالمستعمرات.. والحبل على الجراء.. ربنا يستر.. الحقيقة إننا مستهدفون عرباً ومسلمين.. حرب وقودها الناس والحجارة:
الشرق والغرب أعداء، وإن وعدوا
وهل يصون دمي من يستبيح دمي؟!
(صبرا وشاتيلا) لافتة رفعها الشاعر في وجه التاريخ لعله يخجل.. إن كان في قاموسه مفردة خجل:
(صبرا) و(شاتيلا) تصيحان
أواه، من جرحي، وأحزاني
ما هذه الأشلاء تملؤني
رعبا..؟ وما هذا الدم القاني؟
من دنس الأعراض في كفني
ومن بهذا الخطب أعماني؟
يجيب على هذه التساؤلات دون انتظار:
لن يجهل التاريخ صورته
(وحش، بدا في ثوب إنسان)
بالأمس كان الفجر يعشقني
واليوم يخشى الفجر جثماني
بالأمس كان الليل متكئي
واليوم صار اليوم أكفاني
صور بلاغية رسمها بقلمه المطبوع أحسن خطوطها وخيوطها.. تنم عن قدرة فائقة في توصيفها وتوظيفها للمفردات المعبرة..
بلسان من طالتهم مجازر شارون وأعوانه.. إنهم يتذكرون.. ويذكرون لعل الذكرى تنفع المؤمنين:
بالأمس أصوات تؤنسني
واليوم هذا الصمت يغشاني
يا خجلتي مما أشاهده
قبرت يا للهول سكاني
أقذيت أجفاني برؤيتهم
موتى.. يذيب الحزن وجداني
وتستمد به موجة الخزن، والخوف.. والعتب:
ما موقعي فيمن أجاوره
إلا كشادٍ بين غربان
يا أمة ما كنت أحسبها
إلا ستحميني، وترعاني
كم غادة صاحب وما وجدت
من يحتويها من يد الجاني
لا أملك ما أضيفه إلى مقولة شاعرنا الإبداعية سوى القول: لا يفل الحديد سوى الحديد.. والأعزل لا ينقذه من غائلته وطائلته من حديدهم يعلوه الصدأ.. ومن جديدهم دون قديمهم إرادة حياة.. ومواجهة خطر.. ومن صفوفهم متصدعة تحتاج إلى توحد.. ألست القائل؟
إنا لنعلم أن عزتنا
وقف على صدق وإيمان
لكن سيف القول منصدع
كل يسفه حكمة الثاني
ويلتفت إلى التاريخ وفوق وجنتيه حمرة خجل يشير إليهما مخاطباً وعاتباً:
يا خجلة التاريخ من بشر
أغضوا على ذل وإذعان
الناظرون دمى بأعينهم
وقلوبهم في كف شيطان
الراكضون إلى رغائبهم
واللابسون مسوح كنهان
رمضان، الجرح، والأمل، هاجس يسكنه.. يؤرقه ويستغرقه جرحاً وطرحاً:
بم أقضي إليك من نبأ القوم
بماذا أقول يا رمضان؟!
أعن القدس والضحايا؟ فهذا
نبأ قد عفا عليه الزمان!
شغلونا عن شأنها بقضايا
وقفت دون حلها الأذهان
أبدلونا بجرحنا ألف جرح
كل يوم يجتاحنا عدوان
صبِّرِ القلب أيها القادم الفذ
فأحداث أمتي ألوان
ليت شعري، ماذا تقول؟ وقد أسرف
قومي.. وضاعت الجولان..
ليت شعري ماذا تقول؟ وهذي
عين لبنان دمعها هتان..
وببغداد حرة سوف تشكو
من أساها.. وتشتكي طهران
مزقت أمتي الخلافات حتى
صار يلهو بأمرها الشيطان
إنها الحرب أيها القادم الفذ
دمار، وحسرة، وهوان
لكأن شاعر العشماوي عايش اليوم بتداعياته على ساح وطننا العربي من خليجه إلى محيطه.. وكأنما هو يتنبأ بشيطان اليوم كما أسماه الذي يمسك بمقاليد هذا العالم يهزها في وجه الضعف.. ويبتزها في الوجه الآخر.. غير آبه بصوت العقل، ولا بمنطق الحكمة.. لأنه الأقوى بسلاحه.. ومادته.. وأجهزة إعلامه الخادعة والمخادعة..
وأخيراً.. من لبنان المعافى بعد جراح.. وأين بقيت بعض الندوب على وجهه مذكرة ومستنكرة إلى كل أرض نزح إليها فلسطيني بعد أن نزع الغاصب من هويته الاستقرار على تراب تمازج مع دمه.. وتراث تزاوج مع تاريخه..
رحَّال، والعزم ردائي
واللقب المحبوب (فدائي)
رحال والمجد أمامي
وجلال التاريخ ورائي
إيماني بالله يقيني
من غدر وخسة أعدائي
يا من تستمتع برحيلي
وتذوق اللذة بشقائي
وتعيش على أمل حلم
أنسيت صمودي وآبائي؟
لا أحد ينسى دم الشهداء.. ولا جراح المقاومين.. ولا صبر الصامدين، ولا معاناة الصابرين الذين تلفحهم رياح الشتاء وزمهرير الصيف تحت خيام ممزقة.. ولا شجاعة الأمهات وهن يودعن فلذات أكبادهن بالزغاريد وفرحة الشهادة..
لن ننسى القضية مهما غطاها غبار التجاهل أو النسيان لأنها مفتاح نصر أو هزيمة.. بداية انتصار أو انكسار.. ولن تكون أبداً بإذن الله مهزومة منكسرة.. وإنما متحررة مختصرة.. كتبت خطاب حياتها من دم أبنائها كي تبقى.
من ديوان شعرك.. ومن ثقافته النضالية انتزع مختاراً آخر خطاب شعر فيه..
ليكون مسلة خيام..
سيجيء زمان يتسلى
فيه المظلوم بمن ظلمه


ص. ب 231185 الرمز 11321
فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved