الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 25th August,2003 العدد : 26

الأثنين 27 ,جمادى الثانية 1424

إحسان عباس..
بدأ من الصفر .. وعاد إلى الصفر
راضي صدّوق

تعوَّد الكُتّاب والأدباء، عندما يتحدّثون عن مبدعٍ أو أديب أو عالمٍ أو مفكّر يرحل عن دنيا الحياة والناس، أن تكون أحاديثهم أقربَ إلى المَراثي التي تُلقى بسخاء في حفلات التأبين.
ومن أَسفٍ ومن أَلَمٍ أنّ ما يُقال في الغالب الأَعمّ في مثل هذه المناسبات، في حقّ أَيٍّ من هؤلاء الراحلين الأعزّاء، لا يُؤخذ في العادة من قِبَل الدارسين والمؤرّخين الذين يتناولون هذه المراثي والكلمات التأبينيّة الحانية، في حالات كثيرة، من ومضات وإيماءات ومعلومات جديدة، مفيدة للباحثين والدارسين.
.. وما أقوله، هنا، عن الرّاحل الدكتور إحسان عبّاس الذي غاب عنّا أخيراً ليس من هذه المراثي الاحتفالية، وأرجو ألا يُؤخذ كذلك، فالرجل كان بحقّ أكبر من كل ما يمكن أن يُقال فيه: أستاذاً معلّماً، مثقفاً موسوعياً، ناقداً، باحثاً، مترجماً، ومحقّقاً عملاقاً. وهو مع هذا كلّه كان مثلاً في تواضع الكبير، ورحابة العالم، وزُهد الإنسان الإنسان.
ما رأيته كلّما أتيح لي أن ألقاه إلاّ باسماً في براءة القلب الأبيض النقيّ، وصفاء الضمير المطمئن إلى سلامه مع ذاته، ورضاه عن منهجه وطريقه وطهارة غاياته ومراميه.
عندما كنت أراه .. كنت أنظر إلى المناصب والمراتب الدنيويّة العالية كم هي قميئة، صغيرة، مُتدنّية، أمام قامة هذا الرجل الرّصين، الهادئ، البسيط إلى حدّ الإعجاز فلقد تَتَلْمَذَ له، وتخرَّج في مدرسته وعلى يديه، أفواجٌ وقوافل من الأكاديميّين والعلماء والباحثين والمحقّقين الذين يَزْحمون الجامعات والمُنتَديات العلمية والأدبية والثقافية، على مَدّ التبسيط العربيّ من محيطه إلى خليجه، طوال نصف قرنٍ من الزمان أكثرهم وصل إلى حيث قعد على كرسيّ وثير أوسع من مقاسه، في صفوف السلطة وأهلها.. يأمر وينهى، أو يُدير ويُشير في كل علم وفنّ وفي كل مجال، فيما ظلَّ الأستاذ المعلم.. الباحث.. الموسوعي.. العملاق إحسان عباس يُطلّ من حوله بعينين نَضّاحَتَين بالضحك، وثغرٍ يفيض بالابتسام، لا يشكو من حال، رغم سوء الأحوال، ولا تجنح نفسه إلى شهوةٍ عابرة من شهوات الدنيا التي لا تليق بعالمٍ، معلّمٍ، يعرف أن مقعده ومكانه راسخان، ينتظرانه، في قلب التاريخ.
هنا .. لن أتحدّث عمّا كتبه إحسان عباس، ولن أُعدّد ما أَلَّف، وحَقَّق، وترجم، وخلَّف من مخطوطات، فتلك شنْشنة الدارس ومهنة المؤرخ الباحث.
حَسْبي أَقول لكم: لقد غاب، عنّا، كبيرٌ في العلم والفكر والأدب والثقافة، ليحضرَ في تاريخنا القادم، مُضيئاً كمصباحٍ ضَيَّعتْه قوافلُ العميان في بهمة الليل العربيّ الطويل.
كان إحسان عباس أنموذجاً، وكان رمزاً، وكان مَثَلاً «ابتدأ من الصفر، وعاد إلى الصفر» كما قال، ذات يوم، وهو يُكفكف راحتيه الفارغتين، بعد أن انزلق في مَهوى الثمانين، ينظر حواليه بعد أن استقرَّ في عمّان في وسيع الآفاق العربية فلا يرى سوى الدم .. والنار.. وأشلاء الأطفال والنساء.. والأوطان!
أَلا رحمة الله عليك أبا إياس..
لقد بدأتَ من فلسطين ولم تَنْتَه في فلسطين
ليت شعري .. متى تنتهي رحلة الأَصفار الأسطورية يا أبا إياس
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
المحررون
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved