الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 25th September,2006 العدد : 172

الأثنين 3 ,رمضان 1427

نحو نقد المثاقفة
العقل السعودي في الميزان*(5)
الشيخ محمد بن عبدالوهاب.. ثورة التغيير والمشروع الإحيائي
سهام القحطاني *
تعتمد نظرية (الإنسان ابن بيئته) على البحث عن إيجاد العلاقة بين البيئة والفكر والفعل الاجتماعيين ومساحة الأثر والتأثر بينهما، مما يحمّل البيئة/ الظرف مسئولية مرجع وقيمة الإحالة، أثناء تفكيك ناتج الفكر الاجتماعي، باعتباره بنية فوقية، وأن الفعل الاجتماعي كأبرز أشكال أنظمة الفكر الاجتماعي المختلفة القارة والمتحركة، يتوزع وفق خارطة علاقات متجانسة، وارتباطات متسلسلة ذات وحدة قيّمية، هي المكونة لخطاب الجماعة، كعملية متواصلة بين الفكر والواقع الإنساني، فالمعيوش/ الواقع كحدّ توتر بشكل أو آخر وما ينتجه من إسقاطات تتناسب مع خلفية التزامن مؤسس موقف السلوك أو العلاقة الأفقية بين المنفعل والمحسوس، ومساحة التزامن تلك هي التي يقام على أرضها تعديل تجربة المعيوش، ولذلك يصبح من المهم معرفة إشكاليات التزامن التي أحاطت بالمعيوش، جسم التجربة، وهذا ما يجعلنا نقلب في إشكاليات مساحة التزامن التي أثارت فكر الشيخ وأنتجت حركته، ودورها في صياغة فكره وسلوكه، ففكر المرء وسلوكه يظلان متأثرين غالبا بطبيعة التجربة المعيوشة وانفعالاتها.
إن ماضي شبه الجزيرة العربية في زمن الشيخ لا يحمل في مرجعياته إلا الفرقة والألم والتخلف والأمية، فكان أقرب للفوضى والتخلف في كل شيء سياسيا وثقافيا واجتماعيا.
فإقليم نجد كان ساحة للصراع الدائم على السلطة بين الأسر التي كانت تسيطر على مقاليد الأمور في إماراتها المختلفة، صراعات كفلتها توارث الحكم وسيطرة منطق القوة في انتزاع الإمارة وسلب الحقوق، وأحيانا يمتد الصراع إلى الحكم داخل الأسرة الواحدة كما حدث في الدولة السعودية الأولى، ويبدو أن قدرية الصراع كانت سمة لشبه الجزيرة العربية فلم تقتصر على نجد بل امتدّت إلى الحجاز أيضا، ولعل غياب القوانين والدساتير الضابطة والحامية لاستقلال حكم إمارات نجد وما حولها، أسهم في تلك الفوضى السياسية، كما أسهم في تجويز الصراع بل وطبعه بقيم تشريفية في موروث العقل الجمعي البدوي لينضم إلى قائمة الشجاعة والبطولة والحمية، كما أن إمكانية وجود القوة المادية مع الفهم الخاطئ لتقديرها وغايتها أسهمت في بروز وشيوع تلك الفوضى السياسية والصراع على الحكم، وبذا عاشت نجد حالة من التفكك السياسي فأصبحت كل بلدة مستقلة بذاتها، ذات علاقة غير ودية مع جيرانها في أغلب الأحيان، وكان كل أمير يظل في حالة استعداد عسكري إما لمهاجمة خصمه أو للدفاع عن بلدته.
و(كانت العلاقات بين القبائل النجدية علاقات سيئة بصفة عامة، وكانت القوة هي الفيصل فيما يحدث بين القبائل من نزاع إعمالا للمثل القائل (نجد لمن طالت قناته) 36 وقد تمصدرت أسباب الصراع عند قبائل نجد على موارد المياه والكلأ، وفي الحجاز على السلطة.
صراع دائم ومستمر بين القبائل حيث كان من السهل حينئذ إغارة كل قبيلة على أخرى منتهكة حرماتها، مقطعة نخيلها فتترك القبيلة الأقوى غريمتها في حال لا حول لها ولا قوة، تصارع على البقاء في ظروف قاسية، فلم يكن الاحتكام سوى للسيف، والغزو والسلب وإجلاء الآخرين عن منازلهم وممتلكاتهم.
إضافة إلى غياب العلاقات الإنسانية من مودة وتعاون بين أمراء وشيوخ إمارات شبه الجزيرة العربية، (الذين استقلوا عن بعضهم وعاش كل منهم في نطاق إقليمي محدد، وكان العداء طابعا عاما بينهم مما أدى إلى عدم قيام أية إمارة قوية في نجد وما حولها، بل إن إمارات نجد كانت من الضعف بحيث هيأت لأمراء الأحساء وأشراف مكة المكرمة أن يقوموا ببسط نفوذهم أحيانا على بعض المناطق في نجد مابين القرن الرابع الهجري حتى ظهور الدولة السعودية الأولى) 37 وكان أغلب الأمراء المتنازعين في نجد لا يعرفون شيئا عن السلطان العثماني ولا يدينون له بأي ولاء.
ومع هذا الاشتراك الأوحد بينهم أي رفض الخضوع والتبعية للسلطان العثماني، لم يكفل لهم وحدة ائتلافية بين الأقاليم، بل زاد من تشتتهم السياسي واستمرار سيناريو الصراعات والعداوات والثارات والعصبيات القبلية. فكان لكل إقليم من أقاليم شبه الجزيرة العربية يحظى باستقلالية سياسية ودستور سياسي مختلف ضمن أحلاف تتنوع ما بين الخارجي مع الدولة العثمانية كما في بعض أقاليم شبه الجزيرة أو أوروبي مع الانجليز كما في إقليم الحجاز، أو بريطاني وإيطالي كما في تهامة وعسير، وإن كان النسق القبلي لجميع تلك الدساتير المختلفة هو بمثابة مرجع مركزي لتلك الأقاليم باستثناء الحجاز.
فلم يعرف بدوي نجد وأقاليمها مفهوم القانون لأن تفاصيل تعايشه بسيطة وتفاصيل معاملاته من حقوق وواجبات مع باقي أفراد جماعته أو حتى مع أعدائه بسيطة غير معقدة، لذا لم يكن يحتاج إلى نظام معقد مثل الذي يوفره له القانون، بل كان يعتمد على خبرات العقل الجمعي عبر تقليده لضوابطه ومعايير تقييمه.
كما كان لكل إمارة من إمارات إقليم نجد حاكم وكان بين بعضها تحالفات كما كان بين البعض الآخر ثارات وعداوات لها مراجعها التاريخية الموروثة، كما كانت الأحساء والقطيف تمثلان حكما مستقلا عن نجد وإماراتها، وهذا لم يمانع قيام بعض الأحلاف بين بعض الإمارات في نجد لمنافع اقتصادية وأخرى عسكرية، مثل الحلف الذي كان بين أمير الإحساء وأمير عيينة الأمير معمّر الذي رضخ لأمر حاكم الأحساء سليمان بن عرعر وطرد الشيخ محمد بن عبدالوهاب، لتهديده بقطع الخراج عن إمارة العيينة، وبتحريض من الخليفة العثماني، أما الحجاز فكان حكمه تحت سيطرة الأشراف، الذين كانوا بدورهم مجرد ولاة أو حكام إداريين للحكومات الكبيرة القوية، فكان الحاكم ينصب ويعزل باستصدار قرار من الحكومة المركزية من الآستانة، أما إقليم تهامة وعسير فقد كانا بعيدين عن مصادر أي توتر سياسي طويل المدى، إلا ما قام به محمد بن علي الإدريسي من الاستعانة بالايطاليين والبريطانيين لتخلصه من حكم العثمانيين وظل في حماية هاتين الدولتين ليضرب به الدولة العثمانية ويشغلها عن خطط أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعد الحرب تخلت ايطاليا وبريطانيا عن الإدريسي، فرضخ للدولة السعودية الثالثة ودخل معها في حلف، إلا أنه حاول خيانة هذا الحلف عبر تعاضده مع حزب الأحرار الحجازي مما دفع الدولة السعودية إلى ضم جازان إلى بقية أراضيها والقضاء على الإدريسي عام 1351هـ 1932م.
أما عسير فترجحت حمايتها ما بين السلطة العثمانية والسلطة اليمنية حتى ضمّ إلى خارطة الدولة السعودية الثالثة.
ويقول عبدالله الحامد بأنه إقليم لم تسلط عليه أضواء التاريخ إلا منذ بروز الحركة الإصلاحية، وأنه يتميز بالحماس الديني القوي.
وفي ضوء ذلك التفكك السياسي وفي خضم ذلك الصراع كان أمن شبه الجزيرة مهددا من كل الجهات تتنازعه من فترة لأخرى أطماع خارجية يسيل لعابهم شهوة للسيطرة على المناطق الإستراتيجية، فالصحراء الشاسعة كانت تأوي اللصوص وقطّاع الطرق والحجاز فوق صفيح ساخن يضطرب لصراعات الأشراف فيما بينهم، فتدثر الأمن تحت تراب تلك الصراعات.
وعلى ساحل الخليج العربي كان الاستعمار الأوربي بدءا من البرتغاليين فالهولنديين وكذلك الفرس والانجليز والفرنسيين يتصارعون جميعا على مد نفوذهم وسيطرتهم على المناطق الإستراتيجية هناك.
وعلى المستوى الديني، كانت نفوس وأفكار بدو نجد تتخبطها الشياطين من كل مكان، وتقذف بهم من خرافة لخرافة ومن وهم لوهم، فكانت خرافة الزلفى والصوفية التي شاعت عند بدو نجد وأقاليمها وجميع أرجاء الجزيرة العربية، فضللت الروح، وأضاعت طريقها نحو السماء من خلال تحريف مضل للتعاليم الدينية الصحيحة، حيث زرعت الصوفية معتقد الأولياء في نفوس الناس، فأجلّت أضرحتهم، وما يتعلق بها من المفاهيم الخاطئة، التي ابتدعوها في عقول العامة والخاصة، وباتت نجد تظهر فيها بعض ألوان التصوف وبعض المفاهيم التي تتنافى مع أصول الدين الصحيحة.
وقد كان في نجد بعض القبور تنسب إلى صحابة الرسول الكريم، يحج إليها الناس، ويستغيثون بها لدفع الكرب والهم في الجبيلة، وفي الدرعية وفي غيرها، والأنكى من ذلك التوسل إلى فحل النخل في بلدة منفوحة، واعتقادهم أن من تزوره من النساء العوانس ترزق حينئذ بزوج.
كما كانت تنتشر الخرافات والتبرك بالأحجار والأشجار والذبح لغير الله، والاستغاثة بالأموات وطلب الشفاعة منهم، وبناء الأضرحة والمزارات، والاعتقاد بالسحر والكهانة انتشار الخرافة والإشراك بالله والانحراف عن هدي الإسلام وانتشار البدع وسيطرة التقاليد والأعراف المنافية للحق، وكثرة لجوء الناس إلى الكهان والمشعوذين، كذلك شاعت الصوفية وطرقها في الحجاز وتهامة كالسنوسية والقادرية والكيلانية، والبكطاشية حيث يكثر المريدون والأتباع وتغرب العادات والعبادات وتتناثر الأربطة والزوايا وبخاصة في الحرمين الشريفين.
ومن أهم الزوايا الصوفية في الحجاز، زاوية السمالة وزاوية عبدالقادر الجيلاني والبدوي والسنوسي والقشاشي، والجنيد والصاوي وابن علوان، وفي تهامة ردد الناس اسم ابن علوان والزيلعي وابن العجيل محفوفة بهالة من التقديس والتأليه والأخبار الأسطورية.
وفي أطراف الأحساء وأعماق القطيف توجد الاحتفالات الدينية بالمناسبات الشيعية وأبرزها يوم عاشوراء حيث تكثر الخطب، والاحتفالات والبكاء والنشيج، ولطم الخدود وخمش الصدور.
وتكثر العادات والبدع الدينية في الحجاز حيث المتصوفة، وسدنة القبور ينتشرون في كل مكان، ومن العادات، عادة الرجبية التي تقام في شهر رجب من كل عام في المدينة حيث يفد الناس من مكة وجدة ورابغ وجنوب اليمن قوافل ولكل منهم رئيس وعلم حاد، فيطوفون على المشاهد والقبور يغنون ويتمايلون ثم تقام السرادقات وتكتظ البيوت بالزوار حول قبر حمزة بن عبدالمطلب، ويجتمع أعيان البلد من شيخ الحرم حتى الوالي ويصلون ويذبحون الذبائح يوفون النذور ويطربون ويغنون، إضافة إلى ذلك أعياد المولد النبوي والمعراج والهجرة وعيد ليلة نصف شعبان، وغيرها حيث تتحول الذكرى الدينية إلى هوامش ميتة، من السرد الخرافي الأسطوري، والتعظيم والغلو، وإدخال اللهو والطرب والغناء في مقامات الذكر والدعاء.
يقول ابن سحمان في بدعة الاحتفال بمولد الرسول الكريم، وما يكون فيه من غناء ورقص ونقر ومنكرات.
ونبرأ من طرائف مٌحدثات ملاء من ملاعب ذي الضلال
بألحان وتصدية ورقص ومزمار ودّف ذي اغتيال
وأذكار ملفقة وشعر بأصوات تروق لذي الخبال
حينا كالكلاب لدى انتحال وحينا كالحمير أو البغال
وكانت من عادة زيارة قبر النبي الكريم أن الزوار إذا قدموا على القبر أن يسلموا على النبي بينما يقرب المجاورون القرابين ويذبحون الذبائح من غنم وإبل حين يقترب الوالي للسلام على النبي.
إن اتباع منهج الزلفى والصوفية الذي يزحزح ثقة المسلم عن مسلّمة الوحدانية، هو الذي يشتت النفس ويفرّغ الروح من معطيات الطمأنينة ورقي النفس والسلوك والضمير والعقلانية، عندما نشحن أحلامنا وأمنياتنا داخل جوامد وموتى ورقصات تظل تدور وتدور حول نقطة الصفر، فحضارة النفس خط بياني متصاعد يكفله نظام التغير، والتدوير يمسك التجربة الإنسانية عن التصاعد ويحجب عنها رؤية الاستشراف، فتظل غارقة في وهم كشوف الباطنيات، وأسلوب الكرامات الذي يسخر من عقل الإنسان فيسقطه في بئر هرطقات متصوّف كسول يترزق على غباء الجهلة وسذاجتهم.
لاشك أن الصوفية حادت عن الطريق المستقيم أوائل العصر العباسي الثاني، وإن كانت بداياتها قائمة على مبدأ التطهّر من الفساد والمجون الذي انتشر في أرجاء الدولة العباسية، وهو مبدأ لا يخالف قوانين الشريعة الإسلامية إذا جمع بين العلم والعمل، لكن مع تأزم الحياة الدينية للمجتمع الإسلامي واختلاط العلوم الدينية بعلوم الفلسفة وعلم الكلام وعقلانيات المعتزلة وتأويلات الباطنية، شطحت رؤاها وتأويلاتها وادعاءاتها، وأفضل وصف لِم آلت إليها الصوفية في زمن ابن تيمية وما قبله حتى عصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ما قاله ابن تيمية (فيهم من يطير في الهواء والشيطان طائر به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم، وفيهم من يحضر طعاما وإداما فيحسب الجاهلون أن هذه من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال الكهنة والسحرة وأمثالهم من الشياطين) 38
كما يقول أيضا: (فالعبادات والزهادات والمقالات والتورعات الخارجة عن سبيل الله، هي سبيل الشيطان، ولو كان لأحدهم من الخوارق ما كان فليس أحدهم بأعظم من مقدمهم الدجال الذي يقول للسماء أمطري فتمطر وللأرض انبتي فتنبت) 39
إن خطورة الصوفية تكمن في مبادئها التي تعطّل قدرات المسلم وهممه عن العمل وقانون الأعمار والاستخلاف في الأرض، كما تعطّل دوره الاجتماعي في مقاومة الظلم والخرافات وتطوير خبرته الإنسانية عبر العلم والعمل، فتورثه التواكل والبطالة.
فجوهر تقييم الفعل الإنساني في الإسلام العدالة بين حاجات الروح والجسد، لذا فالروح والجسد كفتان متساويتان في ميزان الفعل الإنساني، هكذا أرشدنا دستورنا الديني، والخلل يحدث عندما نرحل كل طاقات وجداننا الروحي إلى جسدنا فنهمل احتياجات الروح وتغرق أجسادنا في جحيم الوجودية فيتأله العقل، أو عندما نرحّل طاقتنا الجسدية إلى وجداننا الروحي، وبذا فالروح تجمع بين الطاقات المخصصة لها ويضاف لها طاقات الجسد، هكذا إضافة تقلب ميزان الفعل الإنساني رأسا على عقب، فيختل النظام الإلهي المقدّر للقدرة البشرية ووظيفتها وغايتها، فتتجاوز تأملات الوجدان حدود مقدرتها نتيجة سكرة التخمة التي أصابها وتبدى بالهذيان في توصيف مناطق الظلام الذي أصابها بعد تجاوز حدود المقدرة المتاحة لها، في تأويلات مبطنة بدلالات تحميها لغة خاصة بالصوفية وتجلياتها.
إنها إعادة لتشكيل الأشياء، ليقلب نظام المألوف، فالأنا هنا تعيش نشوة الحلم والتقلب، لحظة الفيض بين الأنا والآخر حيث الحدود بين الكلمات والأشياء واهية، فتجيز الاتحاد والحلول، فتكتسب الأشياء اندماجها مع مصادرها وتلغى الحدود، فتتجلى مناطق الاتحاد نحو الأشياء، متماهية عبر رياضات نفسية، تستحضر نشوة الجسد للحظة التجلي المتصاعدة، لتظل تدور في حركة تطهّر بها الجسد قبل لحظة الاندماج.
لقد حارب الشيخ محمد بن عبدالوهاب في حركته التصحيحية الصوفية كما حارب خرافة الزلفى، فكلتاهما مشتركتان في أزمة الإيمان التي أصابت روح بدوي نجد بل وكل ساكني شبه الجزيرة العربية بل كل العالم الإسلامي، فعطّلت قدرات عقله ووعيه على ضرورة التغيير وفق مناهج وأشكال الحضارة.
إنها حيرة وتوهان لروح ذلك البدوي ولعقله عندما تتعدد الآلهة، فيهيم على وجهه متخبطا أو تضيق به الحياة كمن يصّعد إلى السماء، ثم تفقد النفس توازنها، التوازن الذي يمنحها قيمة المصالحة مع الروح والعقل فترى الأشياء كما ينبغي أن تراها، إنها قيمة الرؤية التي منحها الشيخ محمد بن عبدالوهاب بحركته التصحيحية لكل ساكني شبه الجزيرة العربية، فجدد عقيدة إيمانهم، جدد أرواحهم، جدد عقولهم، وأعاد صياغة التوازن مع أنفسهم الحيرى والتائهة.
لقد علمهم أن أسهل الأشياء أن تكون مشروع كائن.. وأصعب الأشياء أن تمثل قيمة إنسانية.
لقد استطاعت حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب التصحيحية أن تعيد صياغة الإنسان الواعي الفاعل داخل بدو نجد وكل من آمن بحركته، أن تصمم بطاقة هوية ومواطنة، تعلّم ذلك البدوي مفهوم الانتماء وضوابطه الاجتماعية.
إن تجربة الإصلاح التي أسسها الشيخ محمد بن عبدالوهاب تنبثق من إعادة ملء الفراغ النفسي والروحي لبدو نجد بقيم الإيمان الصحيحة، هذا فقد أدرك الشيخ أن الإصلاح يبدأ من تصحيح عقيدة التوحيد عند الناس التي اعتراها الانحراف والمضللات والبعد عن مركزية الثقة بالله وتوحيدها.
إن توحيد عقيدة الناس يؤدي إلى توحيد نفوسهم وأفكارهم ومبادئها واهتماماتهم ونظمها الاجتماعية وضوابط سلوكها ومعاييرها، أي بإيجاز توحيد (هويتهم).
هكذا كانت شبه الجزيرة العربية تشبه الإنسان الذي يعيش فيها وبها موحدة الملامح مختلفة الطبائع تجمع المتناقضات بجوار بعضها البعض، إنها توليفة إلهية تدخل العقل الإنساني في تثبيت منهجية الاختلاف والمتناقض الذي كما يبث فيها الحياة يمنحها أيضا الموت، ورغم ذلك لا تتعرض للعدم إلا وفق مشيئة موعدة.
لاشك أن للصحراء دور البطولة المطلقة في منهج تأجيج الصراع بين ساكنيها ولا يعني ذلك أن الصحراء تمثل جزءا من الخطيئة الأزلية، لكن التنافس الإنساني عندما يتحكم فيه قانون الحياة والموت يتحول إلى صراع، إنه ذات القانون الذي سنّ الخطيئة الإنسانية الأولى فوق الأرض.
إن الفرق بين التنافس والصراع هو فرق في مقادير القوى التي تسكن كفتي الميزان، فإذا تساوت الكفتان فهو تنافس وإذا غلبت إحداهما الأخرى فهو صراع، لأن القوي مفطور على إلغاء الضعيف، وبذا فخلف كل عقل واع دوافع حيوانية، هذا ليس منطق العصور البدائية، بل كذلك منطق حضارة القرن العشرين قرن العلم والمعرفة وحقوق الإنسان، تبلورت في أقوى نظريتين النظرية الميكيافلية ونظرية السوبرمان لنيتشه اللتان تسوغان قوة بلا أخلاق، فلا شيء في الحياة ذو قيمة إلا بالقوة، هكذا يرسم نيتشه الحياة من وجهة نظره، الحياة التي تعني لنيتشه الإنسان السوبرمان الإنسان الأعلى والأقوى التي تتمصدر جميع أفعاله عن إرادة القوة التي تبتهج بالاستيلاء على الآخرين وإخضاعهم لقوته فلا مكان للضعفاء كما لا مكان لأخلاق العبيد في دستور الإنسان الأعلى، فقط القوة، القوة المادية، والحرب هي الممثل الرسمي والأول لتدريب عضلات الإنسان الأعلى على اختبار قوته، ولذا فلا غرابة أن يكون زمن نيتشه هو زمن العنف والصراعات وحروب بلغت (130) حربا وضحاياها بلغوا (120) مليون إنسان، التي ساهمت نظريته في تأجيج أزمات العنف، وتحويل الوحوش الشقراء البيضاء إلى أبطال، والتاريخ يعيد اليوم نفسه!.
إن وعي الإنسان الفرد يعبر عن الوعي السائد في مجتمعه، يعني بلغة فرويد (أن بنية النفس الفردية توافق مع بنية المؤسسات الاجتماعية).
إذن هناك تقارب في وجهة النظر بين بدو الصحراء ونيتشه فيما يتعلق بأهمية القوة والإنسان السوبرمان، لكن الاختلاف الذي منع التطابق بين وجهتي النظر هي الغاية فالبدوي يؤمن بالقوة من أجل البقاء، والإنسان الأعلى عند نيتشه يؤمن بالقوة من أجل السلطة والسيطرة.
دائما هناك ثلاثة مصادر للصراع، الماء والكلأ والسلطة، مصادر أعتقد أنها دائما تمثل محتوى نص دراما الصراع الإنساني في كل زمان ومكان، رغم اختلاف الأسماء والعناوين، لكن الحكاية تظل كما هي بسيناريوهات مختلفة وأزياء مختلفة، فالبترول يحلّ محلّ الماء والكلأ في خطاب السياسة العالمية اليوم كما يحلّ حماية الشعوب العربية من الإرهاب وإنقاذ الشعوب العربية من طغيان الحكّام وتعليم الشعوب العربية ثقافات الديمقراطية في الخطاب السياسي العالمي اليوم مفهوم السلطة والهيمنة، والدين كذلك لا يخرج عن ذلك القانون، لأنه يحقق للمسلم نزعة السلطة والهيمنة، بما يكفل له وظيفة التعمير.
كما أن الصراع قد يتكثّف في لغة رمزية مثل التقليد والتجديد أو من خلال شرائح اجتماعية مثل الإقطاعيين والعمال، المرأة والرجل أو خلال السلطة والمعارضة، وتغير أسماء وجهات الصراع لا تغير من محتوى نص دراما الصراع الإنساني، أي حق البقاء وحق السلطة، لأن توافرهما يعني حماية ضد الفناء، وتوفير حق الحياة للأنا التي نتوهم أنها لا تحقق وجودها الا بعدمية الآخر.
الإحالات:
36 التطور السياسي في المملكة العربية السعودية، د.فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز، ص33.
37 المرجع السابق، ص37.
38 39 واقعية ابن تيمية، د.أنور خالد الزعبي ص151.


seham_h_a@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved