الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 25th September,2006 العدد : 172

الأثنين 3 ,رمضان 1427

فيلسوف تظن أن ابن رشد قد أتى زائراً أو الفارابي!
سليمان الشريف

في وداع الصديق الأستاذ/ عبدالرحمن البطحي (رحمه الله)
عجزَ الشِّعرُ أن يصوِّر ما بي
من شجونٍ ولوعةٍ واكتئابِ
كان يومُ الخميسِ يوماً حزيناً
لم أذق فيه مطعمي وشرابي
حيث فيه فقدتُ خلاَّ وفيا
كان حقَّا من خيرةِ الأصحاب
إن وقع المُصاب جدا أليمٌ
عجزتْ أن تطيقه أعصابي
ولو أنَّ الأعمارَ تُعْطَى لأعطيتُكَ
عمري خِلوَّا من الأوصاب
كنتُ أرجو شفاءه فأتاني
نعيُه بغتةً ودون حساب
فتأثرتُ ثم دارتْ بي الأرضُ
فأهويتُ فاقداً لصوابي
فزعَ الأهلُ حينما أبصروني
غارقاً في البكاءِ والانتحاب
تعتريني إذا خلوتُ بنفسي
طارقاتُ الشكوكِ والارتياب
وترى النوق في اشتياقٍ إليه
شاخصاتِ الأبصار للأبواب
ويُطِلْنَ الحنين حزناً عليه
والثرى ابتل من دموع (سحاب)*
وترى النخلَ حينما شفَّهُ الشوق
تمادى في سرعة الإرطاب
***
قد عرفناه منذ كان صغيراً
لم يكن مائلاً إلى الألعاب
ما رأيناه لاعباً ذات يومٍ
لا بدنَّانةٍ ولا بالكِعاب
فتراه بعد الدراسة يُمضي
معظم الوقت ممعناً في الكتاب
حملَ العبءَ بعد موت أبيه
وهو دون العشرينَ غض الإهاب
كان برَّاً بوالديه وبالأهل
رحيماً بصاحبات الحجاب
ولإخوانه الصغارِ محبٌّ
يتولاهمُ بلينِ الجناب
وعلى أحسن الخلائق ربَّاهم
بلا قسوةٍ ولا إرهاب
وينمي محبة الصدق فيهم
ويغذي كراهةً الكذاب
وهو برٌّ بأصدقاء أبيه
وخصوصاً شيخاً من الأعراب
فتراه يزور إن حلَّ عيدٌ
ويواسي لدى وقوع مُصاب
وإذا ما احتاجوا إلى العون في أمرٍ
تصدّى بهمةٍ واحتساب
كان عفَّ اللسانِ والكف والنف
سِ كريماً يداً نقيَّ الثياب
ثمرُ النخلِ في (مُطِلةَ)* للأهل
وللصحبِ والفقير الترابي
فإذا زاد بعد ذلك شيءٌ
يشتريه المريدُ للاكتساب
وتراه في ظلمة الليل يسْعَى
لبيوتٍ تعيش بالانتساب
كم عجوزٍ دعتْ له في المصلَّى
آخرَ الليل وهي في المحراب
***
ثلثُ قرنٍ من عمرهِ قد قضاهُ
في مجالِ التعليم بعد الإياب
كان فيه مدرساً ومديراً
بارزاً فيهما على الأضْراب
وله عند الجميع مقامٌ
واحترامٌ جم لدى الطلاب
مرحٌ يقبل المزاح بقدرٍ
ليس فيه شيءٌ من الإغضاب
قد قضى عمره بدون زواجٍ
فدعوناه (سيد العُزّاب)
لم يكن رفضه الزواج لعيبٍ
أو لعقمٍ أو قلة الإخصاب
إنما قصده لكبح جماح النفس
عن لذة الهوى والتصابي
وليبقى مع الكتاب طويلاً
يستقي من معينه المنساب
حيث لا زوجةٌ تغارُ فتغريه
بشيءٍ من دلها الجذاب
ثم يأتي الأولادُ والبيت يُضحي
مسرحاً للضجيج والألعاب
ثم تأتي مطالب البيت فالوقتُ
مضاعٌ في جيئة وذهاب
ولهذي الأسباب ما عاد للوم
سبيلٌ، وسدَّ باب العتاب
وغدا ينتقي من الحور ما شاء
بحول المهيمن الوهاب
وبعيداً عن البهارج والأضواء
أمضى حياته في احتجاب
لم يكن همّه اللهاثَ وراء المال
أو مطمحاً إلى الألقاب
إنما كان همّهُ النفعَ للناسِ
ومَقْتا للمظهر الكذَّاب
***
إن بيتا في (المِسْهَريّةِ)* يحكي
قصةَ البدءِ وانطلاق الرِّكاب
فتح الباب منذ خمسينَ عاماً
لمريديه شيبهم والشباب
فمريدوه من مشاربَ شتى
في ثقافاتهم وفي الآراب
ولهُ في شتَّى البلاد صداقا
تُ عقولٍ متينةُ الأطناب
فالصداقاتُ ثروة تكسبُ المرءَ
اقتداراً على اجتياز الصِّعاب
كل علمٍ أدلى له فيه دلواً
باختلاف في قوة الأسباب
فهو موسوعةٌ على الأرض تمشي
في جميع العلومِ والآداب
وهو في موقف الدفاع عن الحقِّ
شجاعٌ وليس بالهيَّاب
يَقرِضُ الشعر بالفصيح وبالشعبي
لكن بقلّةٍ واقتضاب
فإذا ما اقتضى الإطالة أمر
فلهُ قدرةٌ على الإسهاب
وهو في عالم الرواية ثَبْتُ
يعتني في اختياره باللباب
وهو ذو هِمّةٍ وعزة نفسٍ
ضاعفا من طموحه الوثاب
لوذعيٌّ باللمح يدركُ ما لا
يدركُ الآخرون بالانكباب
وهو في مهمه الفلاةِ قطاةٌ
يهتدي في سهولها والهضاب
وهو في الحرثِ والنجوم مُلِمٌ
حجةٌ في التاريخ والأنساب
وهو للدارسين تاريخ نجدٍ
مصدرٌ صادقٌ مليءُ الوِطاب
ولقد كان قارئاً مستفيضاً
مع فهم وقوةِ استيعاب
وتراه لدى الحوار صريحاً
لا يُماري في قوله أو يُحابي
كان يأتي مضاربَ البدو يستطلعُ
ما عندهم عن الأقطاب
أو لتدوينه نصوصاً من الشعر
توارتْ عن أعين الكتَّاب
فيلسوف تظن أن (ابن رشد)
قد أتى زائرا أو (الفارابي)
فإذا ما تناول البحث في الطبِّ
كأنَّا في مركز استطباب
ولقد كان بالتراث ولوعا
كسيوفٍ، بنادقٍ أو حِراب
أو نقودٍ من فضةٍ أو نحاسٍ
أو جفانٍ قديمة كالجوابي
لم أحاول إحصاءَ ما يقتنيه
بل أردتُ التمثيل بالانتخاب
يتقن الخط باليمين وباليسرى
وهذا من العجيب العُجاب
يبدأ السطر باليمين وينهيه
بيسراه دون أيّ اضطراب
أنا ما قلتُ عنه إلا قليلا
وأمور كثيرة في الخوابي
وستبدي الأيامُ ما قد جهلناهُ
وما ندَّ تحت جُنحِ الضباب
***
يتراءى قبل الغروب لعيني
باسمَ الثغرِ آتيا لاصطحابي
ثم نمضي إلى (مُطِلَّةَ) نمضي
أول الليلِ فوق تلك الرحاب
فإذا غابتْ الغزالةُ قمنا
لأداء الصلاة بعد الغياب
ثم نأتي بعد الصلاةِ سراعاً
لتلقّي حديثه المستطاب
فإذا وجه السؤال إليه
أحدُ الحاضرين في أي باب
فترى الجالسين أصغوا جميعا
باشتياقٍ إلى سماع الجواب
ثم ينهل كالغمامة سحَّا
أو كنهرٍ جارٍ غزير العُباب
وإذا اضطر أن يحاور شخصا
حظهُ في الذكاء دون النصاب
لم يكن قاسيا عليه غليظاً
أو يصفه بالجهل أو بالتغابي
بل تراه بحكمةٍ وهدوءٍ
راح يهديه للطريق الصواب
وإذا كان في الحضور غريب
فتراهُ يخصهُ بالخطاب
وإذا ما أتى إليه ضيوف
هبَّ يلقى الضيوفَ بالترحاب
وهو عند اللقاء سمحٌ بشوشٌ
وسريعُ التأثيرِ والاجتذاب
***
كان جلداً على البلاء صبوراً
ما تشكَّى من علة أو مُصاب
حملَ الداءَ بين جنبيه دهراً
وهو داءٌ مكشِّرُ الأنياب
وهو داءٌ على العلاج عصي
ويصيبُ الأكبادَ بالالتهاب
أنا والله ما علمتُ بهذا
رغم أني من أقرب الأحباب
ولقد زاد في البلاءِ فتوق
وقعُ آلامها كطعمِ الحراب
وهو بين الحضور يبدو سليما
مثل ظبي يعيش بين الشعاب
فإذا ما حم القضاءُ فلا نملكُ
غير الدعاءِ والاحتساب
كل حي مآله باطنُ الأرض
إلى أن يحينَ يومُ المآب
وهو إما إلى نعيمٍ مقيمٍ
أو إلى النار في أشد العذاب
ربِّ فارحم ولا تكلنا إلى ما
قد عملناهُ فهو لمعُ سراب
ربي فاغفر لي وأسبغ عليه
رحمة من لدنك عند الحساب
يا إلهي أسكنه جنة عدن
تحت ظل النخيلِ والأعناب
ولتبارك ياربي في ابني أخيه*
وتفضَّل عليهما بالثواب
حيث كانا كابنيه في كل شيء
وينوبان عنه عند الغياب
واستمرا بعد الوفاة على ما
كان قبل الوفاة دون انقلاب
فيجيئان كل يوم مساء
ويجيءُ الصحابُ تلو الصحاب
وسنبقى إلى (مُطِلَّةَ) نأتي
كل يوم برغبةٍ وانجذاب
وإذا كان في الثرى قد توارى
فهو حي يعيش في الألباب
إنْ يكرَّم بمنتدى وطريقٍ
يحملان اسمه فعينُ الصواب
وسيبقى في المنتدى نبضه الدَّا
فقُ في خطّ سيره الإيجابي
***
يا أبا إبراهيم مهما طرقنا
من ضروب الإيجاز والإطناب
فلقد قصر البيانُ عن البوح
بما في النفوسِ من إعجاب
أنت في الفكر والثقافة رمزٌ
سوف يبقى على مدى الأحقاب
يا سمي (الكواكبي) و(ابن سعدي)
و(ابن عوف) والفارس الغلاب
أنت ما زلت فارساً وستبقى
للعصامي قدوةً في الطِّلاب
وأنا في الختام أبدي اعتذاري
فأنا لم أقل سوى الأهداب
***
* (سحاب): بَكْر لم يبلغ مبلغ الجمال، إذا رأى الراحل مقبلا أتى إليه ووضع رأسه على كتفه، ثم يربت عليه الراحل ويلاطفه.
* (مُطِلَّة): مزرعة الراحل.
* (المسهرية): الحارة التي كان فيها بيت الراحل القديم.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved