الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 25th October,2004 العدد : 82

الأثنين 11 ,رمضان 1425

«2»قراءة في كتاب (خواطر مصرحة)
المروة والصفا شرارة التنوير الأولى
تنوّرها: سحمي الهاجري *

القسم الثاني: الوهج
«1» الكتاب
كثيرون ممن تعرضوا لكتاب (خواطر مصرحة) اعتبروه مجموعة من المقالات المتفرقة، ولكن في التحليل النهائي فإن هذه الموضوعات تتميز بوحدة الهدف والانطباع والتأثير، فقد صاغها على هيئة نظام التجميع (assembly line) لمواجهة الصلادة والتكتل والجمود الاجتماعي بطرح منظومة من القيم المطلقة وربطها بقضايا مفصلية كفيلة بخلخلة الخطاب المنتج لقيم معاكسة.
وطبيعة الكتب على هذه الشاكلة التركيز على ما هو جدير بالتأمل والتدوين والدرس، وتلافي ما يظهر من تشتت الموضوعات بتجميعها، بحيث يكون كل موضوع في الظاهر مغلقا على نفسه، ولكنه في نفس الوقت انعكاس لما يحيط به.
وإضافة إلى ذلك حاول العواد أن يوجد رابطا إجرائيا، برسم شخصية (هزازة) المستعارة من نافذة الخيال (58), لتكون توطئة تتناسل منها بقية مواضيع الكتاب.
وهي بصفاتها المثيرة والمتناقضة تتناسب مع ما يقتضيه التنوير من كشف وشمولية، ولا يخفى ما في خاصية الهز والحركة من المخض، والاستخلاص.
وإذا كانت قضايا مثل الدين والمرأة والتعليم والاقتصاد تشكل سداة الكتاب فإن لحمته هي تلك القيم المطلقة التي كانت النسبة العددية لدورانها تعبيرا عميقا وغير مباشر عن أزمة تعانيها هذه القيم في ظل الخطاب الاجتماعي السائد في ذلك الوقت، ليتشكل بتقاطع القضايا والقيم نسيج الكتاب، مثل: حرية الفكر، والتجديد العصري، والتنوير، والنهضة والتقدم، والفتوة، والابتكار والإبداع .
والموضوعات والقضايا التي ضمها الكتاب في عمومها متداخلة ومترابطة، لأنها تصدر عن رؤية واحدة، ولكنها من حيث الشكل العام تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القضايا اللغوية والأدبية، والقضايا الفكرية، والقضايا العامة.
وقد أجملت أهم الأفكار في كل موضوع أو قضية ثم اخترت قضية واحدة من كل قسم لبسط الحديث فيها، وهي قضايا الشعر والدين والمرأة، لإيضاح طريقته ومنهجه ومدخله في طرح هذه القضايا الهامة، التي لا زالت تطرح حتى الآن.
***
ومع أنه أديب، ودخل إلى مواضيع كتابه من زاوية الأدب، إلا أنه أبلى بلاء حسنا في المواضيع والقضايا غير الأدبية أكثر مما فعل في المواضيع اللغوية والأدبية.
فمثلا مفهومه الغائم لّلغة نجده في إجابته على سؤال الصبان، فقد حاول التفريق بين الألفاظ والأسلوب، وأشار إلى اللغة في عصر التهذيب الثالث، ثم قفز إلى فكرة متقدمة، وقال (لا يحسن باللغة العربية أن تقف جامدة مكتوفة اليدين تظن يوميا بالألفاظ الجديدة) (59)، فيذكرنا بمقولة باختين عن اللغة الشهرية والأسبوعية واليومية.
وحين يتطرق للأسلوب يعود إلى دائرة الألفاظ مرة أخرى. يقول (نحن في القرن العشرين المملوء بالمكتشفات والمخترعات لا في القرن السادس عصر الفأس والجمل والهراوة
والقدوم والحيزبون والخنشليل والعلطبيس) (60)، ثم ترتبك عباراته بشكل جلي حين يقول إن الأسلوب الذي يفضله هو (الأسلوب القرآني، وبالأوضح الأسلوب العربي المعقول، أعني الأسلوب العصري الصحيح المتداول).(61)
فمن الواضح أنه في تلك الفترة غير مهيأ لبلورة مفهوم واضح للانتقال من دائرة اللغة من حيث هي كلام، إلى مفهوم اللغة من حيث هي نظام، فضلا عن مفهوم اللغة من حيث هي كشف واستشراف.
وإن كان ذكر بإجمال (الألفاظ الموحية) (62) و(الألفاظ الميتة) (63) ويلاحظ في هذا السياق إلحاحه على قضية التعريب، والفصاحة، وأنه يفضل الاحتفاظ باللفظ الأجنبي إذا كان تعريبه كلمة عامية.
(64) وعندما يذكر البلاغة، ويطنب في طلبها لا يبتعد كثيرا عن مفهومه الغائم عن الأسلوب، فيلاحظ أنه لم يحدد مفهومه الخاص عنها، بل يذكر أين لم يجدها، وأين وجدها، ويتبرأ من مفهوم أدباء عصره عن البلاغة استقبالا وإنتاجا، فيقول (لكم دينكم ولي دين) (65) ويترك الباقي للقارئ.
ومفاهيمه العريضة عن الأسلوب والبلاغة إنما تعكس في الحقيقة أن حاجاته عامة وعريضة، أكثر مما تعكس مفاهيم نظرية أو إجرائية واضحة عن الأسلوب والبلاغة في تلك المرحلة المبكرة.
وفي مجال القصة جاء نص الزواج الإجباري (66) الذي اعتبرة عدد من الباحثين أول نص قصصي (67)، وإن كان لا يعدو كونه هيكلا أو مخططا مبدئيا لقصة. وفي النقد يلح على حرية الناقد، ويذكر (يكن) الناقد الحر (68). ويعرض لكتاب مي زيادة (بين الجزر والمد)، وينقل عنها ما أوردته من تقسيم الشعر إلى شعر هندسي وهو الذي يطلب من وراء الأوزان والمقاييس والعروض وكأنها تحجبه والشعر التصويري: أي الرومانسي والواقعي والحر، والشعر الرمزي: وهو ما يفهم أن وراء جمود الظواهر وحركتها روحا نابضة.
ويذكر أن مي زيادة نقلت هذه التقسيمات عن فردينان برونتير من أدباء فرنسا في القرن السابع عشر.(69)
ومفهومه عن نقد القضايا الاجتماعية العامة هو في الغالب إظهار المثالب، يقول (مرارة النقد أجمل من حلاوة الغش)(70)
وحين يتعرض للقضايا الفكرية والعامة، يبدأ بالتعليم بصفته أساس كل تنوير وتقدم، وينتقد حالة التعليم كما وكيفا، ويخلص إلى أن أولى المشاكل هي قلة المدارس, ثم ما سماه (تضييق أفق الاطلاع.. الفكرة التي تتبناها مدارسنا وتحارب بها مواهب تلاميذها بدون وعي) (71) حسب تعبيره. ويرى أن (أحسن وسيلة لتربية العقل هي التفكير بحرية وعدم قبول الأشياء على علاتها) (72) ويؤكد على الحاجة إلى اللغات
الأجنبية، ويثني على الدولة التي استجابت لاقتراحه وأقرت تعليمها، واعتبر ذلك (خطوة إلى الأمام)، (73) ويجدها فرصة للمقارنة بين الملك السابق الذي كان يخشى انتشار التعليم والملك اللاحق:
فمليك ينشر العلم لينموا
ومليك يرهب العلم القويم (74)
ثم يخلص إلى الاقتصاد وكانت له نظرات ثاقبة في هذا المجال، أهمها:
1 أن قيمة العمل لديه تأتي في المرتبة الثالثة بعد التفكير والحرية (اعمل لتعيش) (75)، وذلك في (المنافستو) الذي سماه: فلسفة الحياة العصرية. وفي موضع آخر يؤكد على مبدأ هام في هذا الخصوص هو مبدأ الجدارة، وعبارته التالية (الوظائف بالكفاءة والاستحقاق) تكاد تتطابق معها المادة الأولى من نظام الخدمة المدنية الحالي في المملكة: (الجدارة هي الأساس في اختيار الموظفين لشغل الوظيفة العامة) (76) المقتبسة من مصادر عالمية.
2 ما ذكره عن الدخول الريعية المتحققة من مهنة الطوافة، وأوجه صرفها التي غالبا ما تكون استهلاكية، أوترفيهية (77)، يكاد ينطبق على ما حدث بعد ذلك للدخل الريعي من البترول، وإنفاق جزء منه على السلع والمظاهر الاستهلاكية والترفيهية.
وقام بعمليات حسابية (78) اقترح بناء عليها استثمار جزء من الدخل الريعي في التعليم، والرعاية الاجتماعية، من تأسيس مدارس صناعية، ومدارس كبرى (كليات)، وملاجئ عامة للأيتام. وإنشاء شركات ومصانع منتجة، مثل: شركة للماء، وشركة للكهرباء، وشركة للتجارة، وشركة النشر الحجازية، والتلفون اللاسلكي، والبريد الكهربائي، ومعامل لاستخراج العطور، باخرة تجارية تتحول إلى أسطول.. وهذه الأفكار في وقتها كانت طموحة جدا وأقرب إلى الخيال.
ولأنه صاحب مشروع يحرص على نجاحه وليس مجرد واعظ أو داعية، يفقد وظيفته لو نجحت مهمته قام بتدوين عدد من المحفزات التي تشجع الناس وتدفعهم لقبول أفكاره،
منها: الرخاء الاقتصادي، والرفاهية المتمثلة في استئجار الطائرات, والقطار الكهربائي الجوي بعد الملل من ركوب الطائرات, والجو المبرد بآلة واحدة، والنزل الآبنوسي، والسياح في الطائف من كافة بلاد الدنيا، والطلاب المبتعثون لجامعة الحقائق العربية، والمعتمرون من اليابان، والتصدير والبواخر, والعزة الوطنية المتمثلة في كثرة المخترعين والنوابغ من أهل البلاد.(79)
إذن هو يربط ربطا وثيقا بين تقدم التعليم والتقدم الاقتصادي، لأن شيوع الأمية سهل على من سماهم شيوخ الطرق الذكرية السيطرة على الناس، فأخذوا فائض إنتاج المجتمع على شكل نذور، وأوقاف، وصدقات، وأعطيات، وتبرعات. وأخذوا فائض قوة العمل على شكل تأدية طقوس يتفننون في فرضها على الناس، لتبقيهم تحت رقابتهم، وتساعدهم في نفس الوقت على إملاء خطابهم بشكل مستدام، وترسيخ سلطتهم بطريقة متصاعدة.
وفي القضايا الاجتماعية كان يقدم تشخيصا لبعض المشاكل ومن خلال وصفة العلاج نكتشف بشكل غير مباشر أدواء هذا المجتمع، مثل: الزواج الإجباري (80) وسوء عاقبة العادات والتقاليد السيئة, وهضم حقوق الغير من أبناء بلادنا, والدعوة إلى التفاهم, وتجنب الخشية من السفر للعلم.(81) ثم يقدم مجموعة من التعليمات التي يسميها (دساتيرالحياة العصرية) وأهمها: عش حرا كن مفكرا اعمل لتعيش اترك التقعر وحب الظهور الكاذب اندمج بعادات بلادك الصالحة ميز ما تراه اندفع إلى التقدم (82) وفي موضع آخر يقدم هذه التوصية: (لا يجب أن ننسى ما للغير من فضائل ولا يجب أن نشمئز من ذكرها ولو كان فيها غضاضة علينا) (83) فهو يكرر التأكيد على قيمة الحرية، والتفكير، والواقعية، ويفرق بين العادات والتقاليد الصالحة وغير الصالحة، وقيمة النقد القائم على البصيرة الثاقبة، وعلى الفعالية في التقدم، وعلى أخذ الصالح من تجارب الآخرين.
قضايا مختارة
أ الشعر
مفهوم العواد عن الشعر في هذا الكتاب يعكس حالة غياب فادحة لقيم فكرية ونفسية وجمالية يحاول إيجادها من خلال الشعر، وعباراته الفضفاضة عن الشعر تتخطى التعريفات الفنية، وتنبئ عن حاجات لا يلبيها إلا معجزات، أومخلص، أوتنوير.
فالشعر (قوة سحرية ) (84)، أو(روح متمردعات) أو (روح سام يهبط من السماء) (85)، بما يتناسب مع وضع يحتاج الخروج منه إلى معجزات.
وأحيانا يتلبس الشعر صفات المخلص المنتظر الذي يجيد لعبة الاختباء، فهو في كل مكان ولا مكان، فيكون مرة على هيئة (يد خفية تمر على القلوب المكلومة فتنزع منها
الآلام) (86)، ومرة أخرى يتخفى في الماورائيات والمافوقيات، (الشعر أمر آخر وراء الألفاظ والمعاني وفوق الأفكار والتعابير) (87)
أما في الظلمات المدلهمة فهو (فجر يضيء ظلام الحياة الدامس) (88) و(يبدد بأشعته الظلمات إذا أتى) (89)، والشرط هنا دليل مؤكد على الغياب، وترهيب من عدم المجيء، وترغيب فيه، وأمل بحدوثه.
وهذه المفاهيم العامة هي الغالبة على إحساسه بأهمية الشعر، ومن الواضح تغلب الحاجات وغياب ما يقابلها على مفهومه الذي يظل غير محدد، فالألفاظ مستقرات وأكسية، والشعر وراءها, أما الأفكار والتعابير فهو فوقها (90)، ولذلك حين يجد نفسه مطالبا بملامح أكثر تحديدا يجنح إلى تعميمها أيضا، يقول محددا الصفات التي أعجبته في شعر (ولي الدين يكن ):
رنة موسيقية تقيم الأنفس وتقعدها
لغة صقيلة منخولة
أسلوب حي متفزز
أفكار جميلة واقعية راسخة في أعماق الحياة
حرية تشف من خلال التراكيب(91)
وكل ما سبق يوضح أن العواد يؤمن في العمق بتنوع الحاجات والظروف الذي يقتضي حرية الأشكال والوسائل، ويؤمن في الوقت نفسه بوحدة الحل وتماسكه الذي تقتضي وحدة المضمون، وهذا يفضي بنا إلى محورين أساسيين ارتكز عليهما العواد في شعره وتنظيره تأسيسا على ما ورد في هذا الكتاب: المحور الأول: الحرية في الشكل: من تنويع القوافي، والشعر المرسل، والشعر المنثور، الذي أطلق عليه فيما بعد مصطلح (شنر) دليل اهتمامه وعنايته به.
كل ذلك في محاولة لتجاوز ما سماه (الشعر المقيد)،(92) ليس فقط بقيود الوزن والقافية، بل بقيود التخلف والجمود، بحيث تحولت النصوص إلى مجرد (إكليشيهات) عتيقة متآكلة تفتقد الحيوية والإشراق، حتى ولو كانت جميلة وملهمة في بداياتها، لأنها ماتت من كثرة التكرار، في حين لا تتكرر ظروف الحياة وأحوالها.
فحرية شكل القصيدة عنده تتوافق مع رؤيته الشاملة للحرية بصفتها أحد القيم الأساسية التي تشكل نسيج الكتاب.
أماالمحور الثاني «وحدة المضمون»:
كانت حرية الشكل مع وحدة المضمون وتماسكه معادلة صعبة لا يستوعبها خطاب الجمود والتخلف، بل إن ما يفعله هو العكس تماما، على عادته في رؤية الأشياء مقلوبة على رؤوسها، فالثابت لديه متحرك، والمتحرك ثابت، والكروي مسطح، والجرم كوكب، والكوكب جرم.. وهكذا، ومع ذلك يدعي الحقيقة المطلقة، وعندما تثبت الحقيقة علميا على خلاف تقولاته يتخلى عن تصوراته السابقة المبنية على تأويلات تخص الخطاب نفسه ولا تمثل النص المؤسس بالضرورة ويعود ليبحث عن تأويلات جديدة توافق الحقيقة العلمية، فهو مثل الأعمى، أي مستطيع بغيره.
والطرق الذكرية التي شتمها العواد في هذا الكتاب خير تجسيد يوضح أن خطاب التخلف يذهب إلى الجهة المعاكسة تماما. أي ثبات الشكل العام، وتشتيت المضمون، فكل طريقة من هذه الطرق اجتزأت نصوصا ومأثورات وحكايات، وعملت منها خلطة سرية خاصة، وفتحت بها دكانا بجانب دكاكين الطرق الأخرى، ناهيك عن سويقة المذاهب والفرق والملل والنحل.
كان فكر التجزئة قد تغلغل في النفوس، ويروي الكثيرون حوادث ذات دلالات عميقة، فقد وصل الأمر إلى درجة عجيبة من التجزئة والتقوقع فكان أهل الحارة مثلا يمنعون سكان الحارات الأخرى من دخول حارتهم، وقد أورد المغربي حادثة وقوف أهل حارة اليمن بجدة في وجه أهل حارة الشام قائلين: (هذه حارتنا ولن نسمح لكم بالدخول. وأصر أهل حارة الشام على الدخول، وفقد رجال الحارتين أعصابهم فتسابوا، ثم استعملوا عصيهم يضربون بها بعضهم بعضا) (93)
وتكملة الحكاية لها دلالة بالغة أيضا، فقد تدخلت الشرطة وأخذت الجميع إلى السجن، وكان مساعد قائم مقام جدة يومها المرحوم الشيخ عبد العزيز بن زيد، يقول المغربي (سمعته يقول: إن كانت هذه المعركة بسبب الحدود فإننا سنرسل المتقاتلين إلى الحدود الحقيقية لحمايتها أما هذه الحدود داخل المدينة الواحدة فهي حدود كاذبة مفتعلة).(94)
لقد أدرك العواد أن الخلل الثقافي بدأ في مضمونه من الاختزال والتجزئة، بدأ من قراءة القصيدة بيتا بيتا، أو قراءة الآثار عبارة عبارة، أو قراءة القرآن آية آية وتغييب ما سواها بمخالفة المنهج الرباني الذي يؤكد على وحدة الكتاب ووحدة التشريع المتمثلة في قول العلي العظيم { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ( 95)، مما جعله يقول بحسرة (لا تفلح أمة يكثر فيها أرباب الطرق الذكرية) (96) إذن فإن مطلب وحدة القصيدة لم يكن مجرد مطلب فني أو جمالي فحسب، بل هو في العمق مطلب فكري ووجودي.
وحين ينتقل من حقل الرؤية إلى المستوى الإجرائي يقسم أغراض الشعر إلى:
* أغراض قديمة يجب نبذها، مثل: الخمريات والغزل والمديح والحماسة والحكمة، لأنها (أفكار مائتة) (97) ومثلها التشطير والتخميس والمدح التي يكيل لها شتائم من المؤكد أن قراءه يفهمونها تماما.(98)
* وأغراض جديدة يجب تبنيها، مثل:
الوطن بحاجاته المادية والمعنوية.
العادات والأخلاق بما فيها من فساد يتطلب النقد.
الحرية بأنواعها وما يجب من تمكينها في النفوس.
الشرق الكسول وتنشيطه
الطبيعة ووحيها للعقل والقلب
العرب بحالتهم السياسية.
الغرب باختراعاته ومدهشاته وأعماله.
الحياة بما فيها من خير وشر(99)
وهذه الأغراض كما هو واضح
تنطوي على مبادئ هامة مثل: الوطنية على اعتبار أن الوطن هو الوحدة الأساسية الحاضنة لأي تطور، وسلامته هي الشرط الأول لتحقيق أي تنوير أو تنمية. والحرية، وهي الشرط الثاني وأساس كل إبداع. والنقد والنهضة والخيال والحب والعدالة والتقدم والواقعية. وكلها قيم إيجابية، ومجال رحب لانطلاق خطاب التنوير، بعد أن أفرغها الخطاب الجامد من مضمونها منذ وقت طويل. مما جعله يتساءل بغضب (كفى يا أدباء الحجاز! ألا نزال مقلدين حجريين إلى الممات؟) (100)
ب المرأة:
درجة اهتمامه بالمرأة تتضح من خلال تناول قضاياها برؤية متعددة الأبعاد، فهو يتوجه لها بخطابه بشكل مباشر أحيانا، أو يوجه الخطاب للغمز من قناة المجتمع في تعامله مع المرأة، أو يرصد المشاكل والمآسي التي تتعرض لها في ظل المنظومة الاجتماعية السائدة، أو يرسم الصورة المستقبلية للمرأة باعتبارها نتيجة حتمية لمشروعه التنويري.
وفي خطابه المباشر يحرص على تحديد الفئة المستهدفة، وهي مرحلة الفتوة، التي تسبق التشبع بالفكر المتحجر، وعلى هذا الأساس يوجه لها نداءه (أيتها الطفلة، أيتها الكعاب، أيتها الفتاة، أيتها الابنة الآن، والأم غدا) وحين ينادي (الآنسة الحجازية) يوحي بأنه لا يقصد المعنى الفسيولوجي بالذات بل معنى أكثر عمقا، أي من لم تفقد عذرية فكرها، فتراه يحاول فصلها عن الجد والجدة والأب والأم والعم والعمة والخال والخالة، بصفتهم ناقلي الخطاب الاجتماعي، وينبهها (أن هذا الكلام سيغضبهم)، وفي المقابل يغريها بأن أفكاره تناسب الأخ والقرين، لمعرفته أن الفتاة أقرب إلى أفكار أخيها وأحرص على إرضاء القرين، وهذا الثلاثي يعتبر من الأنصار المفترضين لخطابه، لأنهم في دائرة الفتوة.
وبعد أن ينجز مهمته في هذا الجانب يعود فيذهب بالمرأة بعيدا عن الخطاب السائد مرة أخرى، حين يذكرها بالنساء العربيات المخلدات في التاريخ، وجلهن من الحجازيات.
وتوجيه خطابه للمرأة بشكل مباشر يمنحه فرصة النصح والتحريض، حيث صاغ عنوان
رسالته الموجهة إليها على شكل سؤال (كيف تكونين؟).
وكأنه يقدم مطوية أو دليلا يتضمن نصائحه وتحريضه، وكيف تكون الفتاة (أفكارا وأدبا، وعلما وأخلاقا وعيشة وعادات؟) أي كافة جوانب الحياة تقريبا، ثم يزودها بالنصيحة الجامعة، والتحريض المباشر.. (فكري واكتبي واقرأي واستعدي وتعلمي ودعي التقليد..
حطمي قيودا كنت ترسفين فيها من أمد بعيد) (101)
ومع قلة الفتيات المتعلمات اللواتي يمكن أن يقرأن ما كتبه مباشرة يغدو تحريضه، وتعليماته بالنسبة لنساء ذلك الوقت أشبه بالمنشورات السرية، التي تكتسب قيمتها من تداولها خفية أو تعميمها بالهمس والنميمة.
وهي في نفس الوقت رسالة للمجتمع ليتعرف على عيوبه ونواقصه, ومظالمه في حق المرأة.
ولكنه حين تجاوز الخطاب المباشر الموجه للمرأة، ودخل الدائرة الاجتماعية، لجأ إلى العبارات غير المباشرة خوفا من إثارة الرأي العام، لأن موضوع المرأة حساس ومحاط بالألغام، فكانت ترد عبارات مثل (إن تقدم الشعب الحجازي يتحقق إذا توفر فيه الرجال المفكرون.. وتظافر على العمل لرفعه بإخلاص كل من الفتى والفتاة وهناك تكون الحياة العملية التعاونية على أتمها) (102)، فهو يرى أن المرأة شريك فعلي في نهضة البلاد، ويؤيد عملها، وأنها يجب أن تعيش لغير الهدف الذي حشرها المجتمع فيه. وقوله (تعليم المرأة سنة مدنية يجب ألا يهملها الشرقيون) (103) وقوله (لماذا لا
يهتم الحجاز بإنشاء بنته مهذبة الرأي مستنيرة بالعلوم!؟) (104)
وعادة ما يعضد علامة الاستفهام بعلامة التعجب في نهاية مثل هذه العبارات.
وكأنه يقول إن طرح سؤال في موضوع من المفروض أن يكون بديهيا مدعاة للعجب العجاب.
وتأسيسا على ما سبق فإن مواضيع مثل: الاختلاط أو السفور أو التعليم النظامي، أو عمل المرأة، وردت بطريقة غير مباشرة، من خلال رؤيته الخيالية للنساء المستقبليات باعتبارهن النتيجة الحتمية لمشروعه التنويري، (ساعدة) رئيسة معمل الزجاج بجدة، (أمل) الكاتبة الزراعية الشهيرة، (عادلة) مؤسسة المرصد الفلكي العربي بجزيرة المعارف (أبي سعد)،(105) وكلهن متعلمات وعاملات ومختلطات.
وإن كانت هذه الرؤية في جانب من جوانبها تدل على يأس شديد من درجة جمود المجتمع الذي لن تسمح بذلك إلا بعد 500 سنة. أو تقريع لمن سيؤجلون هذا الإنجاز في رأيه كل هذه المدة الطويلة.
ج الدين:
تعتمد رؤيته الدينية على التفريق بين النظرية والتطبيق، أي بين مقاصد وقيم الدين العليا والممارسات البشرية التي امتزجت بالمصالح والجهل والتعصب فابتعدت بالدين عن نقائه، وهو ما يفسر تخلف الأمة.
ويقترب من فكر المعتزلة في قوله (خلق الدين ليسدد خطوات الإنسان) (106) أي أن الدين نزل من أجل الناس، ولم ينزل الناس من أجل الدين.
فهو يفرق بوضوح بين الإسلام كديانة سماوية والإسلام التاريخي الأرضي، الذي تشكل بناء على ظروف ومسببات وأحداث تاريخية ابتعدت عن القيم المطلقة للدين، فهو يتحدث عن صورتين مختلفتين من الدين، وكأن كل واحدة منهما دينا قائما بذاته، ويتمثل ذلك في استشهاده المتكرر بالآية الكريمة(107) {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ويسجل احترامه للقرآن بتصدير الكتاب بالآية (108) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (109)
كتعويذة ضد هجوم المناوئين من ناحية، ودليل على مشروعية الصراحة من ناحية أخرى.
وتأكيد على أنه يعتبر (العلوم الدينية..من أجل العلوم وأعظمها خطرا) (110) وبعد كل هذه الاحتياطات، بدأ في طرح أكثر موضوعات الكتاب إثارة للجدل حتى اليوم بهجومه الكاسح بألفاظ مقذعة على علماء الدين في عصره، جمع فيها بين الاستهزاء والسخرية والشتائم.
ونفى صفة العلم عنهم (111) ودعاهم إلى إعادة تأهيل أنفسهم, وقدم لهم أسماء مجموعة من الكتب التي يجب عليهم قراءتها ليتعلموا قبل أن يعلموا الناس.(112) واتهمهم بأنهم عبيد للأصفر الرنان (113) في إشارة إلى تربحهم بالدين، واعتبر أنهم كابوس للأمم، وسموم للحياة.(114) وبإمعان النظر في أسباب هذا الهجوم الذي تعوزه الرصانة والكياسة بسبب حماسه وصغر سنه نجد سببين أساسيين:
السبب الأول: أن ردة فعله العنيفة مبنية على تجربة شخصية، حيث يقول (لا فرق بين الدرويش والشيطان، فكم كنت أغتر بهؤلاء الدراويش، وبالأحرى هؤلاء اللصوص، وأعتقد أنهم من خيرة خلق الله، حتى هدتني التجارب إلى عكس ما كنت أظن.. فكم كنا نقدس ونجل من نراه مجببا معمما، ممتطيا للجياد بدون تفريق فرأينا منه ما يسيء للأمة ويخجل الوطن) (115) أي أنه يقوض بهذا التحقير المبالغ فيه ما بني على ذلك التعظيم المبالغ فيه.
السبب الثاني: أن العواد يبشر بالعمل والإنتاج، والبلاد في رأيه يجب أن تتحول إلى ورشة عمل، مما أثر في حكمه على الناس والأشياء، فمن الطبيعي أن يهاجم أتباع الطرق الذكرية (116) لأنهم في رأيه طبقة طفيلية غير منتجة، تعيش على عرق الآخرين، ففقراؤهم يعيشون على الصدقات والهبات، وأغنياؤهم على الدخول الريعية من الأوقاف أو من حيازات وإقطاعيات يقوم بالعمل فيها أجراء، لأن المتدروشين في العادة متفرغون لإشباع نزوعهم إلى الصفاء الذهني والمتعة الروحية، والوجاهة الاجتماعية، التي توحي بها (العمائم المكبرة).( 117)
وهذا يخالف رؤية العواد في العمل والإنتاج الذي يشارك فيه الجميع، ويعود نفعه على الجميع.
ويستكمل الصورة عن هؤلاء العلماء بمقارنتهم بعلماء الغرب (وما أدراك ما علماء الغرب!!، عقول باحثة، وأفكار متدفقة، واحتياط في نقل الحقائق وفهمها، وضبط لمسائل العلوم، وإتقان في تأديتها) ( 118) أي أن خصومه يفتقدون كل هذه الصفات الموجودة لدى علماء الغرب.
ويلخص رؤيته للدين على النحو التالي (يجب ألا يكون تطرف ولا جمود ولا تمرد ولا تفرنج ولكن حرية عصرية تحارب الوهم وتسعى إلى الحقائق) (119)، ولكنه يشترط عدم (مراعاة التيار الرجعي أو مجاملته).(120)


يتبع

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
منابر
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved