الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 25th October,2004 العدد : 82

الأثنين 11 ,رمضان 1425

تواصلاً مع ملف الماغوط والسخرية في أدبه
كتاب (سأخون وطني) مثالاً
بقلم د. جمال شحيّد

تعتبر السخرية من الأساليب الأدبية التي ميّزت أدب عدد من الكتاب، ولا سيّما لافونتين ومونتسكيو وفولتير وسويفت وبوريس فيان...وتعني أحياناً بالمساءلة مع إخفاء الجهل، وتعني أيضا اعتبار مقولة خاطئة كأنها صحيحة وجدية. ويعبّر عنها إما بالتشديد على التضارب بين العبارة وبين الموقف الذي تفصح عنه هذه العبارة، وإما بالمبالغة، وإما بالتكرار وإما بالمفارقة. وتهدف السخرية إلى إثارة الشك واستخلاص العبثية وهجاء الآخر والتواطؤ مع القارئ. ولتحقيق هذه الغايات، غالباً ما تلجأ إلى قلب النظام المألوف والسائد في تنظيم العالم متوخية النقد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والديني. وتلجأ أيضاً إلى إثارة الضحك والابتسام والمرح بسبب المواقف المتفاوتة والمتعارضة التي تثيرها. والسخرية بكافة درجاتها إنْ أحسن الكاتب استعمالها تدل على تعبير حضاري مرهف وتنشد إراحة الأعصاب وتنَفس الصعداء وخلق فلسفة حبورية حياتية.
عندما سأل خليل صويلح محمد الماغوط عن أصول الكوميديا السوداء لديه قال إنه ورثها من أمه ومن البيئة التي نشأ فيها ومن الشارع، وبخاصة من طفولته (اغتصاب كان وأخواتها، ص69). ويسخر الماغوط من الأنظمة العربية ومن الأوضاع القائمة ومن تناقضات الحياة ويسخر من ذاته أيضاً، مما يخلق مصداقية لهذه السخرية التي لا توفّر أحداً يستحقها (من المحيط إلى الخليج). وهذه عبارة نمطية كثيراً ما سخر الماغوط من تقعرّها وتخشبّها.
وكتاب (سأخون وطني) الذي صدر عن دار الريّس عام 1987 وقدّم له زكريا تامر، كتاب طريف مليء بالسخرية السوداء. فيقول عنه المقدّم: (في هذا الكتاب الأسود، الجميل، الممتع، المؤلم، الساخر، المرح، ينجح محمد الماغوط في الجمع على أرض واحدة بين الليل والنهار، بين الأمل واليأس، بين مرارة الهزائم وغضب العاجز، ليقدّم صورة لما يعانيه الإنسان العربي من بلاء من سياسييه ومثقفيه وجنده وشرطته وأجهزة إعلامية، مكثفاً ذلك البلاء الكثير الوجوه في بلاء واحد هو فقدان الحرية (ص 9). هو كناية عن نصوص قصيرة تتضح حتى عناوينها بالسخرية: المواطن والكلب، سوبر ماركت الشرق الأوسط، وجبة اليوم وكل يوم، صلاة بيد واحدة، الكوميديا النفطية، جورج أورويل العرب: عام 1994، بروتوكلات حكماء العرب،
الربابة هي الأولى، عربي في هايد بارك، كرومويل في برميل نفط، انطباعات عربي في لندن، وأفلت الزمان من يدي، مدينة المتعهدين، مريض نخب أول..
فإذا أخذنا على سبيل المثال نص (الكوميديا النفطية) نجد أن الدعابة السوداء تسيطر على كل تضاعيف النص. لقد اشترت دولة الإمارات العربية المتحدة أشهر مدرّب إيطالي لكرة القدم، فثارت حفيظة إحدى الدول النفطية الغنية من هذا السبق وأرسلت مندوباً خاصاً إلى انكلترا قابل وزير الشؤون الثقافية البريطاني وعرض عليه أن يشتري الشايب شكسبير، كي لا تنعت بلاده بالتخلف. (الإنكليزي: ولكنكم بحاجة إلى أدباء عرب من بيئتكم وثقافتكم. والبلاد العربية لا تنقصها الأسماء الشهيرة والمرموقة. العربي: معظمها مباع، أو في الطريق إلى ذلك) (ص111). ثم يستعرض أسماء الكتّاب العالميين المباعين: غوته ودانتي وطاغور ولوركا واميل زولا واسخيلوس. وعندما يسأله الإنكليزي عن روسيا، يقول المندوب إن روسيا رفضت أن تبيعنا تولستوي وتشيخوف ودوستويفسكي ولكنها باعتنا لينين. الإنكليزي: ولكن لينين ملحد وأنتم بلد اسلامي متشدد! العربي (هامساً): لقد باعونا لينين مسلما وبسعر الكلفة). وعندما استعلم الإنكليزي عن أوضاع هؤلاء الكتاب في تخوم الربع الخالي، أجابه العربي إن دانتي عاكف الآن على كتابة (الكوميديا النفطية) واسخيلوس يهتف مبتهجاً بعد زيارة المدن العربية وأريافها: (كأنني ما زلت أعيش سنة 2000 قبل الميلاد). وبانتظار قرار مجلس الوزراء واللوردات والعموم ببيع شكسبير، يقول العربي: (نريد أن نبني حضارتنا وثقافتنا وأجيالنا، نريد أن نقضي على التخلف. وعندما تريد أن تبلغني شيئا، فأنا موجود في الكاباريه المجاور).
وفي نصّه (عربي في هايد بارك) يقول إنه أكبّ في لندن على تعلم شيء من الإنكليزية، وذهب ذات مرة إلى هذه الحديقة متأبطاً قاموسه وبعض المطبوعات الفندقية فالتقى هناك بفتاة
رائعة الجمال مستلقية على عشب الحديقة الأخضر، (كانت هي تعمل حمّام شمس وأنا أعمل حمّام لغة). ويكتشف أن الفتاة تتعلم اللغة العربية فيتفقان على أن يساعد أحدهما الآخر وراح يحدثها عن بلاده التي (يعجز عن وصفها الشعراء والبلغاء... وعن شواطئ الياقوت واللؤلؤ والمرجان وعن الدب الملتزم والتعبيري والواقعي وعن أحدث الأساليب الشعرية والقصصية والمسرحية). وبعد أن استعرض أمام الفناة الإنكليزية كل ما تحتويه جنة بلاده، راحا يتبادلان بعض كلمات القاموس بالإنكليزية ثم بالعربية. وترجم لها كلمة (حرية) ب(حذاء)، فاستغربت الفتاة، فقال لها: (إن لهما نفس المعنى في البلاد العربية) (ص209).
ويحب الماغوط التلاعب بالألفاظ على طريقة جاك بريفير أحياناً، فيضفي صفات غريبة على بعض الأسماء فسجادة الوزير (ملتزمة بقضايا الجماهير) وكرسي مكتبه (يدور في جميع الاتجاهات كسياستنا) (ص348 9). ويتصور الماغوط وفداً من الصراصير العربية يزور أحد الأزواج فيسأل زوجته: (لماذا اختاروني أنا بالذات؟) فتجيب: (لأنهم يعتبرونك أحداً منهم).
ويبدأ كتابه بنص عنوانه (أنين في محبرة) يضمّنه تعليقاً على كلمة (جاد) فيتحدث عن الأدب الجاد والخبز الجاد والأفلام الجادة والمواعيد الجادة والدلال العقاري الجاد والسباحة الجادة التي يعرّفها كما يلي: (هي أن يلبس المثقف
مايوهاً رصيناً، ويستلقي على ظهره في حوض السباحة ويطالع مجلة الموقف الأدبي، أو جريدة اللوموند) (ص11).
ويلجأ الماغوط أحياناً إلى قذف الكلمة غير المتوقعة فتنزل مدوية مقعقعة. ففي سوبر ماركت الشرق الأوسط تقول مطلقة للبائع: (عندك فيلم أريد حلاً لفاتن حمامة؟ البائع: كل الحلول بيد أمريكا). يسأله مقاول قائلا: (عندك خشب معاكس وحديد مبروم؟ البائع: لا، عندي ظروف معاكسة وشعب مبروم) (ص95). وفي نصّ (اللوثة) يعدّد الماغوط أمراض الشعوب العربية السارية كالمناقير الإعلامية والأمراض الاعتبارية والموضوعية والانزلاقية والتصفوية والجبهوية... ويقترح بأن يعالجها الدكتور كسينجر (فله عيادات شتى في المنطقة. المرضى: لقد ذهبنا إلى عيادته يا سيدي فرفض استقبالنا. الطبيب: لماذا؟ المرضى: قال إن اختصاصه هو معالجة الأنظمة لا الشعوب) (ص1268). وفي (نوم الهنا)، يقول الماغوط عن النساء السوريات: (بصراحة أنا أفهم الخرسان والطرشان والمكفولين، ولا أفهم نساء هذا البلد) (ص275). وفي (القافلة)، يقول مواطن كُسر كعب قدمه الطبيب المعالج: (أنا يا دكتور إنسان عصبي، ومنذ وعيت على الدنيا وأنا أشهد أموراً كثيرة تجري على الساحة العربية من وراء ظهورنا نحن المواطنين, وكلما قرأت خبراً أو استمعت إلى تعليق أو أغنية من هذا النوع، أدق قدمي في الأرض وأصرخ: نحن هنا يا جماعة نحن هنا، إلى أن كُسر كعبُها. أرجوك يا دكتور إنني انفعالي وقدمي هي الوسيلة الوحيدة التي أعبّر فيها عن رأيي) (ص276). ولكي يخلّصه الطبيب من علته ينصحه باستبدال قدمه بخفّ جمل او بسنبك حصان (ص277).
وهكذا يظهر الماغوط أستاذا بارعاً في استخدام السخرية التهكّمية على أنواعها. ولأن خيال الماغوط شطّاح لا يعرف الحدود، فنشده بالصور المتجددة التي يفاجئُنا دوماً بها. إنه وبحق ساحر الكلمات المستولدة والمواقف الجريئة. ذلك أن السخرية المتطورة تحتاج بالضرورة إلى كاتب جريء يقول مثلاً: (الطغاة كالأرقام القياسية، لا بدّ وأن تتحطم في يوم من الأيام). ويبرز الماغوط عملاقا في فن السخرية وحفيداً للجاحظ وصنواً لإبراهيم عبدالقادر المازني ومارون عبود وأميل حبيبي وحسيب كيالي... ولكثرة الكتّاب الساخرين يتساءل المرء لماذا يعجّ الأدب الغربي بهذا الأسلوب؟ ألأن تربة هذه المنطقة ملائمة للسخرية، أم لأن مورثات
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
منابر
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved