الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th January,2004 العدد : 45

الأثنين 4 ,ذو الحجة 1424

أعراف
في غفلة من الزمن:
نقد ( أخف من الريش .. أعمق من الالم ) .حول دلالات الوعي وتجلياته لدى العباس ورفاقه!!
محمد جبر الحربي

يقول الشاعر المبدع والجريء في الحق أحد شعراء الثمانينيات ضمن التوزيع النقدي الظالم والخاطئ الذي ابتكره فارغون على طريق الخديعة في مواجهة مع قطبين نثريين في مجلة اليمامة «1» مؤخراً: «لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن هناك من يزايد على كفاءة جيل بأكمله ويختطف منجزاته لمصلحة ثبات مصالحه، ويسعى بكل جهد إلى محو تاريخ جيل مفصلي شهد الكثير من التحولات وساهم في صياغة الصورة الحقيقية لأهليتنا الحضارية. ولعل ما يعيدني إلى التفاؤل أن هذه الروح الثأرية الإقصائية ليست إلا الرمق الأخير في أنفاس من أعاقوا مسيرة المبدع والمثقف الوطني الحر والمستقل».
وهو يؤكد على أن الآراء التي أوردها لا تنوب عن أحد من جيله فلكل رؤيته وتجربته، فهناك خلافات إيجابية داخل التيار الذي صنّف فيه لو أتيحت لها الفرصة لأنضجت تجارب مهمة، وأتاحت الكثير من الإنجازات الأجمل، ولكن اضطرار ذلك الجيل إلى التخندق والاصطفاف لتبرئة ساحته من بشاعة ما جوبه به، أفقد تلك التجربة فرص النمو في مناخ من الخلاف الخَلاق الذي ينضج التجربة على نار الحوار.
والألمعي واحد من الذين اضطروا لأن يدافعوا عن منجزات مرحلة وجيل من أكثر من جبهة مرحلة لم تنته، وجيل لم تبتلعه الأرض بعد، وما زال متواجداً فاعلاً.
جيل لم يكن أقصى همه فذلكة كتابية، وحضور سرابي. جيل حمل هم مجتمعه ووطنه وأمته، وحمل هموم القادمين من بعده فساندهم من مواقعه، وفتح لهم المساحات، كما فتح الطريق أمامهم.
فتح أعينهم على ما لم يتعودوا عليه، وكان الدليل، وكان الضحية. وعوضاً عن أن يُبَارك هذا الجيل، وتلك الجهود الخارقة التي قام بها أفرادٌ في أجواء وظروف لم يكن للورد فيها مكان.. بل للحجارة. قام النائحون بدفن منجزات هذا الجيل ورجمه، كما يفعل الجهلة بالشجر المثمر. وإنني لأستغرب كل هذا الحقد، والكره ممن يُفترض فيهم قيمة الإبداع:، ومن ذلك البناء على المنجز، لا هدمه، وافتراض أنهم هم من اخترعوا أحرف الكتابة، وابتكروا الشعر، وأسسوا قواعد النقد، لا بل وأوجدوا في الأرواح أصابع الذائقة.
وينقسم هؤلاء إلى قسمين إلا من رحم ربي، وكان رأيه نتيجة انفعال وقتي، أو اجتهاد شاطح في أول العمر:
1 أدعياء إبداع، عديمو الموهبة، ضيقو الهم، يعيشون على موائد سركون بولص، خالد المعالي، نوري الجراح، شاكر لعيبي أنسي الحاج.. وطبعاً أدونيس ومن ثم قاسم حداد، وغيرهم.
ناهيك عن الترجمات المزعجة لشعراء وموجات عربية متعددة.
2 نقاد لم يجدوا مقاما إلا في الجلوس إلى موائد عديمي الموهبة، ذات الأطباق الفارغة، أو ذات الأطعمة الفاسدة، أو ذات المذاقات الماسخة التي لا نكهة لها، ولا ملح إبداعٍ فيها. وقد أخذوا على عاتقهم تقديمها مرة أخرى للجمهور بصفتها «نصوصاً» بعد أن حمّلوها ما ليس فيها من ثمر، وفوائد، وجمال.
ولقد نعذرهم بتسميتهم هذه، حين تفتقد هذه الإحباطات الكلامية، إلى القيمة الشعرية الإبداعية بشكل عام.
وإذا كنا نعلم ونثق بأن النقد يعاني من أمراضٍ لا شفاء منها إلا بتنحي مدعيه وخروجهم من حياتنا الإبداعية، ولنملك الشجاعة فنبدأ من الدكتور معجب الزهراني الذي أجزم عارفاً أن معرفته بالشعر أقل من معرفة طفل في المرحلة الابتدائية، عدا عن مراهنتي على أنه لا يستطيع قراءة قصيدة قراءة سليمة، فما بالك حين يمارس كتابتها فيخرج الجماد عن طوره. ومع ذلك يمارس هواية مزعجة ويصر على الحديث عن الشعر والتجارب الشعرية، ويزدري الخلق فيرتكب الشعر أيضاً. وإذا تجاوزنا «المعيقل وآخرين ليس الوقت لتناولهم الآن» سنصل حتما إلى محمد العباس أحد رموز النكبات النقدية الحديثة، لا بوصفه عديم معرفة، بل بوصفه مدافعاً عن كل ما هو مخالف للجمال، متأبطاً في كل كتابة نقدية كل ما قرأه كاستعراض لمهارات معرفية ونقدية توظف في غير مكانها لتحميل نصوص باهتة بما ليس فيها.
إنه ببساطة كالمحامين الغربيين الذين نراهم يدافعون عن الباطل لمجرد تلميع أسمائهم.. ولمزيد من الدولارات في خزائنهم التي لا تشبع. وفي سبيل ذلك لا مانع من الانتقاص من المنجز، ومن التاريخ، ومن الإبداع في أشكاله التي يمثلها أناس ترفعوا عن الجلوس إلى موائد طعامها ماسخ، وثمرها فج.
وإذا ما أعطينا الناقد الأستاذ محمد العباس الحق في نقد التجارب الشعرية السابقة كما يحلو له. فإننا لا نعطيه حق تشويه تاريخها والانتقاص من قيمتها وتضحياتها المعروفة خدمة لساحة ثقافية وفضاء رحب يتسع لأمثاله من النقاد.
إضافة إلى صبرها وصمتها الحكيم عن نتاجه ونتاج أمثاله من «إبداعاته النقدية» كما في «تنصيص الذات بنبرة رمادية». وهي كتابة له عن ديوان «أخف من الريش، أعمق من الألم» لمحمد الحرز «2».
يقول الذي يرى ما لا نرى في تلك الكتابة: «وفيما تهيمن الروح السردية على نصوصه أي الحرز كما في مجموعته الأولى «رجل يشبهني» تنقاد العناصر الحيوية للنص إلى نسق شارح أو تعليمي يخفف من مدّ الغنائية فهو أميل، كما يبدو إلى الحد من غلواء العزف وإخماد الروح الإنشادية، وإن كان كل كائن، أو واقعة، أو مكان قابل أجدر بأن يُشَعْرَنْ، بمرئيات الحرز، حتى الحديث على طاولة بمقهى يمكن تنصيصه ولو بروح وأدائية أقرب إلى المفهمة، كما في نص «بين دمي والكلمات». وعليه تبدو ثيمة «الكتابة» قمة مهيمنة أهم حتى من اللغة، فحياتنا بتعبيره «حياة الكلمات» حين تبحث لها عن معنى، وعلى ذلك الأسى الغامر تنصاع النصوص إلى نبرة رمادية صادرة عن «أنا» سيرية منفتحة، مطروحة بأقصى حمولاتها للتداول، الأمر الذي يمكنها من التماس بجوهرانية «الشعرية»، فتلك النبرة المنبعثة من سأم عتيق لا يعرف صاحبه حتى «ممارسة طقوس يوم ماطر» تفتح النص محلاً لذاتوية الحرز المتبائسة، بما هي الممر السري إلى مونودية تلك الترنيمات».
هل أزيدكم «تنصيصاً»؟!
أرجوكم اسمحوا لي فإنني أجد متعة فائقة في هذا، وهي متعة لا علاقة لها بالشعر أو النقد وإنما بشيء آخر أقرب إلى الانتشاء بوضع يدي على ما يؤكد أقوالي السابقة حول الاستعراض، وتحميل «النصوص» ما ليس فيها، أو السير بنا في عتمات كان «النص» ارحم علينا منها، يقول العباس محمد: «وللتأكيد على هاجس الشعرية لا يبدو الحرز مضطراً لقلب نصوصه على مشدات توقيعية بشكل قسري لترقيعها من عوز شعري ولا لتنبيضها بإيقاعات مفتعلة، فهو أقرب إلى نثر بلا أجراس، وإلى عبارة تنحت ميلوديتها من مباغتة الخروج على أفق التوقع، وتعطيل كل مستلزمات المعزوفة، بالنظر إلى أن «أناه» ليست صلبة ومتماسكة ومتيقظة على الدوام لتنتصر للموضوعي، بل غافية وعرضة لتوترات النص لتسيل رغباته الحسية بسلاسة لافتة داخل مفرداته تحت رداء لغوي شفاف، يسمح بالتماس مع فعل الخيلولة في صيروراته الاستعارية، لولا الوصاية الرؤيوية في بعض المفاصل التي تعترض ما يتأتى من مضخات الشعور».
والأهم من ذلك هذا المثال «كحديثه مثلا عن (استعارة الخطوات المتروكة على السلالم قبل أن تجف أو تتلاشى) وفق ذلك الشرط العاطفي لا يبدو الحرز مهموماً بالتوصيل أو حتى التصريف الوجداني بالمعنى النوستالوجي لمثاقفة المكان، وبالتالي لا يستجلب مفرداته من جاهزية القاموس، إذ تبدو مفرداته خارجة للتو من القلب، ماكثة في حاضنات الحيرة والخبرة، مفتوحة بارتيابية ذاته العالقة بين الذاتي والموضوعي على الدلالات التأويلية..». وهو يصل إلى استنتاج، وركزوا على آخر هذا المقطع «هنا تكمن جوهرانية نصوصه من حيث صلتها بمادة الحياة فنبرته أصيلة في رماديتها، وفي تواشجها الحميم بالذات المقهورة، أو استصدار تعبيراتها عنها، وانغماسها المحموم في المحسوس، خوفاً من التحنط في وثائقية الذكريات المعتمة أو ما يسميها «التوزع في الصور» وبالتالي فهي ليست مجردة ذهنياً، ولا مستعارة من مؤثرات المقروء وغير مطلية بألوان زاهية، وعليه لا تبدو معقوفة النهايات بضرورات تأطيرية تنفي «الأنا» إلى الهامش، أو تموضعها على سطح النص، دون أن تعبر برزخ اشتهاءات الذات، وتعرجاتها المرتبكة نحو اليقين العاطفي، فهي متملصة من المواضعات اللغوية، وبذخ التوفيقات اللغوية». إلى أن يمتدح سر النبرة الحرزية في النهاية فيقول:
«فسر هذه النبرة الرمادية المعتمة يكمن في جريانها الجواني، الاستبطاني العمودي للأشياء، وتحديداً من إحساس الذات العميق بالزمن، وتلقائية حضورها، أو انسرابها بأسى منحوت حتى العمق في قاع الروح بحيث تحافظ على زمنيتها، أو مهاداتها التأوينية، ولا تبدو مدبرة».
فهل هذا هو الوعي وهل هذه دلالاته وتجلياته؟ هل هذا هو الوعي الذي ينفيانه «العباس والحرز» عن تجربتنا؟!
إذا كان كذلك فأجزم أننا لا نمتلكه!!
إن مثل هذا التخريف، والتخريب، والاصطناع، والاستعراض المعرفي هو أهم أسباب التضليل الذي يقع فيه شباب قصيدة النثر وكهولها، حين يجدون من يسوغ لهم قلة مهاراتهم، ومواهبهم، وكلامهم ويضع محاولاتهم في صورة تتجاوز كل المنجز الشعري العربي من الجاهلية وحتى اليوم.
إنني وإن اختلفت مع «أدب محمد الألمعي الجم» تجاه قصيدة النثر بشكلها الأكثر تشوها لدينا، وقد كنت إلى فترة قريبة مجاملاً صامتاً إلى أن طفح الكيل، كما كنت من باب الإيمان بأهمية النشر للجميع، وبأن الصفحات الثقافية ليست ملكاً خاصاً للمشرف على الصفحات الثقافية أو ذائقته، كما كنت أنشرها إبان إشرافي على ثقافة مجلة اليمامة، فنشرت نصوصاً لمحمد عبيد الحربي، ومحمد الدميني، وأحمد الملا وفوزية أبو خالد وعشرات غيرهم. وقد كان ملحق «أصوات» داعماً أساسياً لكل التجارب التالية على اختلافها فمن يقف ضد من؟!
وثقتي لا حدود لها في جمال الدميني ومحمد عبيد الحربي، وأسماء قليلة أخرى، وثقافتهم العالية، وهمومهم السامية، وحرصهم الكبير على الساحة الثقافية، ودورهم الفاعل والمؤثر فيها، وتجاربهم الخاصة والمميزة، وأدبهم الجم.
إلا أنني لا أجد ذلك في معظم الأصوات النثرية الأخرى التي يحمل كل منها معولي هدم:
لهدم جهود الآخرين السابقين وعطاءاتهم المشرفة والمضيئة.
ولهدم الذائقة والشعر، وتشويه لهما دون أدنى شعور بالمسؤولية إزاء حضارة الأمة ونبضها.. ومن ذلك لغتها وشعرها، ولكن لا غرابة في ذلك فمن لا شعور له، لا شعر لديه.
هوامش:
(1) مجلة اليمامة ع 1789 بتاريخ 18/11/1424هـ مواجهة بين العباس والحرز والألمعي والخشرمي أجرتها منيرة الحسن.
(2) محمد العباس: «أخف من الريش، أعمق من الألم»: تنصيص الذات بنبرة رمادية.
جريدة الرياض ثقافة اليوم ص20 العدد 12862 بتاريخ 14 رجب 1424هـ.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved