الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th January,2004 العدد : 45

الأثنين 4 ,ذو الحجة 1424

وقفات على أطلال قديمة 3- 3
أ.د.منصور الحازمي

لقد قنعت بدراسة الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث، أما صديقنا الشامخ فقد قنع بدراسة الأدب النثري في الحجاز خلال الفترة ما بين 1908 1941م، مع العناية الخاصة بصحافة تلك الحقبة. وقد أخرج منذ عودته إلى الوطن عدة كتب تدور حول الموضوع: النثر الأدبي في المملكة العربية السعودية، الصحافة في الحجاز، التعليم في مكة والمدينة، وهي كتب رائد في بابها، تجمع إلى جدة المادة دقة المنهج واتزان الحكم. وقد لا نفطن إلى الجانب الإبداعي في شخصية الشامخ التي أخفاها وراء هذه الأكوام المتجهمة من الوثائق والهوامش، ولكننا سنفاجأ بكتيّبه الرشيق (زامر الحي) الذي يمثل الجانب الآخر من شخصيته الإنسانية وروحه الساخرة.
كان ال (Junior Common (Room J.C.R أي «البوفيه» بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية ملتقى الطلاب من شتى الجنسيات، والطلاب العرب بصورة خاصة، ولا يخلو أيضاً من الأساتذة الزائرين. فمن الطلاب العرب عرفت هناك محمود الربيعي وحمدي السكوت، ومن الأساتذة الزائرين عرفت الدكتور عبدالمحسن طه بدر رحمه الله والدكتور مصطفى ناصف. وهناك التقيت أيضاً الزميل حسن شاذلي فرهود للمرة الثانية وبالزميل عبدالمنعم إسماعيل للمرة الأولى. كان الأول مشغولاً بالإيضاح العضدي، وكان الثاني مشغولاً بالدراما، وكنا نلتقي جميعاً في «ندوة» (Seminar) بالقسم كل أسبوعين، ولا نتحدث عن موضوعاتنا العربية إلا باللغة الإنجليزية. وكنت من المعجبين بلغة عبدالمنعم إسماعيل وباطلاعه الواسع على التيارات النقدية الحديثة. يبدو أنه كان يلتهم الثقافة التهاما، وأن تلك عادته قبل مجيئه من مصر إلى لندن. وصل قبلنا وانتهى قبل أن ننتهي ورحل. وتشاء الظروف أن التقي به بعد سنوات طويلة في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود. سألته فتبسّم وأجاب بأدب. إن أخي عبدالمنعم لا يلقاك إلا مبتسّماً ومعتذراً، وإن لم تعجبه الحال يرحل بصمت. قلت له: ألا تغضب؟ فلم يجب. كم تمنيت أنه غضب. إنه جدير حقاً بالاحترام.
وأخيراً يعود جميع المغتربين من جيلي إلى الرياض وجامعة الملك سعود تحديداً، أم الجامعات. وتلك قصة طويلة تبدأ من سنة 1386هـ 1966م حتى الآن، أي من حرب الهزيمة تقريباً إلى حرب الإرهاب. ولا أستطيع هنا أن أسرد على مسامعكم ما حدث خلال تلك السنوات الطوال، وبعضكم لم يولد بعد، أو كان في مراحل الطفولة الأولى، وبعضكم على علم بها قراءة أو معاصرة. وأعود هنا مرة أخرى إلى مشكلة الزمن، وكنت أظن أنني نسيتها، أوتخلّصت منها مؤقتاً. ولكن دعوني أحدثكم عما أجبت به أحد الصحافيين، قبل خمس سنوات تقريباً، وقد سألني عن منهجي النقدي بهذه الكلمات المتحدية:
«القارئ يريدك أن تقدم نفسك بأحد المناهج النقدية، إذا لم يكن لديك مانع».
قلت:
أنت تذكرّني بذلك الكتّيب الطريف الذي وجدته في إحدى المكتبات المصرية، أواخر الخمسينيات الميلادية، حينما كنت طالباً بجامعة القاهرة، وحين كانت مصر ومعظم البلدان العربية في قمة تأثرها بالمذاهب والاتجاهات السياسية، ولاسيما الاتجاه الاشتراكي. وعنوان الكتّيب هو: «اعرفْ مذهبك» وعلى الغلاف الخارجي كتبت قائمة طويلة بهذه المذاهب: الاشتراكية، الرأسمالية، الليبرالية، الوجودية... إلخ.
أما بعد «النكسة» أو هزيمة 1967م، وانحسار معظم تلك المذاهب والأيديولوجيات البرَّاقة، فلابد من إلهاء العرب وإشغالهم بلعبة أخرى بتخاصمون حولها، وهي لعبة «المناهج» فبدلاً من رفع شعار «اعرف مذهبك» يرفع شعار آخر: «اعرف منهجك»، وقد تطوع بعضهم بالتعريف والترويج لهذه المناهج: الأسلوبية، البنيوية، التفكيكية، السيميائية... إلخ. وأنا لست ضد المعرفة أو المثاقفة، ولست من أنصار قفل الأبواب والنوافذ ولا من أصحاب العُقَد التآمرية. ولكنني أرى أن للعرب قضايا ينبغي الاهتمام بها، وأولويات ينبغي التركيز عليها.
ونحن هنا في المملكة العربية السعودية لدينا بعض الأمور التي يحسن الالتفات إليها ومعالجتها أولاً قبل الانجراف إلى هذه العولمة الغربية والفكر الفلسفي. وأعتقد أن أهم ما واجهه جيلي هو غياب الدراسات العلمية التي تكشف عن تاريخ بلادنا وجغرافيتها وآثارها وآدبها وتراثها الشعبي. وقد شغلنا بذلك لأننا أدركنا أن أية نهضة حقيقية لابد أن تبدأ بمعرفة الذات ووصل الحاضر بالماضي، والبحث عن الجذور. ومن شأن هذه المعرفة أنها تشيع الوعي، وأن تطلعنا على الشخصية الحقيقة لبلادنا أرضاً وسكاناً وثقافة وفكراً. وقد عانت الجزيرة العربية قروناً طويلة من الإهمال وعدم الاهتمام من قِبل جيرانها العرب. وقد آن الأوان لكي يقوم أبناؤها الآن بما أهمله الأجداد وأبناء العمومة في البلدان المجاورة.
لذلك فقد حاول جيلي أن يسد ذلك النقص الذي وجده، وأن يقدمّ بعض الأعمال التي تساعد على الرؤية الحقيقية للواقع. ومن تلك الأعمال ما قام به الزميل الدكتور عبدالرحمن الأنصاري من إنشاء متحف للآثار بكلية الآداب وإشاعة الاهتمام بهذا العلم المهم في نفوس أصدقائه وطلابه، وحث المسؤولين على ضرورة افتتاح قسم للآثار يعني بالجوانب المجهولة أوالمهمَلة من تاريخ بلادنا الحبيبة. ومن تلك الأعمال ما قام به الزميل الدكتور أحمد بن محمد الضبيب من إنشاء متحف للهجات والتراث الشعبي، تجمع فيه الأزياء والتحف والأدوات الشعبية، وتسجّل اللهجات المختلفة لسكان المملكة، لأن فيها ما يساعد على دراسة الفصحى في مواطنها الأصلية. أما أنا فقد قمت بإنشاء مجلة لكلية الآداب فيها البحوث والدراسات الأكاديمية، كما اهتممت بتسجيل المواد الصحفية التي تعين على دراسة الأدب والفكر في المملكة العربية السعودية. وكذلك قام الزميل الدكتور محمد الشامخ، كما قدمنا، بدراسة التعليم في مكة والمدينة أواخر العهد العثماني ودرس الصحافة والنثر الأدبي في منطقة الحجاز خلال النصف الأول من القرن الماضي.
نحن، إذن، جيل التأصيل العلمي ولسنا جيل المناهج النقدية. لم نكن نعبأ بلعبة النصوص، لأن النص الأساسي في أذهاننا هو الوطن. ولم نكن منبتّين عن الجيل الذي قبلنا، بل كنا نتواصل معه ونكمل مسيرته ونسترشد بحُنكته وتجربته. لم نكن جيلاً بلا أساتذة، بل كان أساتذتنا أحياء يرزقون ويملأون الساحة من حولنا ضجيجاً وعطاء من أمثال عبدالقدوس الأنصاري وحمد الجاسر والعقيلي والسباعي والزيدان وغيرهم. كل ما يميّزنا عنهم هو تلك المنهجية العلمية التي تعلمناها في الجامعات الغربية، وكانت تلك المنهجية تعني فيما تعنيه محاولة الوصول إلى الحقيقة بكل برود وحيدة وموضوعية. إنها تعني أيضاً الكثير من التواضع واحترام آراء الآخرين، حتى لو كانت مناقضة للرأي الشخصي أو العرف السائد. كنا نكره التشنّج والتعصب والغوغائية، لذلك فإننا قلّما اشتبكنا مع آخرين في معارك كلامية، لا خوفاً من الهزيمة بل هروباً من الضوضاء والصخب. وأنتم كما ترونني لا أتحدث عن نفسي بل عن جيل بكامله. ولا أنسى هنا زملائي الآخرين من أمثال الأساتذة: عزت خطاب وأحمد البدلي وحسن الشاذلي فرهود.
لا أود أن أستغرق أكثر من هذا في المديح، ولكن لا تنسوا أنني إنما أقف بكم على الأطلال معي، ويحق لي أن أذرف الدموع، وإلا أين أولئك الأحبة الأفذاذ الأحرار الذين سعدنا بصحبتهم زمناً طويلاً، ثم غادرونا وفجعنا بفقدهم إلى الأبد. أين عزة النص ومهدى المخزومي وعلى جواد الطاهر وشكري عياد وحسن ظاظا، وغيرهم وغيرهم؟ رحمهم الله جميعاً ورحمنا معهم. إن كلا من هؤلاء يستحق على ما قدمه لبلادنا ولجامعتنا العتيدة بحثاً أو بحوثاً طويلة. إن مصيبتنا تكمن في ضعف الذاكرة، فلنقف على الأقل هنا عند واحد منهم وهو الفنان الشاعر الساخر المفكر حسن ظاظا رحمه الله لقد كتبت عنه قبل أربع سنوات في صحيفة «الرياض» بمناسبة وفاته مقالة طويلة بعنوان: «ظاظا الكشكول والبهلول» قلت فيها:
«اقتحم علينا حسن ظاظا الباب في مبنى كلية الآداب القديم بالملز، قبل أكثر من عشرين عاما، يرتدي بذلة مخططة زرقاء، وربطة عنق، وكوفية مخرمة ملونة على رأسه، تشبه تلك التي يرتديها حاخامات اليهود. ربما سمعنا به، ولكننا لم نره قط. كنا في حاجة إلى تخصصه في اللغة العبرية، لأن طلاب قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الرياض، حينئذ لابد أن يدرسوا إحدى اللغتين الشرقيتين، الفارسية أوالعبرية. أما الفارسية فقد اكتفينا فيها بالصديق الدكتور أحمد خالد البدلي خريج طهران ثم بزميله الصديق محمد صديق العوضي رحمه الله ولكن العبرية لابد لها من أستاذ نتعاقد معه من خارج المملكة. من دلّنا على الدكتور حسن ظاظا؟ لا أدري.
كان حظنا جيداً ولا شك إذ ظفرنا بذلك الأستاذ الرائع. وبعد أيام نسأله عن حاله فيبتسم والسيجارة لا تفارق شفتيه. لم تكن آفة التدخين قد تكشّفت تماماً في تلك الأيام. الرياض تعجّ بالعمّال والقلاّبات والحفّارات والعواصف والأتربة والحفر. كنا في البنية التحتية، مشغولين بالبناء وتخزين المبالغ الخيالية وصرفها وتصريفها. وقد تحوّلت الصحراء إلى مخططات واسعة لا نهاية لها. ونحن لا نزال في ذلك المبنى القديم الذي كان في أصله مدرسة ابتدائية. يصعد الدكتور حسن ظاظا السلالم الواسعة الواقعة في ردهة الكلية في رشاقة ووقار. في يده اليمنى حقيبة جلدية ضخمة مهترئة يسأل عن الفصل وعن الطلاب. السنة الثانية قسم اللغة العربية. يأتيني ضاحكاً: لم أجد سوى خمسة. وأنظر في القوائم التي أمامي، وأقول مطمئنا: هؤلاء هم كل الطلاب ولا يوجد غياب. لقد كنا في فترة «الطفرة» نبحث عن طلبة العلم، فلا نجد إلا القليل منهم. معظمهم في البراري والقفار.
لا بد أن البروفسور ظاظا كان أكثر من حاجتنا في تلك الأيام. ذلك الرجل النحيل القصير يكاد يتفجّر علماً ومعرفة، ونحن لا نحتاج في واقع الأمر، وحسب المنهج المقرر، إلا إلى دروس أوّلية عن اللغة العبرية والأدب العبري. فأين، إذن، يذهب ذلك الكمّ الهائل الذي يختزنه الأستاذ عن الحضارات الساميّة القديمة، ولاسيما ما يتعلق باليهود والفكر الصهيوني؟ لقد استطاع الصديق الدكتور عبدالرحمن الأنصاري أن يستغل بعضه في قسم التاريخ والآثار، ولكن يظل الكثير من ذلك العلم المخزون في حاجة إلى مسارب وقنوات أخرى يتدفق منها.ويبدو أن ظاظا كان زاهداً أيضاً في التآليف الكثيرة، وكان بإمكانه أن يضع العشرات أوالمئات، كما يفعل عادة الورّاقون وهواة الشهرة ولكن العلماء الحقيقيين هم الذين يهمّهَم نوعية الإنتاج لا كثرته. ويكفي أستاذنا بعض المؤلفات التي أصبحت مرجعاً رئيسياً أو حجة في بابها، من أمثال: (الفكر الديني اليهودي أطواره ومذاهبه)، و (أبحاث في الفكر اليهودي)، و (الشخصية الإسرائيلية)، وقد بحثت له عن إسهامات في مجلة كلية الآداب جامعة الملك سعود، فلم أجد شيئاً كثيراً. فلعل له في دوريّات أخرى، لا أدري.
ولكن تلميذ حسن ظاظا، الصحافي الأديب «دودة الكتب» محمد رضا نصر الله، قد استطاع أن يغريه بالكتابة في «الرياض الأسبوعي» سنة 1983م. كان ذلك الملحق مثل سفينة نوح يجمع بين مختلف اللغات والأفكار والاتجاهات. لم تكن الحداثة قد تغلغلت فينا بعد. فكان «الرياض الأسبوعي» ديموقراطياً مشاعاً يضم كل الأصوات. وتربّع حسن ظاظا في كشكوله بطلاً شعبيّا يوزّع ابتساماته ونكاته على كل الناس. لقد استطاع نصر الله أن يستغل تلك الطاقة الهائلة في تثقيف القراء وإفادتهم، بل والترويح عنهم. فالكشكول، كما يدل اسمه لا يختلف كثيراً عن ذلك الملحق الثقافي في تنوعه وشموله وثراء منابعه ومفارقاته.
لقد أصبح «الكشكول» علماً على شخصية حسن ظاظا رحمه الله لم يكن عموداً رتيباً ولا زاوية مغلقة، بل كل مدرسة فريدة تنبض بالفكر والفن والحياة. تبهرك فيه أول ما تبهرك عنواناته المثيرة التي تلفت النظر بغرابتها أو جمعها أحياناً بين المتناقضات من مثل :«النرجسية» برائحة المجاري، أو «غايات شيطانية»، أو«مضغ الماء ولحس السماء». وهو لا يسرد الأفكار أو المعلومات سرداً، بل يمثلها تمثيلاً عن طريق شخصيات تتحرك وتتكلم وتضحك وتحس وتستجيب لشتى ضروب المواقف والانفعالات، لذلك، فإن كل «كشكول» يكاد يكون مشهداً مستقلاً بذاته في مسرحية كبيرة لا تنتهي مشاهدها أوفصولها أبداً. إنها مسرحية الحياة.
إن الحديث عن أستاذنا الكبير، العالم الشاعر الفنان، حسن ظاظا رحمه الله حديث طويل لاينتهي. ولكن لابد لنا نحن هنا أن ننتهي ونسدل الستار الأخير على هذه المشاهد الطلليّة القديمة. لقد كدت أنسى مع طول إقامتي في الرياض تلك الحارة المكية القديمة «دحلة حرب». حقاً لقد كانت مكة المكرمة مسقط رأسي ولكن الرياض مسقط رؤوس أبنائي جميعهم.
ولست الوحيد في هذا الوضع بعد أن نعمنا جميعنا بهذه الوحدة الوطنية الرائعة التي أرسى دعائمها منذ أكثر من قرن من الزمان مؤسس هذا الكيان الكبير الملك عبدالعزيز رحمه الله لذلك فإنني اختتم هذه الذكريات بهذا الإهداء الذي وضعته في صدر كتابي (مواقف نقدية)، قلت: إلى من قال فيها شاعرنا المبدع غازي القصيبي:
وفاتنة أنت مثل الرياض
ترق ملامحها في المطر
وقاسية أنت مثل الرياض
تعذبّ عشاقها بالضّجر
ونائية أنت مثل الرياض
يطول إليها.. إليكِ السفر
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved