الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th January,2004 العدد : 45

الأثنين 4 ,ذو الحجة 1424

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
رجل الأخلاق.. وأخلاق الرجال!!
بقلم/علوي طه الصافي*

في مرتبة وزير.. لكنه لا يشعرك بذلك!!
هل هو «التواضع».. أم «كاريزما» شخصيته؟ أم لأن تكوينه النفسي بصفته أديباً.. وشاعراً ضنيناً «أي مقلاً في شعره»؟ أم لأنه يعد المنصب مجرد ثوب يتقادم.. فيبلى.. ويتمزق.. أو شعار شكلي؟
لهذا، فهو لا يرتدي «المشلح» إلا في الحفلات الرسمية.. أم تراه يرى أن ما بقي منه، وله، إلا علاقاته الإنسانية مع الآخرين.. كبارهم، وصغارهم، أغنياءهم، وفقراءهم.. أم.. أم.. أم؟
أسئلة لا تنتهي.. ويبقى هو كل هذه الأشياء والمعاني الجميلة مجتمعة في شخصه وسلوكه الراقي.. ووقاره الأرقى.. استمدها من تربيته.. واكتسبها من مجتمعه «الحجازي» حيث «مكة المكرمة» المقدسة بأول بيت لله أقيم على الأرض.. وقبلة المسلمين و«المدينة المنورة» «المقدسة بمسجد خاتم الأنبياء والمرسلين، عليه الصلاة والسلام.. ومدينة الأنصار الذين يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة».. و«الطائف المأنوس».. وجدة «أم الرخاء والشدة»..
هذا «المربع الاجتماعي» الذي نشأ فيه صديقنا العزيز، وجارنا في السكن، في الرياض وأستاذنا «عبد العزيز الرفاعي» فأكسبه شخصية نموذجية يقتدى بها.
كان صديقه الحميم الذي يأنس له، ولسخريته الأدبية، وظرفه الصديق الأستاذ علي محمد العمير هو الذي قادني إلى صالونه الأدبي «الخميسي» حين نُقل عملي إلى «الرياض» عام 1378هـ.. لم يجهلني لأن كلينا يقرأ للآخر.. مع الفارق الكبير في السن، والمكانة الأدبية، والاجتماعية.. كنا نتبادل الرسائل حين كنت أعمل في جريدة «البلاد» على عهد الأستاذ عبد المجيد شبكشي حيث كنت أشرف على صفحة «الأدب» وأحرر زاوية يومية بعنوان «شبابيك».. قال لي ليلتها كأنه يرحِّب بي بطريقته الخاصة: كنت أظن انك أكبر سناً بالمقارنة بين ما أقرأه لك، وما أراك عليه!! أجبته: إنني إنسان تساقطت على رأسه كثير من حجارة الحياة والناس، فأكسبتني نضجاً أكبر من عمري الحقيقي!! فعلق الصديق العمير ساخراً: يا أبا عمار إنه واحد من أولادي!! فرددت على سخريته: في الأدب، والمكانة.. فتدخل الرفاعي بمودته وتواضعه.. كأنه يود أن يفك الاشتباك بيننا قائلاً: أنتما شقيقا أدب.. وشقيقا علاقة حميمة.. وتجمعكما نسمة الجنوب العذب، الحلو!!
كان يرتاد «صالون الرفاعي» كثير من الأدباء والوجوه الاجتماعية السعودية، والعربية، وحتى من الأجانب المستشرقين.. أذكر منهم مع حفظ الألقاب «علي محمد العمير.. ماجد الحسيني رحمه الله .. عبدالرحمن المعمر، بدوي طبانة، ود. محمد عبدالمنعم خفاجة..، عمر بهاء الأمير رحمهم الله ، د. عبد القدوس أبو صالح.. وبكري شيخ أمين.. د. زهير أحمد السباعي، علي محمد بحش.. عبد العزيز السالم.. عبد العزيز الربيعي.. وشاعر جازان محمد علي السنوسي رحمه الله وغيرهم كثر.
هؤلاء الذين أذكرهم الآن لأنني بعد أشهر من هذا اللقاء الأول معه شغلت بالعمل، والصحافة والأدب والدراسة الجامعية نهاراً وليلاً.. فلم أتمكن من مواصلة الذهاب كل خميس مساء الجمعة إلى صالونه الذي بدأ على ما أذكر، والعهدة على الذاكرة، والتقادم الطويل!!
لكن صداقتي بالرفاعي لم تنقطع.. إنها أشبه بعلاقة التلميذ بأستاذه.. أما صداقته بالعمير فهي أعمق، وأكثر متانة.. وكان يشجع نشر أخبار الصالون بصفته مديراً لمكتب جريدة «البلاد» في الرياض، إدارة وتحريراً، بل أي العمير الذي أطلق على ذلك التجمع صفة «صالون ومنتدى الرفاعي» وفاء لصديق العمر.. وتشبهاً بصالون العقاد.. وصالون «مي زيادة».
ولكي تعرف معادن الرجال وأصالتها، أو العكس فاتخذ السفر وسيلة لمعرفتك.. لأن السفر بحكم الاحتكاك الدائم، وفي ظل كل الظروف الإنسانية المتقلبة، يكشف هذه المعادن ويجسد سلوكياتها، وتصرفاتها!!
لهذا فقد قدِّر لي أن أسافر مع الأستاذ الرفاعي إلى تونس للمشاركة في ندوة «نشر، وانتشار اللغة العربية في العالم»، والوسائل التي تساعد على هذا الانتشار، بدعوة من «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» بتونس.
ومن حسن المصادفات أن سفرنا كان في طائرة واحدة.. ووصلنا إلى تونس قبل بداية الندوة بثلاثة أيام.
بعد أن أخذ كل منا راحته في غرفته كانت يتنازعني تياران: أحدهما هل سألتقي مع الرفاعي الذي يكبرني سناً ومقاماً رغم انني يومها رئيس لتحرير مجلة «الفيصل» ومع مزاجه، ووقاره؟ والآخر ان الرفاعي في ظاهره جاد.. فهل سنقضي الوقت محكومين بمشاعر الرسميات.. لا العلاقات الإنسانية؟
ومن طبيعتي في رحلاتي الذهاب إلى المتاحف لأتمكن من الكتابة عنها في المجلة في باب «من متاحف العالم».. والمكتبات القديمة بحثاً عن كتاب نادر.. كما أحب زيارة المؤسسات الثقافية.. والأحياء العتيقة للمدينة لشعوري بأن معرفة الإنسان الطبيعي الفطري لا يتحقق من خلال الشوارع الرئيسية.. أو من خلال الجلوس في أبهاء الفنادق الفخمة التي يضيق صدري بالجلوس فيها، ومشاهدة الداخلين والداخلات.. أو الخارجين والخارجات لشعوري بأنهم كالممثلين في بعض الأفلام السينمائية الارستقراطية.. في الوقت الذي أميل فيه إلى البساطة، والناس البسطاء!!
فهل شخصية وزيرتميل إلى ما أميل إليه؟
حين سألت نفسي فوجئت بجرس الهاتف يرن في غرفتي، فإذا به الأستاذ «الرفاعي» يسألني عن برنامجي.. ولأن شرط المرافقة في السفر الموافقة، كما يقولون في الأمثال.. فرددت على سؤاله تأدباً، كما تشاء!! فقال لي استعد لأنني سآخذك إلى أعتق مكتبة في تونس.. فتهللت أساريري.. وشعرت أن البداية تبشر بخير.. والليالي تزينهن النجوم.. والرفاعي في فكرته كان نجماً أضاء ظلمة أسئلتي الخاطئة.. لأنني خشيت أن يضيع عليَّ أيامي الثلاثة التي تسبق الندوة، ووفودها الكثر!!
وذهبنا معاً إلى هذه المكتبة العتيقة التي ذكر لي اسمها فعرفت منه انه زارها عدة مرات ويأتي إليها في كل زيارة له إلى تونس.. وبدأ البحث عن الكتب التي كان يغطيها الغبار، كانت مكتبة صغيرة لا تزيد مساحتها على (3X4م) تقريباً عبارة عن متحف غير مكشَّف، ولا «مؤرشف» بحيث لا تستطيع أن تطلب كتاباً بعينه.. بل عليك أن تبحث بنفسك والغبار يملأ يديك، وملابسك «وخياشيمك».. وصاحبها رجل مسن يقبع بزيه التونسي التقليدي، يجلس وسطها كأنه تحفة من تحفها!!
وقد انشغل عني صديقي «الرفاعي» منهمكاً في البحث بجدية كأنه نسيني.. ومن حين لآخر يخرج كتاباً من أسفل، أو من بين الأرفف.. ويمسح الغبار بيديه.. في الوقت الذي كنت أقف متفرجاً يعرف عشق الكتب، وامتلاكها، وقراءتها.. لكنه لم يصدف أن رأى مكتبة كهذه.. ولم يعرف أكثر عشقاً منه للكتب، وادراكاً لقيمة بعضها كالرفاعي.. ولأن لدي حساسية موروثة من الغبار فقد بدأت اعطس، وأعطس، فإذا بالعطاس يتحول إلى زكام، فأخرجت منديلي لأضعه على أنفي!!
مضت أكثر من ساعة، وصديقي «الرفاعي» كأنه يعيش لحظات عشق نادر، ومزمن.. ولم أتمكن أمام حساسيتي من الغوص في غبار الكتب.. هذا الغبار الذي كان كالتحفة.. وفجأة لمحت في يد أستاذي «الرفاعي» كتاباً أثارني عنوانه «قصة تاريخ الكتاب» وحين طلبت من صاحب المكتبة نسخة أخرى، رد بأنه لا توجد نسخة أخرى غير هذه النسخة التي مضى على طباعتها نصف قرن، وإنه ربما لم يطبع بعدها.. وجلست أقلب صفحاته، وأقرأ الفهرست فوجدت أنه كتاب مترجم من الانجليزية، وأنه كتاب قيم.. ثم أعدته إلى الكتب التي اختارها الرفاعي الذي توقف عن البحث مراعاة لحساسيتي، ولأن وقت تناول الغداء قد حان.. فسأل صاحب المكتبة عن قيمة الكتب التي اختارها أستاذي (الرفاعي)، فألقى على عناوينها صاحب المكتبة نظرة عجلى، لأنه لا توجد على الكتب أقيامها فهو يقدرها من خلال قراءاته لها، لأنه يقضي أوقات فراغه في قراءتها ولأن زبائنه قليلون، ومحدودون يعرفهم ويعرفونه والرفاعي واحد منهم، كما عرفت من الترحيب به، وسؤاله عن طول الغياب.. وحركة سوق الكتب في المملكة.. فكان الرفاعي رسول المملكة في الأدب وشؤونه، وشجونه، وهمومه.. وقد نقده «الرفاعي» المبلغ الذي طلبه صاحب المكتبة دون مساومة كأني به يردد ما قاله الشاعر «ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر» وحسناوات الرفاعي هي الكتب التي يختارها انتقاء.. فما كل حسناء تمتلك الأصالة، والجاذبية، والافتتان!!
ولولا الحياء لضحكت لأن رموش عيني أستاذي الرفاعي كانتا مكحلتين بالغبار.. وربما كانت رموش عيني ليست أفضل من رموش عينيه..ورغم انني لم أشتر كتاباً لحساسيتي، إلا أنني كنت أشعر بالسعادة..وبخاصة أن المكتبة تقع في سوق شعبي حيث تمكنت من التجوال في أرجائه بعد أن قرأت في معروضاته، وفي وجوه الباعة والمشترين ما يشبع فضولي.. وكيف تتم عملية البيع والشراء، وقرأت ملامح مصغرة للمجتمع التونسي الطيب.. وما دروا ان هذا السائح الذي يمر بهم هو من المدينتين الاسلاميتين المقدستين في العالم.. والتي يحلم كل واحد منهم أن يسعد بزيارتهما.. كما أنهم ما دروا أن أسراً تونسية استوطنت هاتين المدينتين.. واستقر بها المقام.. وبعضها ما يزال إلى اليوم يحمل في نهاية اسمه صفة «التونسي».. أو «المغربي». أو «الجزائري».. وأصبحت جزءاً من نسيجها الاجتماعي.
بعد أن عدنا إلى الفندق وغسلنا ما على وجوهنا وأيدينا من الغبار، اتفقنا قبلها على ا للقاء في المطعم الذي فاجأني فيه استاذي «الرفاعي» بنسخة الكتاب الوحيد التي معه مزهرة باهدائه النبيل، لأنه أدرك بحاسته السادسة حرصي على اقتناء نسخة منه.. فشكرته ووعدته لقاء هديته أن أكتب له موضوعاً عن الكتاب في مجلته الدورية «عالم الكتاب» التي يصدرها مع الصديق العزيز عبد الرحمن المعمر.. وقد وفيتُ بوعدي.. بعد أن أخذت منه وعداً بكتابة زاوية في صفحتين لمجلة «الفيصل» فسألني: أجئت من أجل حضور الندوة.. أم من أجل «الفيصل»؟ فرددت عليه من أجلهما معاً.. وسوف استكتب أكبر عدد ممكن من الأدباء والشعراء والباحثين والدارسين الجادين.. سألني هل يعلم الأمير خالد الفيصل بذلك؟ قلت له خالد الفيصل لا يعلم أنني في تونس، لأنه أعطاني حرية الحركة والتحرك، كما أشاء دون أخذ أذنه، لأنه يعرف جيداً أن الصحافة التي تدار من وراء المكاتب، هي صحافة التثاؤب.. والنعاس.. والوجبات الجاهزة، والمعلبة.. ولو لم أجد فيه هذه الصفة الحضارية، وغيرها من الصفات النبيلة التي يعاملني بها لتركت العمل في المجلة من الشهور الأولى.. إنه يشعرني دائماً أنني صاحب المجلة.. لهذا فهي بالنسبة لي تحظى مني بالعناية والجهد، والسهر، أكثر مما يحظى به أبنائي.. وهذا وحده يكفي.. قال: نعم.. نعم لقد عرف أين يضع أمانته.. وأفلح في اختيار من يتحمل مسؤولية هذه الأمانة الكبيرة!!
ورغم مسؤولياته المتشعبة في «دار الرفاعي للنشر والتوزيع» إلى حد أنه قال لي: تصورت أنني بعد التقاعد عن عملي الرسمي الوظيفي سوف أجد بعضاً من الوقت الذي لم أجده في العمل.. لكن تصوري كان خاطئاً.. فقد اتسعت أعمال وهموم الدار ليلاً ونهاراً.. فوقعت في «حيص بيص» كما يقول الحريري في مقاماته.
ومع ذلك صار يكتب لمجلة «الفيصل» زاوية شهرية تحت عنوان «وللحديث شجون»، ولم يتوقف عن كتابتها إلا حين تركت المجلة.. وقد جمع ما كتبه في هذه الزاوية الرشيقة بأسلوبها.. الجديدة بموضوعاتها بالعنوان نفسه في كتاب أهداه لي.. وما تزال مسودته لدي.
في صباح اليوم الثاني من وجودنا في تونس حين قابلته سألني: هل أنت على استعداد للسفر؟ أجبته: والندوة؟ قال: سفرنا لن يستغرق أكثر من يوم واحد.. سألته: وإلى أين؟ أجاب: إلى «مالطة».. وعرفت منه ان مسافة الرحلة إليها لا تزيد على نصف ساعة.. وقد هيأ كل شيء، إلى حد الحجز بالطائرة ذهاباً في الصباح، والعودة مساء.. وسيوجد في مطار «مالطة» من يستقبلنا.. ويتجول بنا طوال اليوم لمشاهدة أهم معالم الجزيرة.. فسألته أهي جزيرة؟ قال: بل مجموعة جزر!! وأغراني، بل شدني حين قال لي: ستجد فيها ما يثير فضولك الأدبي والصحافي.. والكاسب في الأخير من هذه الرحلة هي مجلة «الفيصل».
فرحت قائلاً له: وما الأمر إذا حصل لنا شيء؟ ألا تذكر المثل القائل الذي نعرفه جميعاً وهو «فلان كمن يؤذن في مالطة؟» لأنه لن يسمعه أحد.. فابتسم للنكتة.. وفعلاً سافرنا إلى «مالطة» فوجدتها جزيرة واسمها بالعربي «بلاد العسل» ولكن لم نجد عسلاً وقد طغى اسمها على غيرها من الجزر التي تمثل ارخبيلاً من الجزر هي «مالطة»، و«غوزو» و«كومينو».. وهناك جزيرتان غير مأهولتين بالسكان هما: «كومينتو» .. و«فلفلة» ولا تستغرب اسم «فلفلة» لأن فئة من سكان «مالطة» من العرب.. واللغة المالطية مزيج من العربية والمالطية وتستطيع أن تدرسها في ثلاثة أشهر، وهذه الجزر تقع جنوب جزيرة «صقلية» في البحر المتوسط.
وبعد جولة طوال اليوم في جزيرة «مالطة» وحدها.. شاهدنا أهم معالمها ولم نعدمنها إلا بعد أن ذهبت إلى إحدى المكتبات بحثاً عن كتاب مصور بالألوان ليكون مرجعاً لنا في المجلة، فكان بالنسبة لي من أهم مكاسب الرحلة، إذا استطعنا عن طريق مترجم المجلة «الدكتور فوزي الأحدب» أن ننشر عنها استطلاعاً صحافياً مناسباً للقارئ العربي الذي يجهل «مالطة» في باب «في بلاد الله» بعنوان لافت للنظر هو «بلاد العسل» في العدد (61) اصدار شهر رجب 1402هـ الموافق مايو 1982م.. وحين اطلع عليه استاذي (الرفاعي) مبدياً اعجابه بالاستطلاع.. وقال: ألم أقل لك بأنك ستعود بصيد للمجلة.. قلت له: إن أجمل ما في الرحلة هو وجودك معي لأنني لا أحب «الوحدة» في الأسفار.. وكما يقول الشاعر «ان الغريب للغريب أنيس».. فقد كنت أنت من وراء الرحلة.. وكنت المؤنس الذي لا يمل الإنسان صحبته.. فقد وجدتك أقرب إلى القلب من كل تصوراتي.. ولهذا لن أترك صحبتك حتى نعود إلى الرياض.. فرد علي بأطيب مما قلت له.
وحين عدنا في المساء إلى تونس.. وذهبنا إلى فندقنا، إذا بموظف الاستعلامات يقول لي بلهجته التونسية: سي العلوي.. أرحامك
اتصلوا بك «برشة» يعني كثيراً.. سألته كم مرة اتصلوا؟ قال: حوالي ثلاث مرات، وطلبوا أن تتصل بهم حالاً.. وسألني: أين كنت طوال اليوم؟ قلت له في شغل.. ثم سألته: متى كان آخر اتصال لهم؟ رد: قبل ساعة.. شعرت بالازعاج.. وقلت بصوت شبه مرتفع: اللهم اجعله خيراً.. كل هذا واستاذي الكبير الرفاعي واقفاً بجواري يسمع حواري مع موظف الاستعلامات.. فانتقل احساسي بالازعاج والقلق إلى نفسه الكبيرة فسألني: هل عودت أهلك على هذه الاتصالات؟ فرددت بالنفي.. حاول أن يطمئنني قائلاً: إنني أتصل بأمي كل ليلة، وإذا لم أتصل بها لا تنام!! قلت له هذا شعور طبيعي لأم نحو ابنها.. أما بالنسبة لي فقد حرمت من معرفتها لأنها انتقلت إلى رحمة الله، وأنا في الثانية من عمري، حتى صورتها لا أعرفها لأنه على أيامها لا توجد «كاميرات»!! لكن كان حنيني الانساني الداخلي يورق كلما رأيت أماً تحتضن ابنها!! عموماً اطمئن يا أستاذي، ألم أقل لك عند أول لقاء بك في الرياض انه نزلت على رأسي حجارة كثيرة.. كان أكبر هذه الحجارة هو حرماني من روح الأمومة، ودفء صدرها.. ومن ثم لحق بها أبي تغمدهما الله بواسع رحمته.
وتأثر الأستاذ الكبير «الرفاعي» من كلامي فقال لي بصوت مشروخ.. اذهب إلى غرفتك، واتصل بأهلك.. ولا تنسى أن تخبرني في أي وقت لأنني سأظل بانتظار مكالمتك لي.. وصعد كل منا إلى غرفته.. وحين وضعت يدي على سماعة الهاتف شعرت بشيء من الخدر يقيدها عن الحركة.. فقررت الاتصال صباحاً رغم القلق الذي كان يسكن نفسي.. والتوتر الذي يشد كل أعصابي.. ألقيت بنفسي على السرير واضعاً يدي تحت رأسي..كان كل تفكيري في أبنائي وبناتي وزوجتي.. تطاولت مشاعر الأبوة كالاخطبوط الذي له عشرات الأيدي والأرجل.. لأول مرة أشعر بمعاني الأبوة الواسعة كالمحيط.. العنيفة كالأعاصير.. لا أدري كم مضى من الوقت إلا حين سمعت طرقاً خفيفاً على باب غرفتي.. نهضت منهكاً.. اتجهت إلى الباب.. سألت من الطارق كما هي عادتي في الفنادق رد الصديق الحبيب الوفي عبد العزيز الرفاعي.. فتحت الباب.. سألني لماذا لم أتصل به؟ قلت له سأتصل غداً لأنني غير مهيأ في الوقت الحاضر.. أخذ مني رقم الهاتف وقام شخصياً بالاتصال.. والتحدث مع أهلي متسائلاً عن أسباب كثرة اتصالهم.. وهل هناك ما يوجب كثرة الاتصال؟ وبروح الأب سألهم عن صحة الأولاد فعرف منهم ان كل شيء على خير ما يرام.. وأمام حالتي النفسية قال لهم وانني في المؤتمر.. فهل بالضرورة ان يتصل بكم إذا عاد من المؤتمر.. فطمأنوه ان الجميع بخير.. وأن الأمور طبيعية.. وكل ما في الأمر ان ابنه «صافي» يبكي، ويريد سماع صوته.. فلا تزعجه بشيء.. ولا تقل له عن اتصالاتنا.. وسنعاود الاتصال به غداً.. فرأيت ارتياح اسارير وجهه المشرق.. وطلب مني أن نخرج في نزهة على الأقدام خارج الفندق.. في الهواء الطلق!!
شعرت، كم هو عظيم هذا الإنسان، ورقيق، وشفاف.. ولم استغرب عليه هذه الخصال.. فهو أب.. وشقيق روح.. وأديب يحمل أطنان المشاعر النبيلة.. وشاعر تتموج الموسيقى العذبة داخل النفس الكبيرة.. قضينا أكثر من ساعة في المشي.. وهو يردد على مسامعي أجمل أبيات الشعر المشرقة بالأمل..المعطرة بأجمل مشاعره.. وأثناء عودتنا قال لي: يا علوي لقد عرفتك في ظاهرك جاداً و«مسمار» قالها ضاحكاً رامزاً إلى كتاباتي الساخنة تحت هذا الاسم المستعار في الوقت الذي اكتشفتك في هذه الرحلة من الداخل رومانسياً شفافاً تقطر عذوبة بخلق كريم .. لهذا يخطئ الذين يحكمون على ظاهرك.. رددت عليه تجدني انساناً ممزقاً متعباً بفتح العين ومتعب بكسر العين لهذا أشعر ان عمري لا يطول.. فرد على العبارة الأخيرة زاجراً: أنت مؤمن.. والأعمار تطول وتقصر بقدرة الخالق.. عش حياتك ولا تهتم بأقوال الآخرين.. ولا تكن متشائماً، لأن التشاؤم يؤدي إلى الوهم.. والوهم يقتل صاحبه.. فارتاحت نفسي لحديثه الحكيم، النابع عن تجربة طويلة عميقة.
ومرت أيام الندوة دون أن يتركني.. وزان أيامنا وصول الصديق الحبيب الدكتور محمود سفر، والصديق الحميم الأستاذ خالد المالك.. فكونا ثلة زاجلة، إذ كان كل واحد منا مكملاً للآخر.. وكانت من أسعد رحلاتي.. تغمدك الله بواسع رحمته يا أستاذي «عبد العزيز الرفاعي».. ولا أنسى مكالمتي لك من جدة إلى المستشفى بالرياض كانت قبل ساعات من وفاتك بحيث انني أسمع نبرات صوتك ترن في أذني كلما تذكرتك وعندما أمرُّ بمنزلك المجاور لمنزلي أثناء ذهابي وعودتي من وإلى المسجد، وأترحم عليك بصوت فيه شجن الفراق، داعياً لك بالرحمة ومردداً قول الشاعر:
إن يوم الفراق أفظع يوم
ليتني مت قبل يوم الفراق
والأستاذ «الرفاعي» من مواليد عام 1342هـ بمكة المكرمة.. نال شهادة المعهد العلمي السعودي.. عمل مدرساً.. ومحرراً.. ثم سكرتيراً لشرطة العاصمة. فمعاوناً لرئيس المكتب الخاص بديوان النيابة.. فرئيساً للشعبة المالية والخارجية بالديوان نفسه.. وآخر عمل وظيفي له كان رئيس قسم الشؤون السياسية بديوان رئاسة مجلس الوزراء. له عدة مؤلفات.. وشعر لم ينشر.. وله دار نشر باسمه الشخصي صدرت عنها مجموعة من الأعمال له ولغيره.. وما تزال تمارس نشاطها إلى اليوم حيث يقوم بالعمل فيها ابنه الكبير «عمار».


* ص.ب (7967) الرياض (11472)
alawi@alsafi.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved