الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th January,2004 العدد : 45

الأثنين 4 ,ذو الحجة 1424

قصة قصيرة
«الأبيض»
محمد الأحمدي مكة المكرمة
في طريقه إلى مسكنه الجديد الذي شارف على الانتهاء توقف قليلاً وأسر لنفسه بسؤال مبهم:
هل ثمة شيء يبقى؟!
لم يبق على الرحيل وترك الحي القديم سوى أيام محدودة.
استطاع أبناؤه أن يقنعوه بضرورة الانتقال إلى مكان أرحب ليلتئم الشمل بعد أن عصفت رياح التغيير بكل شيء، ولم يعد الحي القديم مواكباً للتطلعات والآمال!
جيرانه ومحبوه باتوا يتحسرون على الماضي ويتألمون لقرب لحظة الوداع بالرغم من وعده المتكرر لهم بأن يظل وفياً للأيام الخوالي التي عاشها بينهم. ويؤكد دائماً أنه سيكون قريباً منهم بقلبه ومشاعره ولكن رائحة الحي القديم كيف يسلوها؟!
تلك الرائحة المفعمة بنكهة الهيل والبن والكادي التي طالما ملأ بها صدره وبقيت في وجدانه لا تفارقه.. تفوح من أعطاف الناس الطيبين ومن زوايا المكان بأقبيته المعتمة وأزقته الضيقة وبيوته المتلاصقة وظلاله الوارفة وشمسه المتسللة عبر الفتحات والكوى .. كيف يسلو رائحة المطر تحملها النسائم الفاترة ثم عندما تعانق حباته تراب الأرض؟! كيف ينسى صهد الصيف ورعونة الشتاء؟! وقار الشيوخ واندفاع الشباب وضحكات الصبا إن الماضي بكل عنفوانه يقف حائلاً بينه وبين ماهو مقبل عليه سنفقد طلعتك البهية أيها الرجل الطيب!
التفت إلى مصدر الصوت.. كانت جارته «صفية» أرملة عجوز كان قد أنهى لها بعض المعاملات قريباً وفض الاشتباك بينها وبين دائرة الأوقاف.. وضع يده على صدره ممتناً وابتسامته العريضة ترد التحية والشكر الجزيل.. وعندما مر ببقالة الحي حياه أحمد البقال ذو اللسان السليط بطريقته الظريفة:
أنوارك هلت.. علينا وطلت سيغرق الحي في ظلام دامس!
لا عزاء للمستضعفين يا سيد الحارة.. سنكون فريسة سهلة لأصحاب القلوب الغليظة!! كان أحمد متأدباً مع «الأبيض» فحجب عنه كلماته النابية المعهودة التي ما يفتأ يمطر بها الآخرين.. كان يحترم «الأبيض» لوقوفه بجانبه في ظروف حالكة كثيرة تخلى عنه فيها القريب والبعيد.
رد عليه وابتسامته المميزة لا تفارقه:
الصبر.. الصبر دواء.. والفرج قريب.. والله لا ينسى عباده!!
ثم مضى في طريقه وهو يقلب الأمور..
كان قلب «الأبيض» منزعاً بالسعادة وهو يدير مملكة من الدراويش والمجاذيب وأصحاب الحاجات في الحي القديم.. يتحلقون حوله، يجاذبهم أطراف الحديث.. يلبي رغباتهم ويقضي حاجاتهم ويرعى شؤونهم ويحرص على رضاهم دونما ضجر أو ملل.. كبهو داره الفسيح يتسع صدره لهمومهم وآلامهم ويداوي جراحاتهم ببلسم الرأفة والرحمة والود الخالص!!
قال أحد الذين اشتعلت الغيرة في قلوبهم ناراً لا تنطفىء وهو يرى اجماع الناس على تتويجه ملكاً للقلوب:
ما يفعله يتعدى حدود الطيبة إلى الغفلة.. وتصرفاته غير المتزنة وصلت به حد السفاهة.. أضاع المال وأشقى الأهل والولد في سبيل محبة واهية وذكر سرعان ما يأتي عليه الزمان فيدفن في غياهب النسيان! عندما سمع ذلك الكلام ابتسم ابتسامة الواثق من نفسه، وقال:
ثمة خيط رفيع يفصل بين الطيبة والغفلة.. أرجو أن أكون قد امسكت به. وبرضا يفوق الوصف.
يصفو قلبه وتطيب نفسه من يصل إلى البياض ويتفيأ ظلاله.. ولكن الطريق طويل والسفر شاق فلنتزود بالمحبة ولنغتسل في نهر القناعة والرضا. بالأمس غادرنا «الأبيض» إلى حيث يغادر الناس!!
وتعلم الصبية الصغار درساً يصعب تعلمه على من هم في مثل سنهم. فتحت الأبواب ودفعت بالناس إلى الخارج وأشرعت النوافذ فتزاحم المطلون يتعقبون بنظراتهم تلك السيارة الغريبة.
جموع غفيرة تابعت «الأبيض» في احتفال وداعي يندر حدوثه كانت تسير في إثر ذلك الخيط الأحمر الذي كان يرسم الطريق.. لقد غسلوه مراراً ونظفوا كل عضو من جسده ولكن الأحمر كان يأبى الانقطاع.. إنه يتفلت منهم ويجري مع الماء في رعشة شديدة وكأنه يخشى مرافقة «الأبيض» في رحلته!!
كنا في حيرة مما يحدث.. هل «الأبيض» يريد ان يغادر وحيداً ناصعاً لا يشاركه أحد؟ أم الأحمر لا يحبذ مرافقته هذه المرة؟
شيخ طاعن في السن اتكأ على عكازه القديم وودع «الأبيض» بنظرة حزينة أخذت تدور بين الجموع تبحث لها عن منفذ.. تنهد في تحسر مرير «أحقاً لن نرى الأبيض مرة أخرى!!» وطفل صغير تساءل في براءة: «لماذا يحملون الأبيض»؟! بالأمس كان يسير على قدميه! «الرجال ذهبوا في إثر «الأبيض» والصبية خيَّم عليهم الذهول. ترتسم على وجوههم علامات التعجب والدهشة ولا يجدون من يطفىء ظمأ السؤال الصعب «إلى أين يذهبون بالأبيض»؟
بعد خلو الشارع الطويل من تظاهر الرجال وابتعادهم بالأبيض انطلقت خيوط سوداء متقطعة من جميع الجهات ثم ما لبثت أن تشابكت وتداخلت وسارت في مسار واحد ميممة شطر بيت «الأبيض».
عويل وبكاء وتنهدات وأنين.. كلمات متقطعة .. وجوم.. همهمات.. جمل ناقصة لا تكاد تكتمل!! الساحة الكبرى اكتظت بالرؤوس والأقدام.. الجميع شهدوا وداع «الأبيض».. المتاجر أغلقت.. الناس عادوا مبكرين من أعمالهم.. لا أحد يريد أن يتخلف عن الوداع. ثلاثة أحرف أضاعت «الأبيض» تداولها الناس مع الصباح الباكر في ذهول ووقفوا حيالها عاجزين لا يستطيعون لها رداً.. لقد خرج الأمر من أيديهم ولم يعد بالإمكان غير التسليم!!
من يخلف «الأبيض يا ترى؟» وهل يبقى عرش القلوب خالياً؟!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved