Culture Magazine Monday  26/02/2007 G Issue 188
فضاءات
الأثنين 8 ,صفر 1428   العدد  188
 
الدلالة الصرفية في مسرحية (محاكمة المتنبي) لأنس داود
د. نوال بنت ناصر السويلم

 

 

الصرف: علم يبحث في أحوال الكلمة وأبنيتها، وهو رافد مهم للدراسة الأسلوبية ذلك لأن كل كلمة لها معنى صرفي مستفاد منها، فعلى سبيل المثال: (المعنى الصرفي للأسماء هو الدلالة على المسمى،... والمعنى الصرفي للأفعال هو الدلالة على الحدث والزمن... والمعنى الصرفي للصفات هو الدلالة على موصوف بالحدث(1) ثم إنها إلى جانب دلالتها على المعنى الصرفي العام للمبنى لها وظائف صرفية فرعية فالأفعال مثلاً (تؤدي وظيفة الإسناد، وهذا الإسناد يختلف بحسب المتكلم، والخطاب، والغيبة، وبحسب الإفراد والتثنية والجمع، وبحسب التذكير والتأنيث... إن أية لاصقة أو زائدة تلصق بالفعل بأنواعه الثلاثة لابد وأن تدل على معنى صرفي معين... ولهذا قال علماء اللغة الأقدمون إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى(2).

والتحليل الصرفي للمفردات يثري الدراسة، ويكشف عن قيم تعبيرية وفنية وجمالية في اللغة، ولتلك الأهمية عُني الدارسون ببعض المسائل الصرفية التي تخدم المعنى مثل: تقسيم الكلمة من حيث الاسمية والفعلية والنظر إليها من حيث الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، ودراسة المشتقات، وتقسيم الفعل إلى أزمنة... إلخ كل هذه المسائل مما يخدم الجملة ويجعلها ذات معنى بحيث لو تغيرت وحداتها الصرفية تغيرت معانيها(3).

ومن النتائج المثمرة للتحليل الصرفي، معادلة: (بوزيمان)، وهي معادلة تَشخِّص لغة الأدب بواسطة تحديد نسبة الفعل إلى الصفة (وتستخدم هذه القيمة باعتبارها دالاً على أدبية الأسلوب، فكلما زادت كان طابع اللغة أقرب إلى الأسلوب الأدبي وكلما نقصت كان أقرب إلى الأسلوب العلمي(4).

ومن أهم الوحدات الصرفية في اللغة: الفعل ويليه الوصف، والقياس الكمي ينبئ عن وفرة الفعل وتكراره بنسبة عالية في مسرحية (محاكمة المتنبي) لأنس داودمما يجعله سمة أسلوبية، ويتوفر الوصف بحسب سياقات معينة.

وسأشير هنا إلى وفرة الفعل وأزمنته وأبنيته في هذه المسرحية، مبينة أثر الدلالة الصرفية في المعنى إذ تشكل الصيغة الفعلية سمة أسلوبية مميزة.

أولى السمات الأسلوبية اللافتة في المسرحية هي:

- سيطرة الفعل على لغة المسرحية، فشخصياتها الرئيسة: (كافور، والمتنبي، والأميرة) تؤثر التعبير بالجمل الفعلية، وقد بلغ مجموع الأفعال في حوارهم ثلاثمائة وأربعة عشر فعلاً، أي جملةً بالمعنى النحوي، والتحليل الإحصائي لصيغة الفعل في المسرحية ينبئ عن وفرته.

والفعل كما هو معلوم يدل على حدث وهو بذلك أكثر دلالة على الحركة من الاسم، واستحواذه على اللغة يوحي بفاعلية الشخصيات وحركيتها، وأنها أبعد ما تكون عن الثبات والاستقرار والديمومة.

ومن الظواهر اللافتة؛ احتشاد الأفعال في المقطع الحواري، فهي لا تتباعد كثيرا بحيث تتوزع وتتناثرفي اللغة، بل تتقارب وتتوالى على لسان الشخصية محدثة تراكما في المقطع الحواري فعلى سبيل المثال؛ يحتشد في مقطع من حوار الأميرة: خمسة عشر فعلاً في عشرة أسطر، وتسعة عشر فعلاً في تسعة وعشرين سطراً، وتسعة أفعال في أربعة أسطر(5).

وتتراكم الصيغة الفعلية في المقاطع الحوارية لكافور، إذ يحتشد تسعة عشر فعلاً في ثمانية عشر سطراً، وواحد وعشرون فعلاً في تسعة عشر سطراً وستة وعشرون فعلاً في ستة وعشرين سطراً(6). وبمثل هذه الكثرة ترد الأفعال في حوار المتنبي، كاحتشاد ثمانية عشر فعلاً في عشرة أسطر وعشرين فعلاً في سبعة عشر سطراً(7).

والجدول السالف يشير إلى حفاوة الشخصيات بالفعل المضارع، وغلبته على لغتهم أكثر من الماضي والأمر، وهذا الحضور الطاغي للفعل، يوحي - كما سبق - بحيوية الشخصيات، وغلبة المضارع تعنى أن هذه الحركة يدور معظمها حول الحاضر، فحياتهم حافلة بالنشاط والفاعلية في حاضرهم، وتفاوت عدد الأفعال فيما بينهم يعود إلى حضور الشخصية، فكافور استحوذ على جزء كبير من المسرحية، فحواره ضعف حوار المتنبي والأميرة، ومن هنا جاءت كثرة الأفعال في حواره.

ومن الأمثلة على هذه الحفاوة بالفعل المضارع، قول المتنبي:

المتنبي: (ملتفتا إلى الأميرة)

بالحسن..

(ثم ملتفتاً إلى جانب كافور)

وبالإحسان

(ثم ملتفتاً إلى الجمهور)

أشغل نفسي بجمال الكون

أتابعه، وأصوره، وأغنيه

وأجسده للشعب.. يراوحه، ويغاديه

حتى يغدو الشعب.. شفيف الروح، نقيا

ورهيف الحس، أبيا

حين أرى القبح أثور، وتعصرني الآلام.. أكاد

أُجَنُّ إذا طالعني الظلم، وجابهني القهر..

وأكاد أُجَنُّ إذا أبصرت ضحايا الفقر(8).

فهنا يتألف هذا المقطع من عشرة أسطر تحوي ثمانية عشر فعلاً، ثلاثة منها أفعال ماضية، والباقية أفعال مضارعة، ونلحظ كثرة الأفعال المسندة إلى ضمير المتكلم، إذ تبلغ أحد عشر فعلاً هي: (أشغلُ، أتابعه، أصوّره، أغنِّيه، أجسِّده، أرى، أثور، أكاد، أُجنُّ، والفعلان الأخيران مكرران مرتين.

وتوحي هذه الكثافة للمضارع المسند إلى ضمير المتكلم بتضخم الأنا، وعلو الإحساس بالذات، وتوهجها. وازدحام الأنا معادل شعوري لفرط ثقة المتنبي بنفسه، وإحساسه بمسؤوليته تجاه شعبه، ولا مبالاته بمصيره في سبيل أهدافه ورسالته.

وتتسرب هذه الأنا إلى باقي الأفعال في المقطع السالف: (تعصرني الآلام، طالعني الظلم، جابهني القهر، أبصرت ضحايا الفقر) فذاته شديدة الالتصاق بالفعل (الحدث) بوصفه مفعولاً به في الأفعال الثلاثة الأولى، وفاعلاً في آخرها.

لكنَّ الأفعال الدالة على الفاعليّة أكثر من الأفعال الدالة على المفعولية في حوار المتنبي، مما يعنى تضخم الأنا الفاعِلة، ومن دلائل حضورها قول المتنبي قبل صدور حكم المحكمة:

فاغتفري لي.. أني لن أهرب

لن أتذمر.. لن أشكو.. لن أبكي!..

قدري.. قدر البلبل فوق الأيك

أن يتغنى بالحسن، وينفر من قبح الشوك..

أن يصحو الفجر على بسمتِه، ويطارده جشع الصياد(9)

فالمتنبي وهو يواجه مصيره المجهول بأيدي قضاته ما يزال شامخ النفس، أبيّاً، وتترجم الأفعال المضارعة الذات المتوهجة في أحلك المواقف: (أهرب - أتذمر - أشكو، أبكي) وتسلب دلالتها بالنفي (لن).

وتتزاحم (الأنا) والإحساس بالذات في غير الصيغة الفعلية، وذلك حين ترد مضافة للأسماء أو متصلة بالحروف كهذه المفردات: (قلبي، روحي، رحيلي، نفسي، شعري، قدري، شعبي، صوتي، إني).

كما تتسرب ذات المتنبي الفاعلة في حوار كافور، ومن ذلك قوله عن المتنبي:

في كل الأمصار.. قصائده.. تشويني، أو

تكويني

تتسقط مأخذ طعن، أو ظِنَّةَ عار

يا للأشعار

تسري بين العامة كالريح،

تتلقفها أنفسهم ما تتلقف أرض عطشى بعض

الأمطار

كيف أذود الشعر، وأتعقبه، والشعر يحاورني،

ويراوغني

وَيَفرُّ إذا جئت أقيم عليه الحد

بالصور الغامضة، وبالتهويمات، وبالإيماء(10)

توحي الأفعال المضارعة في المقطع السالف بسيرورة شعر المتنبي، وممارسته سلطة على كافور، فقصائد المتنبي لها وقع شديد على كافور تترجمه هذه الأفعال: تشويني، تكويني، يحاورني، يراوغني،تسري، تتسقط، يفرُّ.

وللأفعال الأربعة الأولى قيمة تعبيرية لاتصالها بياء المتكلم، وهي تقوم هنا بوظيفة نحوية هي الدلالة على المفعولية، وبذلك تعمق من ذات المتنبي الفاعِلة وذات كافور المفعول بها.

ويرتفع الأداء الفعلي في الفعلين (يحاورني، يراوغني) لأن المعنى الصرفي لصيغة (فاعَل، يفاعِلُ) هي المشاركة وهذا يعنى أن الفاعل والمفعول به قد اشتركا في الحدث، بحيث (يفعل أحدهما بصاحبه فعلا فيقابله الآخر بمثله، فتنسب الفاعلية للبادئ، بينما تنسب المفعولية للمقابل(11). فعلاقة المتنبي بكافور تقوم على الجدل والمتنبي هنا هو الطرف الأول في هذا الجدل بوصفه فاعلاً تثير أفعاله ردوداً وتحرض كافوراً على المواجهة.

ويشير الجدول السالف إلى كثرة صيغة فعل الأمر في حوار كافور، فهو يخاطب محاوريه بلهجة آمره، كهذه الأفعال: (آتِ به، اغرب، دعني، كفِّي، اخرج، اصرف، اشطب، اخرس... إلخ).

وتوحي هذه الوفرة باستعلائه وجبروته وإذلاله لمن حوله بكثرة إصدار الأوامر وتتلاءم اللغة الآمرة مع شخصية كافور (الطاغية)، ومن ذروة الكثافة قوله متشفياً:

اقطع يا مسرور الكفين

ثنِّ بهاتين القدمين

ابقر هذا البطن

لا.. لا..

اسمل هاتين العينين

لا أرغب في أن أبصر ومضهما اللماع

أخْرِجْ - بعد - أداة القول

كم عبثت بي

اقطعها.. اسحقها.. اسحقها..(12)

والتراكم الفعلي هنا يوحي بتفاقم حدة الغضب، وتشفي كافور من المتنبي بالتمثيل به وتتوالى الأفعال في تفصيلات قتله: (اقطع، ثنِّ، ابقر، اسمل، أَخِرج، اسحقها)

مبيحاً لنفسه جسد الشاعر الجسور.

ومن الصيغ الصرفية اللافتة في المسرحية تضعيف عين الفعل، ويرد ماضيا ومضارعاً وأمراً، كهذه الأفعال: نروّح، يطوّق، أصوّر، أغنِّي أجسِّد، سجَّله، مزِّق، قوّموني، وضِّح) وتدل هذه الصيغة على (المبالغة والتكثير)(13). كما تتكرر أيضا صيغة (تفعّل) ثلاث عشرة مرة كهذه الأفعال: (أترقَّب، يتصبَّبُ، أتحسَّاه، تتلقَّف، أتقلَّب، تتخلَّص، يترنَّح). وهي أفعال مضارعة مسندة إلى ضمائر المتكلم والغائب.

وبعد هذا التحليل الإحصائي للصيغة الفعلية يتضح أن الفعل ظاهرة لافتة في اللغة، على مستوى المسرحية وعلى مستوى المقطع الحواري، حيث تحتشد وتتراكم الصيغة الفعلية، وخصوصاً الفعل المضارع، الصيغة الأثيرة لدى الشاعر في هذه المسرحية ودلالته على الحال أو الاستقبال تعبر عن تطلعات الشخصيات المستقبلية وتحركاتهم حول الحاضر.

**

هوامش

(1) فاضل مصطفي الساقي، أقسام الكلام العربي من حيث الشكل والوظيفة ص203، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1397 هـ، 1977م.

(2) السابق، ص207.

(3) انظر: د. كمال بشر، دراسات في علم اللغة (القسم الثاني)، ص85 و97، دار المعارف، مصر، ط2، 1971م.

وبعض الدراسات تخلط هذه المسائل الصرفية بمباحث النحو، فتدرس أزمنة الفعل في التحليل النحوي، وهي من صميم الدراسة الصرفية، انظر: أيضا فاضل الساقي: أقسام الكلام العربي فصل الوظائف الصرفية والنحوية لأقسام الكلم من (203 - 213) وانظر: د. محمد خير حلواني، المغني الجديد في علم الصرف ص39، دار الشرق العربي، بيروت - لبنان، د ت.

(4) د. سعد مصلوح، الأسلوب دراسة لغوية إحصائية، ص60، دار البحوث العلمية ط1، 1400هـ، 1980م، وقد طبقها سعد مصلوح على كتب أدبية وفكرية وفنون أدبية كالرواية والمسرحية، وحلّل إحصائياً أربعاً من مسرحيات أحمد شوقي هي (مصرع كليو باترا، مجنون ليلى، الست هدى، أميرة الأندلس) وخلص من دراسته بعدة نتائج انظر: الصفحات 82 - 97.

(5) مسرح أنس داود (محاكمة المتنبي)، ص126و 131 و135 .

(6) انظر: السابق: ص130، 133، 137.

(7) انظر: السابق، ص149، ص154.

(8) السابق، ص149.

(9) السابق، ص154.

(10) السابق، ص130.

(11) فاضل الساقي، أقسام الكلام العربي من حيث الشكل والوظيفة، ص292.

(12) مسرح أنس داود (محاكمة المتنبي) ص136.

(13) د. محمد خير الحلواني، المغني الجديد في علم الصرف، ص163.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة