Culture Magazine Monday  26/02/2007 G Issue 188
فضاءات
الأثنين 8 ,صفر 1428   العدد  188
 

الرؤية الاجتماعية في روايات عبد العزيز مشري (5)
د.سلطان سعد القحطاني

 

 

عرف أهل الجنوب الهجرة منذ أن حتمت الظروف الاقتصادية عليهم الهجرة بعد انهيار سد مأرب العظيم، فتذكر المصادر التاريخية أسباب هذه الهجرة، ولم يكن لهم من وجهة يتوجهونها إلا الشمال، والغرب، ومنهم مجموعة توجهت إلى بلاد الشرق، وكانت الهجرات تفضل الأقرب والأسهل، فهجرة الجنوبيين إلى الشرق كانت شبه محصورة في سكان حضرموت، لسهولة التنقل ووجود الموانئ على بحر العرب، وهجرة سكان غرب المرتفعات كانت إلى إفريقيا ومصر. وتلك ظروف كانت اقتصادية وسياسية جعلت الإنسان في جنوب الجزيرة العربية يهاجر؛ وبالتالي صارت الهجرة عند ابن الجنوب عادة من العادات الموروثة، حيث تعود على ممارسة التجارة وصارت نوعاً من اهتماماته الدائمة، وبرز في هذا المجال عدد من أبناء مناطق الجنوب، بل اشتهروا بهذه الصنعة. ويحلل البعض هذه الظاهرة على أنها نوع من التأثير الاجتماعي، أو ما يمكن تسميته (العبقرية الاجتماعية) وهي عبقرية موروثة اجتماعياً، ومصدرها التنافس والظهور بأحسن مما يظهر به قرينه من أبناء هذه الطبقة أو تلك.

تلك هجرات كانت لها ظروفها، وقد ذكرت شيئاً منها باختصار. وبما أننا ندرس الرؤية الاجتماعية في روايات الكاتب الروائي، عبد العزيز مشري، فلا بد أن نركز على هذه الظاهرة في أدبه؛ فنجد في قصصه القصيرة (أسفار السروي، وأحوال الديار) اهتمامه بسفر أبناء السروات، وهذه الأسفار تتطلب من المسافر مصاريف العيش وتنمية ما لديه من التجارة، وعندما يسافر الأب، كسائق سيارة أجرة في المناطق ذات التكدس السكاني، والزائرين والحجاج، فإنما يعني فيها الهجرة من أجل توفير لقمة العيش لأسرته، في الزمن الذي لم تعد الزراعة التي تقوم عليها هذه المنطقة أو تلك تكفي، في ظل مزاحمة الاستيراد بأسعار أقل تكلفة من المنتج الزراعي المحلي. ويظهر الصراع بين الجيل القديم والجيل الجديد حول هذه التغيرات، ويسبب تأخر المطر عن موسمه، بعد أن أعد الفلاحون حقولهم، على المدرجات الجبلية، قلقاً ما بعده قلق، وهذا دليل على تعلق الإنسان بهذه الأرض على أنها مصدر عيشه ومستقبله؛ ففي روايته الأولى (الوسمية) يبدأ بحديث القرويين عن موسم الأمطار الذي تأخر عن موعد هذا العام على غير عادته، وحديثهم ونقاشهم حول الأعمال الزراعية التقليدية لهذا الفصل من السنة، مثل إعداد الأرض لتقبل الأمطار، والأدوات المستخدمة للري والزراعة. ويصور المؤلف في تفصيل بالغ الدقة الكيفية التي يكونون عليها، وماذا يشغل بالهم جميعاً، كالخوف على مستقبل الأرض والإنسان، إن لم ينزل المطر هذا العام في موعده المحدد، وقد يترتب على هذه المشكلة عدد من المشكلات الاجتماعية الأخرى. ويشير المؤلف - بطريقة غير مباشرة - إلى أنه يرفض هذه التقاليد، ويؤمن بالتغيير، لكنه في الوقت نفسه يتمسك بالموروث ويرغب في تطويره.

ويرى بعض الدارسين تعلقه بهذه البيئة؛ مما جعله يتفاعل معها عن قرب، وينقل هذه الرؤية إلى خارج هذا المحيط الإقليمي من خلال وصف الظواهر الطبيعية. ويظهر التأثير القادم إلى الريف (الباحة) واضحاً في التقاليد الاجتماعية أكثر مما كان مؤثراً في الطلبة الذين يدرسون مواد لا تخدم الحياة اليومية. أحمد، أحد الشخصيات البارزة في رواية المشري (الغيوم ومنابت الشجر)، يبدأ تعليمه في مدرسة القرية. المدرسون لا يبعثون حياة في التدريس، ولا يعطون الطلبة شيئاً من الحياة المحسوسة؛ لذلك يريد أن يكبر ويهاجر إلى البلاد التي يراها في الصور، مثلما هاجر أبوه، هجرة مؤقتة محسوبة بعشرة أشهر في السنة، يعود بعدها بالهدايا، ويطور من حياته الاجتماعية، مكتسباً ثقافة مغايرة لثقافة جده (الشايب) وكبار السن في القرية يحملون مسئولية قيادة الجيل الجديد، لا يثقون بالتعليم الحديث، ويعتمدون على خبراتهم في الحياة، إنهم يعتبرون التقنيات الحديثة من الأشياء المخيفة لهم ولمستقبل هذه الأجيال، وكان أولها هذه الآلة التي تجلب لهم الأخبار يومياً، ويعرفون بها الحج وحلول شهر رمضان ومواقيت الصلاة (الراديو)؛ ومن ثم جاءت السيارات، التي قاموا لها بتعبيد الطريق، كي تصل إليهم، لعلها تجلب لهم الضروريات من المأكل والملبس، ولكن من جاء بهذه السيارات غير أبنائهم المهاجرين، أو المغتربين؟ أو ليس هم الذين غيروا من الطابع المحلي في البناء، بما عرفوه في البلاد التي عاشوا فيها فترة من الزمن، وكان لهذا التغيير أسبابه وضروراته، فالبناء تغير من المدماك الحجري البلدي إلى ما يشابهه في المدن الأخرى، صبة من الخرسانة، لا فرق بينها في التصميم، وعمالة وافدة من أقطار الأرض بتقاليدها وبعض معتقداتها، أو دياناتها، فبمجرد عجز أو موت الجيل القديم تحولت البلاد إلى عمالة تقوم بكل احتياجات المواطن، وذهبت الصناعات اليدوية المحلية بذهاب أهلها؟ والعروس التي تعيش مع أهل زوجها وهو في غربته، تحول الحال إلى بناء بيت جديد خاص بها عزل الأسرة عن بعضها، وتتغير الأمور على كبار السن، فيرفض الأب (الشايب) الذهاب للبيت الجديد، ويفضل أن يموت ويدفن بين أهله في مقبرة القرية، ويحاول الابن مع أمه أن تذهب معه، لكنها تفضل البقاء مع زوجها، تحيا وتموت معه. وبهذا الوصف الدقيق استطاع المشري أن يبلور تجربته الفنية في كل أعماله عن الريف، الذي يمثل في مجموعه الحياة الاجتماعية في منطقة من أغنى مناطق المملكة بالتجربة الإنسانية، فمنهم من هاجر منها، وعاد إليها، ومنهم من هاجر هجرة نهائية لم يعد إليها، لكنه لم يقطع الصلة بها.

كانت نظرة عبد العزيز مشري للحياة الاجتماعية في منطقة الباحة - على وجه الخصوص، ومنطقة الجنوب على وجه العموم - نظرة الفنان الواقعية، فقد استطاع أن يصور الحياة من خلال التجربة الواقعية، فوصف بيت القرية، وكبير الأسرة، وظروف وأسباب السفر، في هجرة مؤقتة، والصراع الدائر بين الجيل القديم، والجيل الجديد، مبتدئاً بالمدرسة التي يتعلم فيها الجيل الجديد، وعلى أنها لم تلب حاجات المجتمع، وتطلعات ابن الريف للحياة المدنية الحديثة، وأمنياته في تحقيق هذه الحياة، من خلال السفر وتعلم ما يمكن تعلمه من تقدم في تلك البلاد، حاول بعض المهاجرين نقله إلى قراهم، وظهور بعض تلك المظاهر في القرية، كبداية للتغيير القادم، لا محالة.

وقد وثق الكاتب - في كل رواياته - ثقافة هذا المجتمع، ليس بمعزل عن المجتمعات الأخرى في الجزيرة العربية، وفي بعض البلاد العربية الأخرى، لكن بخصوصيات ذات علاقة بالآخر، مثل الأسماء والمواضع والعادات والتقاليد الموروثة، وصراعها، في قناع يعطي مؤشراً على وجود الحداثة القادمة، فتغير البناء من الموروث إلى الحديث، واستبدلت الأدوات المستعملة في المنازل بأدوات من صنع الغير، ومثلها في الري، وحتى الإنسان، استبدل مهنته بمهن القادمين، وتحول المجتمع من منتج لذاته إلى مستهلك لما يصنعه ويقوم به الآخر، من العمالة القادمة بثقافتها الخاصة، وتقبلها الجيل الجديد، على علاتها، لأنه لم يعد يعمل.

هذه اللوحات الفنية التي قدمها عبد العزيز مشري في كل رواياته، هي واقع الحال الذي يعيشه العالم العربي في زمن العولمة، والتحديث القادم بثوبه الخاص، وليس بثوب المجتمع الذي قدم إليه، وهذه النظرة الواقعية، صاغها الكاتب بكل فنية سردية. وقد حاولت في هذا البحث أن أقدم إضاءة موجزة، يغني قليلها عن كثيرها، عن كاتب تفرد بهذا العمل عن غيره من الروائيين من أهل هذه المنطقة، فأرجو أن أكون قد وفقت، فإن كان كذلك، فبفضل من الله، وإن لم يكن فحسبي أنني حاولت.

**

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244

انتهت


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة