الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th April,2004 العدد : 56

الأثنين 7 ,ربيع الاول 1425

فدوى طوقان..
وزهرة الفل التي تسببت في قطع دراستها
محمد عبدالرزاق القشعمي

قرأت لها الكثير، وأعجبت بشعرها الجميل، وعند صدور كتابها الأول أو سيرة حياتها (رحلة جبلية.. رحلة صعبة) قبل خمسة عشر عاماً كنت من المحظوظين في الحصول عليه مبكراً..وتألمت لما تطرقت إليه من ذكريات قاسية مؤلمة رغم أنها قالت في مقدمتها:
(.. لم أفتح خزانة حياتي كلها، فليس من الضروري أن ننبش كل الخصوصيات).
هناك أشياء عزيزة ونفيسة، نؤثر أن نبقيها كامنة في زاوية من أرواحنا بعيدة عن العيون المتطفلة، فلابد من إبقاء الغلالة مسدلة على بعض جوانب هذه الروح صوناً لها من الابتذال(...) القالب الفولاذي الذي يضعنا فيه الأهل، ولا يسمحون لنا بالخروج عليه.
القواعد المألوفة التي يصعب كسرها، التقاليد الخالية من العقل، التي تضع البنت في قمقم التفاهة، كنت توقاً مستمراً إلى الانطلاق خارج مناخ الزمان والمكان، والزمان هو زمان القهر والكبت والذوبان في اللاشيئية.. والمكان هو سجن الدار..
هناك من يأتي إلى هذا العالم فيجد الطريق أمامه مفتوحاً ناعماً، وهناك من يأتي فيجد الطريق شائكاً صعباً.
على هذا الطريق الصعب رماني المجهول، ومن هذا الطريق صعب بدأت رحلتي الجبلية.
حملت الصخرة والتعب، وقمت بدورات الصعود والهبوط، الدورات التي لا نهاية لها، لا يكفي أن نحمل آمالاً كباراً وأحلاماً واسعة، حتى الإرادة وحدها لا تكفي..
لقد أدركت أن العمل هو الوجه الآخر للحلم والإرادة..
وقررت أن أتعامل مع هذه العملية ذات الوجهين: (الإرادة والعمل).
وبدأت تروي سيرتها بدءاً من محاولة أمها في التخلص منها في الشهور الأولى من حملها بها.. رغم أنها قد أنجبت قبلها عشرة أنفس خمسة من البنين وخمس من البنات، ولم تحاول الإجهاض إلى حين أتت.
ورغم أن أمها أول امرأة من جيلها ترفع الحجاب في نابلس، كما تقول إلا إنها لم تشفع لها أو تستطيع الوقوف معها عند رفض أخيها يوسف استمرارها في الدراسة ففي السنة الثالثة الابتدائية عندما أخبره أحدهم بأن هناك شخصاً أعجب بها، وهي تمشي ذاهبة للمدرسة فأخذ زهرة فل من إحدى الأشجار وأعطاها أحد الأطفال ليذهب إلى حيث تسير ويهديها لها إعجاباً.. فخاف أن يكون هذا التصرف بداية لما لا تحمد عقباه.. فمنعها من الذهاب للمدرسة بعد ذلك، وهددها بالقتل لو تخطت عتبة المنزل. وذهب لتأديب الغلام مهدي الزهرة.
ووالدها الذي تصفه بالجاف رغم ما يتصف به عمها، فعمها انبساطي متفتح يتحدث إلى بنات العائلة ويضاحكهن ويشاركهن ألعاب الطفولة، أما والدها فلا يترك لها ولإخوتها مجالاً للتقرب منه، وقد ظل حضوره يبعث في نفسها الضيق منذ طفولتها.
فتذهب مع رفيقتها (علياء) في الممرات الضيقة المظللة بالشجر في مدينتها نابلس فتقول (..كان الإحساس بالحرية والانطلاق بعيداً عن جو البيت الأثري المختنق بالمحظورات وبالأوامر والنواهي التي لا أول لها ولا آخر، كان ذلك الإحساس بالحرية يملؤني بفوحان الحياة، ففي تلك اللحظات الباهرة كان يستولي عليّ نهم حسي لالتهام الوجود، وتجتاحني رغبة الامتلاك، فأتمنى لو كانت تلك الأشكال الحية، المختمرة بخميرة الحياة المتفتحة، شيئاً يمكن أن أضم عليه راحة يدي، أو أحتضنه إلى صدري، أو آخذه معي لأخبئه تحت مخدتي مع أشيائي الطفولية المخبأة هناك).
ونشأت أواصر صداقة حميمة بينها وبين أشجار تلك المنطقة.. وممراتها الضيقة ومنعطفاتها الرطبة، فعايشتها كلها بألفة وحب عميقين.
وعرّفتها صديقتها (علياء) على المباهج الموسمية والأفراح الاجتماعية، كالأعراس والموالد وأفراح موسم الحج، وختم القرآن، وميلاد الأطفال الذكور، والختان.. إلخ.
كان أشد ما عانته حرمانها من الذهاب إلى المدرسة، وهي ترى أختها (أديبة) تنشر دفاترها حولها، وتشرع في الدراسة وعمل التمارين المقررة، وهنا كانت تهرب إلى فراشها لتخفي دموعها تحت الغطاء. حيث بدأ يتكثف لديها شعور ساحق بالظلم حتى أنها فكرت في الانتحار بتناول السم فتقول: (..كان الانتحار هو الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أمارس من خلاله حريتي الشخصية المستلبة، كنت أريد التعبير عن تمردي عليهم بالانتحار.. الانتحار هو الوسيلة الوحيدة، هو إمكانيتي للانتقام من ظلم الأهل.. لن يستطيع يوسف أو غيره من أفراد الأسرة أن يصدر عليّ حكماً بالحياة.. سأتركهم مبلبلين متعذبين، نادمين، وهنا أقف قليلاً، ماذا عن أمي..).
وكان الفرج عند عودة أخيها إبراهيم من بيروت عام 1929م يحمل الشهادة من الجامعة الأمريكية واستقر بنابلس ليمارس مهنة التعليم، وله مكانة كبيرة في قلبها منذ طفولتها فأول هدية تلقتها في صغرها منه، وأول سفر في حياتها كانت معه.
حتى أصبح بالنسبة لها(.. المصح النفسي الذي أنقذني من الانهيارات الداخلية..).
في هذه الأثناء وهي تتفانى في خدمة أخيها إبراهيم وترتيب غرفته وتنسيق أشيائه وقع بيدها كتاب (الكشكول) وهو يضم مجموعة من الطرائف والشعر والأخبار الأدبية والتاريخية، ووجدت في هذا الكتاب قصيدة (أيها الساقي إليك المشتكى) فكانت تغتنم فرصة غياب والدها وأبناء عمها وقت العصر فترتقي السلم الخارجي المكشوف، وتتجه نحو الشجر المنتصب في صحن الدار، وتشرع في إلقاء القصيدة بصوت واثق مرتفع، مقلدة بذلك إبراهيم في إلقائه للشعر، وتتخيل نفسها شاعرة تقرأ شعرها على الجميع...
ثم بدأ إبراهيم يعلمها نظم الشعر بمجرد أن عرف ميولها نحوه، بدءاً بكتاب (الحماسة) لأبي تمام. إذ اختار قصيدة (امرأة ترثي أخاها):
طاف يبغي نجوة
من هلاك فهلك
ليت شعري ضلة
أي شيء قتلك
أي شيء حسن
لفتى لم يك لك
كل شيء قاتل
حين تلقى أجلك
والمنايا رصد
للفتى حيث سلك
شرح لها معنى الأبيات فقالت: (فشعرت بخيط رفيع من السوداوية يحز في قلبي، فقال: لقد تعمدت أن أختار لك هذا الشعر لترى كيف كانت نساء العرب تكتب الشعر الجميل... وفي المساء أسمعته القصيدة غيباً دون خطأ أو تلكؤ في تلاوتها.
حين أويت إلى فراشي ذلك المساء كنت أحتضن بين ذراعي دفتراً ذا لون حشيشي باهت، وقلما أزرق اللون، وعيداً من أعياد الشعور!..)
وبدأت تتعلم من جديد على يد أخيها إبراهيم وتعود لها الثقة بالنفس من جديد..
وكانت أولى محاولاتها قصيدة موجهة إلى رباب الكاظمي:
أرباب تاج الشاعرات
أرباب فقت النابهات
والله أنت خليقة
بالمدح بين الآنسات (!!)
وأبوك قد أعطاك كنزاً
زاخراً بالطيبات
الكاظمي ما الكاظمي
هو ناظم للبينات
يا أيها الشعراء
لا تقفوا أمام الشاعرات
نسيت شقاءها, وأصبح المستقبل هو كل الزمان بالنسبة لها، ووضعت برنامجاً يومياً صارما. فكانت تستيقظ مع أذان الفجر أو قبله فتعد قهوتها وتأخذ مكانها أمام دفتر التمارين.. وكانت تقول: (كانت الساعات المكرسة للدراسة في الصباح الباكر هي التي تجعل يومي كله حافلاً بالنشاط والمتعة، وأصبح الشعر شغلي الشاغل في يقظتي ونومي، في وجداني وضميري، أصبح حبي الذي ظل طيلة حياتي حباً صوفياً، ليس بالمعنى الديني، بل بما في هذا الحب من شدة، وبما يبعثه في أعماقي من نشوة باهرة .. في استغراقي في عالمي الجديد عرفت مذاق السعادة، كنت مستغرقة في عملية خلق نفسي، وبناتها من جديد، والبحث الطموح عن إمكاناتي وقدراتي مما شكل ثروة وجودي... أصبح الشعراء الجاهليون والأمويون والعباسيون يعيشون معي، يأكلون ويشربون ويقومون بأعمال المنزل ويستحمون ويتحدثون إليّ وأتحدث إليهم.. كان آخر حب لي مع الشعر القديم هو أبو فراس الحمداني، وقد ظللت أحمل حنينه في الأسر وآلامه لفترة طويلة ربما كانت أطول فترات الحب السابقة، كما رحت أنسج قصائدي في تلك الفترة على منوال شعره).
عرض على أخيها إبراهيم التعليم في الجامعة الأمريكية ببيروت فوافق وتركها وحيدة مع الشعر، فلهذا نجدها تقول (كانت وحشتي بعده ثقيلة، ألقيت بنفسي على سريره وبكيت..)، وهكذا عاشت سنتين على رسائله، وخصصت ساعات الظهيرة للمطالعة المركزة فقرأت (البيان والتبيين) للجاحظ و (الكامل) للمبرد. و(أمالي) القالي، والعقد الفريد وكتاب (الأغاني)، وكتب العقاد وطه حسين وأحمد أمين ومصطفى صادق الرافعي.
وتقول: إنها تأثرت بأسلوب أحمد حسن الزيات من خلال مجلته (الرسالة) وكتبت قصيدة ضمن رسالة بعثتها إلى أخيها إبراهيم على طريقة ابن الرومي القائل في قصيدته:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي
فجودا فقد أودى نظيركما عندي
فقالت في رسالتها وهي تتشوق إلى إبراهيم:
لقد زاد في قلبي اشتياقي من البعد
فهل عند إبراهيم مثل الذي عندي؟
أقول لعين تشتهي النوم كفكفي
دموعك قبلاً تستريحي من السهد
ألا ليت شعري هل تجيء ديارنا
فيذهب ما يلقاه قلبي من الوجد
وهكذا أطلع أخوها يوسف الشاعر عبدالكريم الكرمي (أبو سلمى) على القصيدة فأعجب بها ونشرها في جريدة (مرآة الشرق) في القدس، فقالت: (لم تفرحني المفاجأة العظمى، بل صعقتني، وربض على قلبي هم ثقيل: ماهذا؟ اسمي في الجريدة؟ كيف سيكون وقع هذا الأمر الخطير على أبي؟ حتماً سيحرم علي كتابة الشعر بعد اليوم..)
مرت هذه الحادثة بسلام، وعاد إبراهيم ليعمل مدرساً في القدس واصطحبها معه وشجعها على نظم الشعر، ولكن تدهور صحته أقلقها فكتبت بكائية حزينة تذكر منها:
ما الشعر إلا شكاة الروح إن يئست
وإن تغنت فترجيع وألحان
شفي إبراهيم وعاد لنابلس، وبدأت المقاومة للاحتلال البريطاني تشتد، وبدأ (النادي العربي) يجمع الشعراء والأدباء ويشجع الشباب على إلهاب الشعور الوطني للحرية، فبدأ إبراهيم في كتابة القصائد الوطنية الحماسية، وحاولت تقليده بقصيدة نشرها صديق إبراهيم في بيروت عمر فروخ في مجلته (الأمالي) مما شجعها إلى إرسال قصائدها الغزلية إليه بتوقيع (دنانير).
جاءت للقدس مع إبراهيم حيث عمل مع (أبو سلمى) بالإذاعة الفلسطينية، وفي نابلس حيث والدها مع كبار القوم يتفاعلون مع الحركة الوطنية أثناء الإضراب الشامل عام 1936م، فكان الجميع يلتقون في منزلهم بتزعم والدها الذي يأتيها لتنظم لهم قصيدة سياسية تلهب الجميع، ويطلب منها أن تحل محل إبراهيم في كتابة القصائد فتقول:(..وأنا في تلك الحال النفسية والاغتراب، كان أبي يأتي إليّ طالباً مني كتابة الشعر السياسي، كان يريدني أن أملأ المكان الذي تركه إبراهيم، فكلما برزت مناسبة وطنية أو سياسية أقبل علي يسألني الكتابة في الموضوع، وكان صوت في داخلي يرتفع بالاحتجاج الصامت:
كيف وبأي حق أو منطق يطلب مني والدي نظم الشعر السياسي، وأنا حبيسة الجدران، لا أحضر مجالس الرجال، ولا أسمع النقاشات الجادة، ولا أشارك في معمعة الحياة..).
وأصابها اليأس وظل يطغى عليها الشعور بالعجز، ولهذا نجدها تقول:
(.. لقد تعطلت لديّ القدرة على كتابة الشعر فتوقفت حتى عن نظم الشعر الذاتي، وهكذا غطى الجدب الشعري كل تلك المرحلة الصعبة، كان وعيي الشديد لما أنا فيه من كبت وضغط يؤثر على كياني الروحي والجسدي معاً، فازداد هزالي، ولم تكن آلام الرأس تفارقني إلا نادراً، وكان التعب النفسي رابضاً بكل ثقله على أعضاء جسدي، وفي الليل كان يغرقني العرق). وقالت:(..لم أكن أحمل لأبي عاطفة قوية، بل ظل شعوري تجاهه أقرب ما يكون إلى الحيادية، لم أبغضه ولكنني لم أحبه، لم يكن له أي حضور وجداني في نفسي إلا في أوقات مرضه أو حين يسجن أو يبعد لأسباب سياسية، كان بالنسبة لي خيمة تظللنا... فلم يكن يبدي لي أي لون من ألوان الاهتمام أو الإيثار، حتى حين كنت أقع فريسة لحمى الملاريا في صغري ما كان ليدنو مني أو يسأل عني، وكان هذا الإهمال يؤلمني..).
ولهذا فقد حل أخوها إبراهيم مكان والدها لحنوه عليها.. فحين توفي إبراهيم أحست باليتم الحقيقي... فرثته بقصيدة طويلة على القبر.. إلى روح إبراهيم) فنختار منها:
آه يا قبراً له إشعاع نور
لا أرى أجمل منه في القبور
فيك دنياي، وفي قلبي الكسير
مأتم ما انفك مذ بات لديك
قائماً يأخذ منه بالوتين
أيها الهاتف من خلف الغيوب
ما ترى نبع حياتي في نضوب؟
لم أزل أضرب في عيش جديب
موحش كالقفر موصول الشقاء
منذ أمسى نجمه في الآفلين
أين إبراهيم مني، أين أين؟!
حبة القلب ونور الناظرين
أنا من عيشي وموت بين بين
فلعل الحْين موفٍ عن قريب
يمسح الجرح ولآلام الحنين
وعندما مات والدها حاولت أن ترثيه فلم تستطع بسبب التأزم النفسي الرهيب بفعل الكبت العاطفي الشديد الذي كانت تكابده، فحاولت أن ترثيه ففشلت، ولكنها كتبت قصيدتها (حياة) وهو كما قلت تظهر حقيقة إحساسها بفقد والدها.. نختار منها:
حياتي دموع
وقلب ولوع
وشوق، وديوان شعر، وعود
***
حياتي، حياتي أسىً كلها
إذا ما تلاشى غداً ظلها
سيبقى على الأرض منه صدى
يردد صوتي هنا منشداً:
حياتي دموع
وقلب ولوع
وشوق، وديوان شعر، عود
أطلّ بروحك يا والدي
لتنظر من أفقك الخالد
فموتك ذل لنا أي ذلّ
ونحن هنا بين أفعى وصل
ونفث سموم
وكيد خصوم
بدنيا العقوق، بدنيا الجحودْ
وهذا التشاؤم وتلك الصور الحزينة توضح ما تعانيه إذ إن جميع العائلة تسكن في منزل كبير واحد من أعمامها وأبنائهم، وكيف كانوا ينظرون إليها ويتهامسون عندما كانت طفلة صغيرة، عندما أهدى لها ذاك الشاب وردة بواسطة طفل، وهي في طريقها للمدرسة الابتدائية التي حرمت من المدرسة بسببها، فمازالت تحمل في داخلها تلك الصور.
بعد رحيل إبراهيم، ومن ثم رحيل والدها انغمست في الشعر والسياسة، فقد قامت الدولة العبرية، وأصبح أهل الأرض غرباء، وبدأت الانقلابات والثورات في بعض البلاد العربية لتغير شيئا، ولتمسح وصمة العار، ولكن هيهات، فها هي تقول: (مع هبوب رياح التغيير والثورات خرج الشعر من بروج النزف ليواكب مسيرة الجماهير العربية فاعلاً ومتفاعلاً مع متطلعاتها إلى التحرر من القهر والاستغلال، وأصبحت قضية الشاعر جماعية وبعيدة عن الفردية).
وبدأت تخفي في منزلها بنابلس بعض الثوار مثل الدكتور عبدالرحمن شقير وكمال ناصر دون معرفة بقية أفراد العائلة عدا والدتها وأخيها (رحمي) وتتدبر مع غيرها إمكانية تهريبهما لدمشق.
وتقول في فصل آخر من (رحلة جبلية.. رحلة صعبة):
(أنا أقرأ، فأنا موجودة، ظللت قارئة كتب شرهة، وقد نمّى هذه الشراهة حرماني من الدراسة الأكاديمية، فالإنسان الطموح يظل ينطوي على مرارة مصدرها ذلك الفراغ الذي يتركه في النفس الحرمان المبكر من المدرسة. هنا يتحول إلى (دودة كتب).
وتغادر إلى بريطانيا لتتعلم اللغة ولتحس بالتحرر والاستقلال وتقول (.. إن الشعور بالنقص الإنساني هو الدافع الحقيقي الذي يدفعني إلى السفر، فهو المنبع الزاخر للمعرفة في السفر يتعلم المرء الكثير، تتسع آفاقه...)
وتعود بين سنتين.. وتتسارع الأيام والأحداث وينصحها أحد الأصدقاء بمغادرة نابلس إلى عمان أو بيروت، فالحرب واقعة لا محالة.. فترفض مفضلة الموت على عتبة بيتها ولا تلجأ إلى بلد آخر..
وتقع الحرب.. وتحل الهزيمة.. وهاهي تقول: (هبطت الفضيحة على الأرض العربية.. انهزمنا.. خسرنا الحرب.. أحزاننا لا تطاق.. الأعلام البيضاء تلعب بها الريح على سطوح المنازل.. أصبحنا محتلين من قبل الجيش الإسرائيلي.. أخرجتني الصدمة عن حدود الواقع..
حزينة أنا حتى الموت!)
وتختتم الجزء الأول من (رحلة جبلية.. رحلة صعبة) قائلة: انكسر طوق الصمت، كتبت خمس قصائد، أشعر ببعض الراحة.. سأكتب، سأكتب كثيراً.
أحس إنني أعيش كل دقيقة من زمان لمسرحية، ويهزني كل فصل من فصولها، فإذا بي أنا نفسي قصيدة ملتاعة كئيبة، آملة، تتطلع إلى ماوراء الأفق!!
وتقول أيضاً في الجزء الثاني (الرحلة الأصعب.. سيرة ذاتية) ص37:
( يظل الشعر هو الرد الأدبي الأسرع على الأحداث والتحديات، ذلك أنه بطبيعته لغة الانفعال والاشتعال العاطفي، من هنا فهو بالتالي أكثر تلقائية من أشكال التعبير الأدبية الأخرى..).
فبدأت تقود الجماهير وتنظم اللقاءات الشعبية في الأراضي المحتلة، وتعقد الندوات الشعرية.. فأحس العدو الصهيوني بخطورتها.. فيأتي وزير الحربية موشي دايان ل (بيت جالا) ويحذر وينذر رئيس بلديتها بألا يكرر هذه اللقاءات الشعرية، ويطلبها موشي دايان لمقابلته بالقدس.. وتذهب إليه وتحاوره وتخرج مرفوعة الرأس ليشجعها على الذهاب إلى عبد الناصر بالقاهرة لتنقل إليه رغبتهم في الانسحاب من الضفة مقابل إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل..
وسريعاً ما تتداعى الأحداث وتبدأ المقاومة، وتنضم الآمال والأحلام السعيدة.. وتتعمق علاقتها بشخصيات يهودية مثقفة ترفض الاحتلال وتتعاطف مع العرب وتستمر تشدو.. وتشجع المنظمات الفدائية.. وترفض الإقامة في أي مدينة سوى مدينتها المفضلة (نابلس) حتى وافاها الأجل مساء الجمعة 12 ديسمبر 2003م عن 86 عاماً.
عندما يطلب منها أصدقاؤها مغادرة نابلس إلى مكان آخر أكثر أمناً كانت ترد عليهم شعراً.
كفاني أظل بحضنها
كفاني أموت على أرضها
وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشباً على أرضها
وأبعث زهرة
تعيث بها كف طفل نَمتْهُ بلادي
كفاني أظل بحضن بلادي
تراباً
وعشباً
وزهرة
هذا، وقد صدر لها مجموعة دواوين أولها (وحدي مع الأيام) والذي أهدته لروح شقيقها إبراهيم تبعه على التوالي (وجدتها) و (أعطنا حباً) و (أمام الباب المغلق) و (الليل والفرسان) و (على قمة الدنيا وحيداً).
نعت لنا وسائل الإعلام وفاتها في أحد مستشفيات نابلس يوم الجمعة 18101424هـ عن 86 عاماً..
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved